الهيمنة الثقافية بين الاستحالة والاحتمال

الهيمنة الثقافية بين الاستحالة والاحتمال

لقد انطلقت رسالة اليونسكو من استشعار العالم ويلات الحروب, واتخذت شعارها أن الحرب تبدأ في عقول البشر, فهل نجحت في صيانة السلام العالمي?

قرأت باهتمام بالغ مقال د.سليمان العسكري في حديث الشهر بمجلة (العربي) الصادرة في شهر سبتمبر 2005م. بعنوان (استحالة الهيمنة ثقافيًا), وانطلقت فكرته من مناسبة عودة الولايات المتحدة الأمريكية في 29 سبتمبر 2004 إلى عضوية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو), واستقبلت عودتها بالترحيب بعد أن هجرتها في 31 ديسمبر 1984. وقد استعرض الكاتب في مقاله الرصين الموثق مسيرة إنشاء اليونسكو منذ تأسيسها بموجب معاهدة سان فرانسسكو في 26 يونيو 1945 كرافد من روافد الأمم المتحدة مع وكالتها المتخصصة الأخرى, التي تولدت عن تلك المنظمة الأم في مجالات الصحة والعمل والزراعة والصناعة والطفولة.

إن الوعي بحكمة السلم والمسالمة, هو مسألة ثقافية بالضرورة. كذلك يرى الكاتب أن مشهد عودة الولايات المتحدة إلى حرم اليونسكو في العام الماضي, يؤكد لنا (أن ما يجوز في أمور السياسة العالمية لا يمكن أن يجوز في شئون الثقافة الإنسانية).

ويتابع دعمه لهذه الحكمة المطلقة بتفاؤله السخي بأن (السياسة متغيرة, أما الثقافة - كفعل إنساني - فهي دائمة التواصل في جوهر الحياة الإنسانية والنشاط البشري), ومن ثم (استحالة الهيمنة ثقافيًا), بينما نرى أن هناك من المتغيرات في عالم القطب الواحد, مما يؤدي إلى (احتمالية الهيمنة الثقافية), بل نكاد أن نصل إلى أن الهيمنة (واردة وحالة فعلاً).

السياسة والثقافة

وإذا كان هذا في فصل العلاقة التبادلية بين السياسة والثقافة, وغير ملحوظ في بعض فترات التاريخ أو في أمنيات بعض المتفائلين, لكن معظم فترات السعي البشري التاريخي, وبخاصة منذ اجتياح العولمة وثورة المعلوماتية والتكنولوجيا الاتصالية تشير إلى التداخل, بل والاندماج أحيانًا, بين السياسة والثقافة, إلى الدرجة التي تبيح لنا أن نصوغ فيها مقولة (الثقافة عملية سياسية في جوهرها, كما أن السياسة عملية ثقافية في حركتها). ولعل هذا النمط من العلاقة هو الأغلب والأعم حين تنزل القضايا المجردة من سمائها المطلق إلى أرض الواقع المعيش وتجسداته.

ولعلنا نستشهد ببعض أحداث مسيرة اليونسكو ذاتها لنتبين منها, كما أوردها الكاتب, أن الأهداف والمفاهيم والقيم الإنسانية التي تحملها النيات الحسنة, أو التقارير, أو المؤتمرات, تتناقض في واقع جدلي مع ما يحدث في ساحة هذه المنظمة الدولية ذاتها. ومن بين تلك الأحداث, قيادة الولايات المتحدة الأمريكية لحملة النقد المرير - وغير المبرر تمامًا - لأوضاع اليونسكو حين قويت أصوات العالم الثالث في سياسات المنظمة ومشروعاتها وتوجهاتها الفكرية. وقد صادف ذلك تولي قيادتها (أحمد مختار أمبو) من السنغال, وهو أول إفريقي يتولى مثل هذا الموقع الرفيع. ولعل تزايد نفوذ دول ذلك العالم كان من بين الأسباب في عدم التجديد له, وفيما صاحب ذلك من الانتقادات (باستفحال البيروقراطية وسوء التصرف المالي), مما أشار إليه الكاتب, وهنا تتدخل السياسة وتنسحب الولايات المتحدة من عضوية المنظمة, متخذة ذلك مبررًا كافيًا لمغادرتهاالغاضبة على هذه المؤسسة الدولية. وربما كان ذلك أول إجراء من نوعه في تاريخ المؤسسة فيما أتذكر.

كذلك يلتفت الكاتب إلى مشهد عودة الولايات المتحدة إلى حرم اليونسكو, مشترطة أن تكون عضوًا في مجلسها التنفيذي,, الذي يمثل أعلى سلطة فيها, دون أن تدخل في عملية الانتخاب التي تعتبر قاعدة أساسية من قواعد عضوية هذا المجلس, كذلك يذكرنا بأنه قبل عودتها (أبلغت إدارة اليونسكو باعتراضها على تقرير (تنوعنا الثقافي), والذي كان رئيس اللجنة المكلفة به من قبل الجمعية العامة للمنظمة (خافيير دي كويلار) السكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة المنظمة الأم. والقيمة البالغة لهذا التقرير تتمثل في دعوته إلى احترام الخصوصيات الثقافية لمختلف الشعوب, بل والحرص على تنميتها, مما يثري بروافدها الثقافة الإنسانية, ويدعم حوار الحضارات لا صراعها.

غير أن هذه الرؤية في احترام التنوع الثقافي لم تصادف هوى لدى قطب العولمة في سعيه إلى قولبة الفكر والثقافة في نمط موحد, يتيح له الهيمنة على قناعات وقيم شعوب العالم. ولم لا تكون (اليونسكو) إحدى آلياته في هذا التوجه, كما هو الشأن في سياسات صندوق النقد الدولي ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية, وغيرها من المؤسسات الدولية? وترى أن من حقها أن تمنن وتستكثر, فهي التي تدفع ما يقارب ربع ميزانية المنظمة.

ونشير أخيرًا إلى امتناع الولايات المتحدة أو معارضتها لكثير من قرارات الجمعية العمومية لليونسكو في شأن تحذير إسرائيل بالتوقف عن محاولاتها لتغيير الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني, وفي تحفظاتها على إدانة مجزرة الحرم الإبراهيمي من المقدسات الإسلامية, وفي المحافظة على حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. هذا إلى جانب محاولاتها في تهويد المناهج التعليمية, وإغلاق المدارس والجامعات لفترات طويلة. ولن أنسى كذلك تلك المؤتمرات العالمية للمرأة التي عقدتها الأمم المتحدة في المكسيك عام 1975, وفي كوبنهاجن 1980, وفي نيروبي 1984, والتي أوردت في ديباجتها القرار الخاص بالصهيونية ومساواتها بالعنصرية, واعتبارها من بين مختلف المعوقات لتحرير المرأة وتحسين أوضاعها واعتراضها دائمًا على مثل هذا القرار, كما امتنع عن التصويت عدد من الدول الأوربية. وفي أوائل التسعينيات - فيما أتذكر - بذلت الدولة القطب كل مساعيها, ترغيبًا وترهيبًا لدى معظم الدول النامية, لإدانة الجمعية العمومية للأمم المتحدة لقراراتها السابقة الخاصة بالارتباط بين الصهيونية والعنصرية, وإلغاء هذا النص في الوثائق الرسمية. وتمت الموافقة على ذلك بأغلبية ساحقة بما فيها موافقة الدول العربية!

العولمة وهيمنتها الثقافية

تلكم بعض المواقف والمشاهد, التي اشتبكت فيها السياسة مع الثقافة على الصعيد العالمي, وأذعنت القيم والمعاني الثقافية للتسلط السياسي, وقهره في ساحة اليونسكو, وفي أروقة المنظمة الأم في نيويورك. وقد تنوعت وتعددت أنواع الهيمنة السياسية مع انتشار قوى العولمة وثوراتها المعرفية والاتصالية. وتجلت في أقوى صورها بعد الأحداث المفجعة في 11 سبتمبر 2001, حين قامت العصابات الإرهابية بتدمير مبنى التجارة الدولي, وجزء من البنتاجون في نيويورك وواشنطن. وجاء اتهام الشرق الأوسط والإسلام باعتبارهما مصادر في توليد العنف والإرهاب.

وقد تذرعت القوى المهيمنة بتلك المبررات لمحاربة الإرهاب والتدخل في شئون دول المنطقة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا, فيما عرف بخريطة الشرق الأوسط الكبير, والتي بدأت بمبادرة أمريكية وانتهت بمباركة مجموعة الثمانية العظام.

ومما يستحق الالتفات أنه في مختلف صور تلك المبادرة تأتي قضية (إصلاح التعليم) كمحور رئيسي من محاورها إلى جانب دعاوى ضرورة التحول الديمقراطي, ومحاربة الإرهاب, والالتزام بحقوق الإنسان, وقضايا تمكين المرأة, وهي قضايا حق يراد بها باطل حين ننبش وراء دوافعها الحقيقة.

ولما كان التعليم وأنظمته وتوجهاته من بين أهم آليات التكوين الثقافي إلى جانب الأسرة ووسائط الإعلام الفضائية وأجهزة الثقافة (في إطارها الفني التنظيمي), فسوف نقتصر على أن نعرض بإيجاز ما جرى في مياه التعليم من تحولات يتجلى في ظاهرها ومستورها مساعي الهيمنة السياسية في مقاصدها وعوائدها, مما ينذر بمخاطر تلك التحولات السياسية على الثقافة العربية بـ(المفهوم الأشمل لعالم الثقافة بقيمه ومعانيه ومضامينه وولاءاته في إطار أسلوب الحياة والعيش المشترك). ومع التباينات الفرعية أو الثانوية في صور هذا التأثير بين الأقطار العربية, إلا أن الرؤية العامة في التوجه العالمي, تكاد تكون متماثلة بدت آياتها تظهر في المدى القريب, وتنذر بالتغلغل الأعمق على المدى المتوسط والبعيد.

ويمكننا أن نشير هنا إلى أهم المعالم الرئيسية للتدخل العولمي في قضايا التعليم التي تعيد تشكيل دوره في الثقافة الوطنية:

1- تضمين اتفاقية الشرق الأوسط الكبير, إعادة تكوين دول منطقة الشرق الأوسط الكبير, بحيث تندرج فيه إلى جانب الدول الخليجية ودول المشرق العربي, إسرائيل وتركيا وإيران, مع استبعاد المغرب العربي, والسودان والصومال وجيبوتي, وبذلك تنفك روابط العروة الوثقى, لغة وتاريخًا وثقافة بين دول الجامعة العربية, ومعها كل المفهومات والقيم المرتبطة بالأمة العربية والقومية العربية, بحيث تضطرب معها ثقافات دول ذات لغة مختلفة ومصالح مغايرة.

2- رصد صندوق مالي خاص لتنفيذ الإصلاحات التعليمية المطلوبة, ووضع برامج لخطوات التنفيذ بالعمل على إنشاء مدارس خاصة أمريكية, وتنفيذ برامج تدريبية من خلال الجامعات الأمريكية لما يسمى بتدريب القادة, وإرسال مجموعات مختارة من قيادات التعليم, وأساتذة الجامعات والصحفيين, والجمعيات الأهلية, واللجان النسائية, في زيارات للتعرف على ما يجرى في الولايات المتحدة لاتخاذه نموذجًا في التطوير الثقافي والتعليمي والإداري. وعلى حد تعبير كارين هيوز وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية, الموفدة لتحسين صورة أمريكا في العالم, فإن برامج تبادل الوفود بين العالم العربي والولايات المتحدة يشجع على التعرف على طبيعة التعددية في المجتمع الأمريكي, وكيف أن غالبية الأمريكيين متدينون ويحترمون قيم العائلة). وهناك في كثير من الأقطار العربية حاليًا (هوجة) من زخم برامج التدريب والتبادل التي تمول من صندوق الإصلاح التعليمي, أو من برامج المعونة الأمريكية, أو الاتحاد الأوربي.

3 - اشتراط الدول المانحة للمعونات أن يكون لها دور في رسم السياسات التعليمية, كما صرح بذلك أحد الوزراء. وتتركز مطالبها الأمريكية بالذات, في تطور مناهج اللغة العربية, والتربية الدينية, والتربية القومية, والتاريخ, بحيث (تطهّر هذه المقررات) من كل ما يسيء إلى الحضارة الغربية, وإلى كل ما تولده من تربية مظاهر العنف المؤدي إلى الإرهاب, تحت شعار تحديث المناهج.

4 - خفوت صوت تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية من معظم الخطابات والسياسات الرسمية والمواعظ الأجنبية, وتاهت مسئولية التعليم في تكوين ثقافة وطنية وقومية للتماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية والوشائج الثقافية بين أقطار الوطن العربي. ولقد عدت هذه الأهداف لدى كثير من المتعولمين العرب فكرًا قديمًا تجاوزه الزمن ووصم أنصاره بالتجمد واعتبرهم من أنصار المدرسة الشمولية!! وفي مكان هذه القيم التربوية الثقافية أخذت تطغى معالم التركيز على سوق العمل وثقافة السوق واحتياجاته وقدراته التنافسية.

5 - ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي وخصخصة القطاع العام والتركيز على آليات السوق العالمي تقلص دور الدولة التعليمي واستمرت الدولة في تراجعها في تراجعها عن مسئولياتها في كفالة حق التعليم للجميع, وتفاقم دور القطاع الخاص في نمو مطرد إلى درجة تضاعف نموه منذ التسعينيات في التعليم العام. ولما كانت هذه الأنماط تتقاضى مصروفات باهظة بصورة عامة بدأ التعليم يدخل في نطاق السلع التي تباع وتشترى وانقسم التعليم إلى تكوين فسطاطين حكومي وخاص, وشاعت مقولة أن كل ما هو خاص أفضل وأكثر كفاءة مما هو حكومي.

6 - من المعلوم أن الفسطاط الحكومي مجاني تدريسه باللغة العربية, بينما المدارس الخاصة إلى جانب اهتمامها باللغة الأجنبية, فإنها تدرس المناهج العلمية والرياضيات والتكنولوجيا باللغة الأجنبية, وكأنما اللغة العربية قد قصرت عن تعليمها! هذا إلى جانب تخصص بعضها في إعداد طلابها لامتحان الثانوية العامة الأجنبية سواء ما عرف باسم شهادة الثانوية الأمريكية (هاي سكول) أو الشهادة البريطانية IGCSE وكل هذا إعداد وتوجه نحو الخارج في أغلبه, ومغاير لتوجهات التعليم الوطني.

7 - اتساع شهية الربح والتسليع للتعلم وانتشار تأسيس الجامعات والمعاهد العليا والأكاديميات الخاصة بدعوى الاستجابة للطلب المتزايد على التعليم العالي وتوفير كفاءات عالية توائم مطالب سوق العمل. وفي معظمها يتم التعليم فيه بلغة أجنبية, تغلب فيها اللغة الإنجليزية, كما أنها تتقاضى مصروفات باهظة لا تتحملها إلا شريحة محدودة جدًا في معظم الأقطار العربية. ونحن هنا أمام فسطاطين آخرين: حكومي وخاص. وحتى مؤسسات الفسطاط الحكومي أرادت أن تنافس الخاص, فأدخلت فيها شعبًا وأقسامًا باللغة الأجنبية وبمصروفات. وتحظى هذه الشعب بمكانة متميزة وتقدير أعلى لدى كل من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس.

هجوم الجامعات الأجنبية

وفي استطراد لمتابعة التوجه نحو التحديث والتغريب وسوق العمل الخارجي يزداد اقتحام الجامعات الأجنبية ساحة التعليم العالي. وعلى حد علمي لا يخلو قطر عربي من وجود جامعة أجنبية أنشئت منذ أواخر القرن الماضي, أو أنه بصدد إنشاء جامعة أجنبية في القريب العاجل. ويجري هذا بدعوى إيجاد تنافس بينها وبين الجامعات الوطنية, ولتعليم المعارف العلمية والتكنولوجية الجديدة والمتجددة والاستفادة من الخبرات الأجنبية. وفي مصر على سبيل المثال دخلت إلى ساحة التعليم الجامعي إلى جانب الجامعة الأمريكية القديمة جامعات فرنسية وبريطانية وألمانية وكندية, وقريبًا روسية, والباب لايزال مفتوحًا ومرحبًا بها.

وتكفي الإشارة هنا إلى ازدهار الجامعات الأجنبية في دولة قطر فيما عرف بالمدينة التعليمية كما استطعت التعرف عليها من شبكة الإنترنت. وتوجد فيها فروع لجامعات متعددة, منها جامعة مدلسكس البريطانية, وجامعة جنوبي كوينزلاند الأسترالية, ومن الجامعات الأمريكية, فرع لكلية الطب من جامعة كورنل, وفروع جورج تاون, وفرجينيا, وأخيرًا معهد كارنيجي ميلون الذي يتصدر مؤسسات التعليم العلمي والتكنولوجي في الولايات المتحدة والذي ينتمي إليه أحمد زويل حامل جائزة نوبل في العلوم الكيميائية.

والواقع أن كثافة الجامعات وغيرها من المؤسسات التعليمية في قطر تحتاج إلى دراسة تفصيلية, أرجو أن يقوم بإعدادها أحد أساتذة كليات التربية في جامعة قطر وينشرها في مجلة (العربي) للتعرف على خريطتها في الواقع القطري.

والحاصل أن كل الجامعات الأجنبية في الأقطار العربية مفتوحة لكل الطلاب من مختلف الجنسيات, وليست مقتصرة على الطلاب العرب, والتعليم فيها بطبيعة الحال باللغة الأجنبية, ويتقاضى مصروفات باهظة أيضًا, تصل في معهد كارنيجي إلى حوالي 35000 دولار في السنة.

وقد نما إلى علمي أخيرًا أن إحدى الدول العربية قد غيرت تعليم من يعدون لمهنة التدريس في مدارس التعليم العام من العربية إلى الإنجليزية, في جميع مواد التخصص والتربية والمناهج وطرق التدريس. ويتساءل المرء: هل ستتحول بالضرورة لغة التعليم فيما قبل الجامعي إلى اللغة الإنجليزية بالضرورة في المستقبل القريب, وهكذا يصبح التحديث مرادفا للتغريب.. عجبي!

دوافع الجامعات الأجنبية

ويتساءل المرء عن سبب توافد هذه الجامعات على الأقطار العربية, وليس من المرجح أن تكون مدفوعة بعامل العائد المادي المباشر فحسب. وأغلب الظن أن إنشاءها مرتبط بخدمة استثماراتها وفروع شركاتها المتعدية الجنسية في المنطقة العربية والآسيوية والإفريقية. هدفها إعداد مواطنين من (أهل البلاد), تؤهلهم تأهيلاً جيدًا بلغة وقيم ومهارات استثماراتها وشركاتها, أو للقيام بدورهم وكلاء وسماسرة لمصالحها التجارية. وهي في هذا التأهيل تتحمل تكلفة أقل مما تتحمله في جامعات مواطنها الأصلية, كما أنها تلتقي مع هواجس الدول العربية لما يمكن أن يحدث من تغيرات ثقافية لأبنائها وبناتها عندما يبعثون إلى الخارج ويقيمون هناك. وتشير أهداف معظم هذه الجامعات في نشراتها الرسمية إلى العمل على تكوين (قيادات المستقبل) وتهيئتهم للتعامل مع السوق العالمية ومرونتها في التفاوض والتنافس. كما أنه يمكنها في الوقت ذاته الاستعانة بهؤلاء الخريجين من خلال إغرائهم للهجرة إلى بلادها الأصلية. ويعزى ذلك إلى ما قد يؤدي إليه العامل الديمجرافي في تلك الدول من تناقص معدلات النمو الطبيعي للسكان إلى ما بين صفر و 1.5% مما قد لا يوفر لها في المستقبل نموًا كافيًا لشريحة الشباب في سن التعلم الجامعي. وقبل هذا وبعده فإنه فضلاً عن المصالح الاقتصادية, سوف تقوم هذه الجامعات بإعداد قيادات المستقبل ممن يعتمد عليهم في ترسيخ علاقات سياسية وثقافية بين خريجي جامعاتهم الأجنبية وبين موانع اتخاذ القرارات والسياسات في دولنا. والخلاصة أن نظام تعليمنا في الدول العربية, سوف تطغى عليه القدرات المالية في شراء فرصه, وهو تعليم يتجه نحو الخارج حتى في غلبة تخصصاته من إدارة الأعمال, والمعلوماتية, والحاسوب والتكنولوجيا وغيرها مما يتطلبه السوق العالمي.

تهديد الثقافة العربية

ومن ثم يمكن القول إننا إزاء موجة تعليمية عارمة دافقة بتعليم الميسورين من طلابها منذ رياض الأطفال حتى الجامعات باللغة الأجنبية والتي يعتقد في تميّز ثقافتها وفرص عملها في المستقبل, ويستهدف في نهاية المطاف تكوين الفرد السوقي, مع عدم الاهتمام بالمواطن المصري العربي, أو الكويتي أو الأردني أو غيرهم بتعليم المواطنة وثقافتها في صيغها العربية, وأصبح التوجه إلى الخارج وثقافة السوق وفرصها واحتياجاتها هو مصدر الحكم على ملاءمة المنظومة التعليمية والطلب عليها, وتكاد تتلاشى مهمة التعليم في تكوين ثقافة وطنية وعربية تحقق قدرًا ضروريًا من التماسك الاجتماعي مع التنوع - لا التعدد - الخلاق لأبناء الوطن وأبناء الأمة.

ونود أن نؤكد هنا بالذات مخاطر التعليم باللغة الأجنبية - وهو غير مجرد تعليم لغة أجنبية وإتقانها كلغة - مما يعني أن خريجي المدارس والمعاهد التي تدرس بلغة منشئها سوف ينتهي بهم المآل كما قال طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر الصادر عام 1938): (إن الشبان الذين يتخرجون في هذه المعاهد الأجنبية, مهما كان حبهم لمصر, وإيثارهم لها فإنهم يفكرون على نحو يخالف النحو الذي يفكر عليه الذين يتخرجون في المعاهد المصرية) وهذا أمر طبيعي حين ندرك أن اللغة كما يقول هيدجر: (إن لغتي هي مسكني, هي موطني) وتقول أستاذة الفلسفة د.يمنى الخولي: (لقد أثبتت الفلسفة التحليلية المعاصرة أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل كصيحات وإشارات الحيوان, ولا هي وعاء للمعنى كما تكون الأقفاص أو الأكياس وعاء للفاكهة. إن اللغة لحمة في نسيج التفكير, وخامة من خامات الوعي, وأهم العوامل في تشكيل الشخصية والهوية القومية) ويقيني أن ما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة.

ولن أتردد أخيرًا في التأكيد بأنني في الوقت الذي أحاول إبراز ما يتهدد الثقافة العربية من سيطرة العولمة وعالم المال والبزنس وتوجهات الثقافة السوقية, فإني أؤكد في الوقت ذاته ضرورة الإفادة من الحضارات الغربية والشرقية في تجديد ثقافتنا ومداومة ازدهارها بقاء ونماء.

ولعلي أستعين بالمثل الصيني مع التحوير اللازم هنا: (فليكن كل ما هو عالمي في خدمة ما هو عربي) وأردد كذلك مقولة فيلسوفنا وفقيهنا العظيم ابن رشد حين يقرر: (ينبغي ألا نستحي من استحسان الحق, واقتناء الحق, من أين أتى, وإن أتى من الأجناس القاصية عنا, والأمم المتباينة لنا, فإنه لا شيء أولى بطلب الحق من الحق) لكن هذه الاستعانة مشروطة بأن نسعى نحن إليها, وفي الوقت المناسب, وبالأسلوب المناسب, وفي الموقع المناسب.

أما بعد:

فليأذن لي الصديق الجليل د.سليمان العسكري أن أختلف مع اقتناعه باستحالة الهيمنة ثقافيا, بل إني لأخشى من هذه السحب القاتمة التي أشرت إليها وما تحمله من مفاهيم وممارسات منفصلة عن الزمان والمكان والسياق كالعلم والتكنولوجيا, والسلام العالي, والمهارات المعرفية, والتنافس, وآليات السوق ولغته, وما تؤدي إليه من تشويش تفكيرنا في لغتنا وثقافتنا, ومن تفكيك أواصر المجتمع ولحمته, ومن ثم لا يمكن أن نطمئن إلى تلك الاستحالة من الهيمنة ثقافية. وعلينا أن ندق أجراس الخطر دقًا متواصلاً عنيفًا.

وأخيرًا أرجو أن أكون مخطئًا, ومن حقي أن أخطئ وأن أنحاز, وأن أعلن على صفحات (العربي) وجهة نظر مغايرة.

والله من وراء القصد.

 

حامد عمار

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات