العجز عن التفاعل

العجز عن التفاعل

العجز عن التفاعل مشكلة ضخمة, نحن لا نعامل غيرنا من الناس معاملة بشر, الغالب علينا أن نستخدمهم لا أن نلتقي بهم أو أن نحاورهم, أو أن نستنبط الأفكار والتجارب من خلال هذا الالتقاء الذي يحتاج إلى الصبر وبذل الجهد والتفرغ.

هذا الجهد المستمر من أجل الغوص في عقول الآخرين هو ما نعنيه بالصلة. الصلة عمل بطيء مستمر يقبل التحسين والتخلي عن جزء من أنفسنا. هذا التخلي الضروري ليس من السهل كسبه الآن. العلاقات تحتاج إلى تدريب وتصحيح, وتحتاج إلى حذف وتضحية. لقاؤنا مع الناس لقاء سطحي يشوبه قدر غير قليل من الانفصال, لأننا لا نحذف, ولا ننظر إلى اللقاء باعتباره تجربة. مفهوم التجربة ليس حميمًا إلينا, ولذلك نبادر إلى اتهام النص والإنسان الذي يختلف عنا اختلافًا واضحًا. نحن نرفض بعض الناس وبعض النصوص التي تحتاج إلى جهد وحذف وتضحية من جانبنا. بعض الناس نألفهم في يسر لأنهم يحببون إلينا أنفسنا. وبعض الناس نألفهم بعد مشقة وصبر.

نحن لا ننمي علاقاتنا, بل نحن مشغولون في الغالب بفرض آرائنا وقيمنا ومصالحنا الخاصة, من ثم كانت حياتنا قصيرة ضئيلة الحظ من التواصل العميق - التواصل العميق هو أن تقبل حين ترفض, وأن تشارك حين تتحكم. إننا لا نعول كثيرًا على تفتح إمكاناتنا من خلال الصلة والحوار. الناس غايات لا مجرد أدوات تسخّر... حظنا الآن من قراءة الناس ليس واضحًا, ومتعتنا بهم تحتاج إلى تزكية, التزكية هي السؤال والحوار والتعرف وكسب مزيد من الخبرة والإنسانية. الغريب أننا نستهلك الناس أكثر مما نستمتع بهم. هكذا نفعل أيضًا مع النصوص. نحن بارعون في إقامة الحواجز, نتعلم السيطرة والاستفادة الضيقة أكثر مما نتعلم المتعة الحوارية الكاشفة. شغلتنا أمور التصويب والتخطئة أكثر مما ينبغي. التصويب والتخطئة عمل لا يخلو من قسوة وتشويه وتحكم, يحرمنا من التأمل الحر.

تعليق النقد لا يقل أهمية في الحياة عن النقد, وما نسميه بيان المحاسن والمساوئ. السيادة الشخصية غائرة في تكوين كثير من الناس, ولذلك ينتقدون ويفرحون بالنقد, ويعاملون غيرهم معاملة الامتلاك لا التفهم.

السيادة تتطلب منا التخلي عن الفهم, والتخلي عن المعرفة الصامتة. مثل السيادة كمثل الأعباء الدراسية الجمة - السيادة تقتل الإحساس بالحرية, وتشرع لتقود تقاليد وأعرافًا معينة تذكرنا بالتعليقات المفصلة التي لا تزيدنا رغبة في النصوص دائمًا. الناس يتحدثون عن الناس أكثر مما يقرأونهم, ويتحدثون عن الكتب والنصوص أكثر مما يقرأونها. الناس يتعلقون بنقد الناس أكثر مما يتعلقون بهم. ما نقوله عن المجتمع والتفاعلات يصرفنا أحيانًا عنها - فضلاً عن أننا نهتم بالنقد أكثر مما يكربنا أمر التفاعلات. النقد الكثير يشوش أمر الحياة, ويضاعف الخسارة, ويحول بيننا وبين دفعة حرة, ورغبة ومتعة وشوق شخصي. قد تكون ممارسة التفاعلات خيرًا من صناعة النظرية والنقد, لكن هذه الممارسة تحتاج الى مُوجه يتلطف في الإغراء, وربما يفيدنا التلويح والإيماء أكثر مما نجني من براعة الاستدلال والإقناع, والقول الذي لا ينقطع.

عن التجارب والمبادئ

لكن بعض الناس يندفعون وراء مطلب الإقناع, يريدون أن يأسرونا إليهم. الكاتب الآن مهمته أن يقنعنا. أصبح الإقناع مطلبًا أكثر سعة مما نتصور أول وهلة, من أجل الإقناع - الذي هو ضرب من التسلط - تغيب بعض العلاقات, ونهتم بالنظرية والنقد والمحاجة. نحن الآن في قبضة الكتابة والإقناع لا قبضة الصحبة والصلة والحوار. الحوار تجربة تتعرض للذبول من خلال كثرة الإلحاح على المبادئ السابقة التي ندافع عنها في إصرار. نحن نعنى في حياتنا الدراسية وكتاباتنا العامة بالمبادئ, وننسى في أثناء ذلك التعرض للتجارب. نحن نعطي لطائفة من المبادئ سلطة كبيرة. هنا تذوب التجربة أو تهمل. إن التدريب على التجربة مختلف عن الدفاع عن المبادئ - إننا حقًا لا نستغني عن طائفة من المبادئ, لكننا كثيرًا ما نهمل شأن التجارب. التجارب, وهي اسم آخر للتفاعلات, هي ثروتنا ومتعتنا - من خلال التجارب نتعلم شيئًا عن ضيق فكرة المبادئ. لكن التعلم يحتفي منذ اللحظة الأولى بالمبادئ واستقرارها, من ثم تضيع هيبة التجربة, وحيوية الإحساس بالمبادئ.

إن المبادئ العادية من التجارب عناء وتكليف, وقد تعودنا أن نجعل للمبادئ سطوة نسميها النقد والأخلاق والنظرية. النظرية أشبه بحرفة, وكثيرًا ما تترفع أو تسوق التجربة الشخصية. نحن نتعلم التواصل والقراءة لنكون أحرارًا أقوياء. والحرية القوية مناطها رفع العوائق عن التجربة الحوارية, وليس مناطها تلقين بعض المبادئ. نحن نقرأ آراء كثيرة, ومذاهب متنوعة, ونفضل بعض التوجهات, وننجح ونؤلف ونكتب ونعلم ونتعلم لكننا لا نزيد ثروتنا من التجارب الشخصية, ولا نزيد قدرتنا على لقاء الناس وتفهمهم, ولا نقلل غربتنا عن أنفسنا وعنهم. نحن لا نجد أنفسنا في زحام التعليقات والمواد الدراسية. يجب أن نقلق, وأن نسأل وأن نتحاور, لقد طغت أمور التدفق الإعلامي, وتدفق الكتابات علينا, وأصبحنا نجد في أنفسنا شيئًا من الجفوة أو المسافة. مرد ذلك أن هذا التدفق طغى على حقوق التجربة, والممارسة الشخصية. إن أجهزة كثيرة أخذت على نفسها مهمة التدخل في نفوسنا حتى نمارس الحياة ممارسة خارجية, ونعمق انفصالنا. التدفق الإعلامي المستمر مغزاه أن سلطة ما تستطيع ان تعدل ما أريده, ما أجده في نفسي, ما أقوله, ما أحبه. من هنا كانت مهمة الكتابة صعبة, فهناك إصرار على التدخل في الحرية الشخصية. الكتابة نفسها تطمس التجربة. كل شيء الآن يشغلك عن نفسك. تعليقات, وكتابات وتوجيهات لا تنتهي, ومعارك أيضًا. يحارب الآن من يصر على أن يتجنب الحرب, المبادئ نفسها لا تؤخذ مأخذ التجارب, المبادئ تجارب أريد لها الذيوع والعموم. لكننا ننسى هذه الملاحظة. نريد أن نجعل حياتنا تجارب لا عادات خاملة أو أساليب متبعة أو مبادئ ثابتة.

المشكلة إذن واضحة: كيف نزكي اليقظة والتفتح والمبالاة - هذا ما يهمنا. لن تغني أية نظرية عن العلاقة الشخصية المتوترة التي نسميها الاكتراث. إن اجتياز الصعب يحتاج إلى إحساس شخصي, ومغامرة وتجربة. إن معارف نظرية كثيرة تتداول في بيئاتنا لكنها لا تترك أثرًا عميقًا. هناك جدل ونقائض, وقيل وقال, وقواعد تصرف عن التجارب. إذا كنا نحفل بالمبادئ فمن الحق علينا أن نمنحها في شكل تجارب وحوار. إننا نحمي أنفسنا من بعض التجارب بتجارب أخرى, حياة المبادئ - ببساطة - تجارب. إننا أيضًا نحول التجارب إلى مبادئ دفاعًا عنها, لكن هذا لا يغني عن أن نعود بين وقت وآخر, من المبادئ إلى التجارب أو الفاعلية الشخصية.

التدفق المعاصر يعدو على هذه الفاعلية, ويخلق طائفة من الأعراف قد نتحيز لها وقد نسميها تجارب. أصبح للنضج النفسي قالبه وأصبح الاتصال قالبًا وأصبحت التجربة غريبة في أكداس المعلومات. صحيح أننا نحتاج دائمًا إلى نظام, لكننا نحتاج أيضًا إلى أن نجادل هذا النظام بواسطة التجربة. نحن نعيش كثيرًا في نطاق مقررات ونظريات واعتقادات لإنطاق تجارب. التجارب الأدبية الغنية شيء, وفقر الحياة وقوالبها شيء ثانٍ, كيف نعبر هذه المسافة?, كيف ندخل ونخرج? لكنك تدخل أولاً.

محاورة النظرية

إن نظرية تظهر ثم تختفي, ونظامًا يعلو ثم يهبط. المهم هو أن نعامل ما نقرأ باعتباره تجربة لا خلود لها ولا حصانة مستفزة. النظريات زائلة وقوة الحياة باقية, قوة الحوافز القلقة المتوجسة الراغبة في مزيد من التجارب والاقتراحات. بعض الناس يفزعون من لغة جديدة وتجارب جديدة لكنهم ينغمسون فيها من حيث لا يشعرون. لكن ما نعانيه ليس هو دائمًا ما ندرسه. لا بد من أن نعترف - من حيث المبدأ - بمشروعية التغيير الذي أصاب المسكن والمأكل والمشرب والنواحي البصرية والاستعراض واللغة. لا معنى للقياس المستمر واصطناع الرفض وعنف العظة - علينا أن نقبل التجربة أولاً أن نحاورها لا أن نسبها ونهجوها. علينا أن نوسع الإطار لا أن نضّيقه. علينا أن نؤمن بالفهم لا الإملاء, علينا أن نقلل من شأن كل تفكير يحذف نشاط الآخرين أو يخضعه لهوى أو نزوة, أو يحيله إلى نص.

إن النظرية المعاصرة حول النص تخيل إلينا أنها لا تهتم بمنفعة أو غاية عملية. النظرية المعاصرة هي ممارسة الغرق بفاعلية واقتدار, وإغواء غريب لعزل فكرة العالم, وعزل مسئولية العلم المنطقية عن احترام الحقيقة. النظرية المعاصرة سياسة وهوى له صدى في تناول المسائل الاجتماعية والشخصية. النظرية المعاصرة تغري بتناول البشر بوصفهم دقائق بلاغية, ومحسنات بديعية, أو زخارف لغوية. هناك دائمًا اعتبارات برجماتية عملية, وتوجيه غير مباشر لشئون الاتصال والحوار, والحذف والتفاعل.

إن النظرية المعاصرة تشجع تداخلات واسعة يصعب معها أن تعين من يحركونها, فإذا عرفت لا تستطيع أن تقاومها. بعبارة أخرى, فإن صناعة التفاعلات الآن بالغة التعقيد, وعميقة التأثير. وفيما عدا هذه التفاعلات تحيا بعض الهوامش والاعتبارات المحلية التي تحاول العكوف على نفسها دون جدوى, أو تحاول الانقباض وتحتمل في ذلك رهقًا. المجتمع المعاصر يحيا أكثر من حياة. في الداخل تتكون فئات مختلفة تنظر إلى غيرها حذرة, ويستولي عليها شعور بالعداء الكامن. المجتمع إذن طائفة من الأجزاء التي لا تتفاعل فيما بينها تفاعلاً ملحوظًا قويًا. لكن المجتمع يحتاج إلى أن ينفذ بعضه في بعض, وأن ينفتح بعضه على بعض. المجتمع الآن طائفة من الأجزاء المغلقة على نفسها, فإذا تعاملت مع بعض الآخرين كان ذلك التعامل نفعيًا ضيقًا.

حوار المركز والأطراف

بطلت الدعوة الحية, وعاشت مجموعات متجاورة. هذه قضية واضحة. والقضية الثانية هي الحياة في وسط التفاعلات التي يشرف عليها الأقوياء, ويصبغونها بصبغتهم. مواجهة هذه القوى تحتاج إلى مرونة غير عادية تكتسب من خلال تغيير الغايات الدراسية, وتغيير لبعض المفهومات, وعملية الدخول والخروج المستمرة. المركب العام - كما قلنا - شديد التعقيد, ولا يمكن إزعاجه بطريقة استفزازية. وليس من اليسير النفاذ في بعض ثناياه, وليس من الممكن أن نتخلى عن بعض المقاومة - لكنّ المقاومة ليست تامة ولا صاخبة, المقاومة تحت الماء, والمقاومة مؤقتة, والمقاومة تلتبس ببعض التوافق. بعبارة أخرى السياق متموج, والبحر الهائج تلعب فوقه صنو من الطير, أو الحركة في أكثر من اتجاه. الحياة إذن ذات نظام متحرك, وذات فاعلية تعبر الحدود. ولا يمكن لأي نظام أن يعيش في عزلة, فالآثار الخارجية لا تنقطع, والرياح تهب من الشمال والجنوب, والحياة الجديدة نظام يقوم على التشعب ووفرة التفسيرات وحركة المركز نحو الأطراف, ومحاولات الأطراف التي تريد لنفسها شيئًا من الحياة, الأطراف قد يسمع صوتها, لكن الشد والجذب بين الأطراف والمركز لا تهيمن عليه قوى متنوعة تمامًا. هناك بعض التنوع في داخل هيمنة, لكن كل القوى المتعاونة والمتنافسة معًا على الهيمنة متفقة فيما بينها على ألا يزعجها أحد الأطراف. هذا زمن مستقر متحرك متنوع موحد, حر مقيد, يتجه نحو الخارج وينقبض أحيانًا نحو الداخل - مهمة الأطراف هي المشاركة في نظام التشويش, المشاركة المحدودة, لك حق المناوشات التي لا تقلب حركة المركز, ولا تجترئ على الأوليات, تقتصر المناوشات هنا على نطاق شبه هامشي. من حق الهوامش أن تعبر عن بعض الانزعاج الذي يشبه تحريك النار من أعلى. وكأنما الحياة حرية في إطار قدرية مرسومة. لك أن تتثبت بقوة جزئية أو اعتراضات طارئة, فإذا جاوزت هذا المدى, نشأ الإرهاب, فالنظام الجديد يفترض أنه يستوعب الحرية وانفساح المدى وتعقد الرؤية أو الحساب, وتغيير هذا التعقيد أيضًا. هذا علم جديد يعترف بنشاط محلي في إطار واسع متحرك يغير نفسه, ويغير مفهوم الأطراف في وقت واحد. هناك تداخلات أو تدخلات كثيرة ذكية في حياتنا العقلية والنفسية, في آرائنا عن أنفسنا وعن الناس. هناك إصرار قوي على توجيه شخصياتنا ومواقفنا, وأساليبنا في الفهم والسلوك. الإذاعات الآن والقنوات الفضائية لا تمل من هذا الجهد ولا تتأنى. هناك قوى كبرى تساند هذا التدخل, قوى لا تعتمد على الكتاب اعتمادها على وسائل الإعلام, الناس لا يقتنعون بحرية الناس بل يتدخلون في أعماقهم, ويقربون إليهم ما يشاءون, ويستعينون بالأفكار على بث شيء من الفرقة والجدل والحيرة والريب. أصبحت كلمة الانتماء نفسها موضوعًا للنقاش. فكرة السماوات المفتوحة تقتحم كل شيء.

اختلت موازين غير قليلة, وحوربت الضوابط الدقيقة. لقد حدث التباس هائل بين أفكار عظيمة ومصالح مهيمنة. إن العقول الآن تشترى. المهم أن التيارات المعاصرة تريد أن تجعل الولاء كله لما تسميه العصر وأفكاره وحياته. كلمة الثوابت الآن تلقى كثيرًا من المعارضة الحاذقة, أصبحت صناعة أفكار عابرة للمسافات فنًا معقدًا لا يكل, يجري باستمرار انتزاع الفرد من بيئته واعتقاداته, وأساليبه في المحافظة والتقدير. هناك فرقة غريبة في داخل النفوس. هناك دوافع عدائية, وتبريرات لا تنتهي, ومجازات وكنايات لا تتوقف, يراد منها تكوين مسافة بين الفرد ونفسه, هناك مجهودات ضخمة تبذل لبث الانفصال باسم الدفاع عن الحقائق, هناك انتهاك مستمر, وحديث لا ينقطع. هناك حرب خفية للقوى الذاتية, والجهود الصابرة التي تشحذ علاقاتنا في سبيل النماء الذاتي. إن الثقافة الآن ليست خالصة نقية, الثقافة موجهة. الثقافة عمل دءوب من أعمال السيطرة المحسوسة, وغير المحسوسة نحن نتوهم أننا نصنع أنفسنا, أكبر الظن أن الالتباس والتناقض والمفارقة وظائف توجيهية.

 

مصطفى عبده ناصف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات