فضل السلف على الخلف نزعة تقديس الماضي

فضل السلف على الخلف نزعة تقديس الماضي

سيطرت نزعة تقديس الماضي على الفكر والإبداع العربيين, واقترنت في تصاعدها بالعداء للفكر العقلاني والإبداع الحداثي.

كان الحفاظ على التقاليد الأدبية, في معناها الجامد, هو الوجه الآخر من نزعة تقديس الماضي على المستوى الفكري, كانت النزعة الأخيرة ترد الفضل دائمًا إلى السلف, وتنفيه عن الخلف الذين ظلوا, دائمًا, في مرتبة أدنى من منظور هذه النزعة, التي رفعت من شأن القديم في الإبداع والفكر بالقياس إلى الحديث المتأخر في الوجود في المجالين. ولذلك كان انكسار الفكر العقلاني, في مجالات التأويل الديني والنظر الفلسفي, الوجه الآخر من انكسار تيارات التجديد التي حاولت التمرّد على ما أسماه أحمد أمين (جناية الأدب الجاهلي). وكان يقصد بذلك هيمنة نزعة التقليد على الشعر العربي, والنظر إلى العصر الجاهلي بوصفه المثال الذي ينبغي احتذاؤه وعدم الخروج عليه, وهو الأمر الذي انقلب إلى نزعة تقليد جامدة, هيمنت على الأدب العربي, خصوصًا الشعر الذي ظل ديوان العرب الجامع لمفاخرها ومآثرها.

وقد اقترن الفكر العقلاني بالمعتزلة والفلاسفة الذين أكّدوا مفهوم التقدم الإنساني, وأثبتوا الحرية الإنسانية, التي تجعل من الكائن مختارًا لأفعاله, قادرًا على صنع مصيره, وتصوّروا التاريخ بوصفه صعودًا متتابعًا, يضيف فيه اللاحق إلى السابق كمًا وكيفًا. ولم يكن هذا الفكر بعيدًا عن حركات التجديد الأدبي. بل كان موازيًا لها, وبخاصة في منحاها المتمرّد الذي وصل إلى ذروته في شعر أبي تمام الذي خرج على (عمود الشعر العربي), وكان محاولة لتأسيس أفق إبداعي جديد, يتطلع إلى المستقبل, منطلقًا من الحاضر المتحول, وذلك في منزع صاغه أبو تمام في بيته الذي يقول:

فنفسك, قط, أصلحها ودعني من قديم أب


وقد كان الأب القديم الواجب اتّباعه في الأدب بعامة, والشعر بخاصة, يقابل الفكر القديم الواجب تقليده, فيما يؤكد علاقة التبعية التي مالت بالخلف إلى تقليد السلف الذين ظل الفضل لهم.

هزيمة الفكر العقلي

وكانت البداية الدرامية لتصاعد نزعة تقديس الماضي, في كل مجالاته, قرينة انكسار الفكر العقلاني للمعتزلة والفلاسفة, وقد حدث ذلك مع هزيمة النفوذ الاعتزالي على أيدي الحنابلة, ونجاح الانقلاب السنّي الذي قاده الخليفة المتوكل الذي جعل الدين غطاء للسياسة, وادّعاء نصرة الاتباع تقرّبا من الأعداء التقليديين للمعتزلة الذين ازورّ عنهم, وأباح الهجوم عليهم, والانتقام منهم, لأعدائهم الذين أصبحوا حلفاءه. وكان ذلك تجسيدًا عمليًا لتخلّي الخلافة عن المذاهب الاعتزالية بعقلانيتها المعروفة, واستبدال مذهب السلف وأصحاب الحديث بها. وهو استبدال لم يخل من عوامل متعددة, جعلت (الخليفة المتوكل) نصيرًا للاتباع وعدوا للابتداع, عبر كل أجهزة الدولة الإيديولوجية, التي استبدلت بالتحالف مع المعتزلة التحالف مع أعداء المعتزلة الذين ارتبطوا رسميًا بالدولة العباسية منذ عصر الخليفة المأمون الذي أعلن (خلق القرآن) منذ سنة 218هـ, وفرضه على الناس بالعنف, في خطوة من أحمق الخطوات في التاريخ الفكري العربي, فلا أحد يفرض فكرًا بالعنف والإكراه أو القمع الذي اقترن بمحن كثيرة, منها محنة الإمام أحمد بن حنبل, الذي آثر السجن على الانصياع لرأى الخليفة وحلفائه المعتزلة. وظل الإمام أحمد في حبسه, لم تثنه المحاكمات عن معتقده الذي ظل متمسكًا به, في محنته, ولم يتزعزع اعتقاده فيما آمن به, ودعا إليه, وظل أتباعه على رأيه, منتظرين اليوم الذي يتخلصون فيه من نفوذ المعتزلة الذين تحالفوا مع الدولة منذ عصر المأمون, وأصبحوا واجهتها الفكرية. وقد انتهى انتظار أعدائهم باعتلاء المتوكل كرسي الخلافة - العرش - بمعاونة الجند الذين آزروه, والذين رحّبوا بالتحالف الجديد مع أعداء المعتزلة الذين صاروا الأحلاف الجدد للدولة التي صارت - بدورها- معادية للمعتزلة, مشجعة أنصارها الجدد على مطاردتهم والثأر منهم.

وكان نهي الخليفة الجديد - المتوكل - الناس عن النظر والمباحثة في الجدل, وأمرهم بالتسليم والتقليد, قرين إظهار أهل السنة والجماعة, والانتصار لهم وبهم على أعدائهم التقليديين الذين تمسكوا بمبدأ الاختيار الإنساني, وقرنوه بمعاني التوحيد والعدل, التي لا تكتمل إلا بإعمال العقل. وكان طبيعيًا - والأمر كذلك - أن تجرى على أفكار الخصوم القدامى عمليات العنف القمعي, التي مارسوها على غيرهم, فارتدت إليهم في درس من أهم دروس التاريخ, الذي يؤكد أن الفكر الذي يشاع بالعنف, سرعان ما يولّد العنف في نقيضه, ويدفعه إلى عنف مضاد, أقوى وأكثر تدميرًا. وهذا هو ما حدث للمعتزلة الذين أجبروا مَن تأثر بهم من الخلفاء - المأمون (198-218هـ =813-823م) والمعتصم (218-227هـ =833-842م), والواثق (227-232هـ =842-847م) - على فرض منهجهم الفكري وآرائهم بالقوة, فوقعوا في سقطة قاتلة لا تبرير لها, إذ لا يجوز لمن يدعو إلى العقل, والاحتكام إليه في كل شيء, أن يتخلى عن المجادلة بالتي هي أحسن منه, ويحل محلها المجادلة بالتي هي أقمع, والتي هي أبعد ما تكون عن الأفق المفتوح للعقلانية. وطبيعي أن ينسى المعتزلة - مع هذه السقطة - أن القوة نقيض العقلانية التي انطلقوا منها, فسبقوا إلى استخدام العنف الذي مورس ضدهم, حين رُدّت إليهم بضاعتهم, ومضى الخصوم الجدد, بعد انتصارهم المؤزّر, في مطاردة فلول المعتزلة, وتجريم وتحريم أفكارهم, وإقصائهم واستئصالهم من كل موقع, معتمدين في ذلك على ما ذكره المسعودي من أن المتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدل, ونبذ ما كان عليه الناس في أيام المعتصم والواثق, وأمر بالتسليم والتقليد, كما أمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار أهل السنة والجماعة, وكتب بذلك إلى الأمصار الإسلامية. وكانت النتيجة دخول المعتزلة إلى مرحلة التقيّة والاستخفاء, خصوصًا بعد أن شاعت الشعارات القمعية التهديدية, التي أشاعها المنتصرون الذين أطلقوا على أنفسهم (أصحاب الحديث وأهل السنة والجماعة), وهي تسمية حصرية لهم وإقصائية لغيرهم الذين أصبحوا (مبتدعة) مقترفين إثم بدع الضلالة التي تفضي إلى النار, فحق عليهم العقاب الذي يخرجهم عن المدار الآمن لأهل السنة والجماعة, خصوصًا مع وجود أدوات نسق أيديولوجي, ظلت تردد فيه وبه شعارات من قبيل:

- من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع, ومن صافحه فقد نقض من الإسلام عروة عروة.

- من أحبّ صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه.

الزمن المنحدر والإنسان المجبور

ومع مطاردة المعتزلة وتعقّب فلولهم, ووصم المنتمين إليهم بما يخرجهم عن الإسلام, تصاعد نفوذ التيار الاتباعي المعادي للعقلانية, مؤسسًا رؤية مغايرة للعالم, عمادها الزمن المنحدر والإنسان المجبور, وفرض هذه الرؤية بالتحالف مع الدولة التي وجدت في إشاعتها ما يبقي عليها, ويدعمها في نفوس العامة, الذين ظلوا أئمة التيار المنتصر, يأمرونهم بطاعة الله والرسول وأولي الأمر, وأهم من ذلك عدم الخروج على الحاكم وإن جار, حتى لا تكون فتنة, وتسليم أمره إلى الله الذي أسلمناه كل أمورنا, ومايز بيننا في المال والعلم والمكانة, عدلا وحكمة.

وكان صعود مذهب الاتّباع بمنزلة تحويل جذري لمسار التيارات الفكرية, والانتقال بها من أقاصي العقلانية إلى طرفها النقلي الذي يضيف إلى كراهة إعمال العقل - بما يخرج على الإجماع - تحريم التأمل الفلسفي المقرون بالمنطق, وفي الوقت نفسه, تقليص نزعات التجديد التي قادها المحدثون ضد عمود الشعر القديم, والعودة إلى هذا القديم الذي تجلّى في شعر البحتري, الذي عُرفَ بالعداء لعقلانية أبي تمام, بل عقلانية الفكر الفلسفي بوجه عام. وذلك واضح في أبياته التي يقول فيها:

كلفتمونا حدود منطقكم والشعر يغني عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بالـ ـمنطق ما نوعه وما سببه
والشعر لمح تكفي إشارته وليس بالهذر طولت خطبه


وهي أبيات واضحة في عدائها للمنحى الفلسفي الذي انطوى عليه شعر المحدثين, وبخاصة شعر أبي تمام, وهي تستبدل بهذا المنحى ما أطلق عليه مذهب أهل الطبع من المتابعين لعمود الشعر العربي.

وكان الانتصار لعمود الشعر العربي, مقرونًا بفرض تقاليده الأقدم على الشعراء الأحدث الذين كان عليهم أن يمضوا في المدى الاتّباعي للشعراء الذين سبقوا إلى كل فضل. وقد أدّى الانتصار على التيارات العقلانية إلى نتيجة موازية, اقترنت بتأكيد مبادئ الاتّباع, التي لم تغادر معاني النقل والتقليد في الفكر, وذلك بمنطق مؤداه أن الأقدم سابق في الوجود والرتبة, وأن المتأخر متأخر في الوجود والرتبة, ولذلك فعليه المضيء في طريق الأسبق في الوجود والرتبة. وكان ذلك يعني (فضل علم السلف على علم الخلف) في كل الأحوال. وتبرير ذلك على نحو فكري لا يخلو منحاه الاتّباعي, فكريًا, من تقديس الماضي الذي أصبح الإطار المرجعي الأوحد للحاضر, بل أصبح المستقبل المأمول صورة من صوره. واقترن ذلك بمفهوم دائري للزمن الذي يحنّ إلى بدايته كالفكر اللاحق الذي يحنّ دائمًا إلى سلفه الذي هو أفضل منه على الإطلاق.

وقد تصاعدت هذه الأفكار مع الزمن, موازية لانحدار الحضارة العربية, ودخولها في أزمنة التقليد التي ظلت متطلعة إلى الماضي المزدهر, بوصفه الأصل الذي ينبغي استعادته, إحياء أو بعثًا أو حتى تقليدًا ومحاكاة.

علوم الدين.. والدنيا

ولا أدل على شيوع هذه الأفكار من التوافق الدال حول تأكيدها بين واحد من علماء الأطراف, في المغرب, هو أبو إسحاق الشاطبي الغرناطي المالكي (المتوفى سنة 790 هـ) وواحد من علماء المركز, في بغداد, هو ابن رجب الحنبلي (المتوفى سنة 795هـ). وقد عاش كلاهما في القرن الثامن الهجري الذي كان قرنًا من قرون الانحدار العربي, صاغ فيه الشاطبي وابن رجب أفكارًا موازية للانحدار ومجسّدة له, خصوصًا في تطلع الحاضر المنكسر المهزوم إلى ماض منتصر مزدهر. وبالرغم من اختلاف الاثنين في المذهب, فالشاطبي مالكي وابن رجب حنبلي, لكن التوافق بينهما دال في المنحى الذي عبّر عنه بدقة عنوان رسالة ابن رجب (فضل علم السلف على علم الخلف), وهو العنوان الذي نجد ما يؤكده في أفكار الشاطبي في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة), وهي الأفكار التي تبدو واضحة جليّة في مقدمات الكتاب الخاصة بمفهوم (العلم) ولوازمه. ويتضح ذلك ابتداء من المقدمة السابعة التي تؤكد أن كل علم شرعي, إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبّد به لله تعالى, وهي مقدمة تنطوي على تراتب لا تخلو منه مجالات المعرفة, وذلك على نحو يضع علوم الدين في قمتها, خصوصًا من حيث هي - أي علوم الدنيا - علوم يمكن أن تكون خادمة لعلوم الدين في حال إثبات قيمتها الموجبة, أو مستقلة عن هذه العلوم, بعيدة عنها, من حيث نفي القيمة الموجبة, وإثبات نقيضها. وتأتي المقدمة الثامنة لتؤكد المقدمة السابقة عليها بما يعلي من شأن العلم الديني على العلم المدني بإطلاق, وذلك في عبارات تؤكد أن العلم الذي هو العلم المعتبر شرعًا - أعني الذي يمدح الله ورسوله وأهله على الإطلاق - هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلّى صاحبه جاريًا مع هواه كيفما كان, بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه, ومعنى ذلك أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب: الأولى هي مرتبة الطالبين له. ولمّا يحصلوا على كماله بعد, والمرتبة الثانية: الواقفون منه على براهينه, والثالثة هي مرتبة الذين صار لهم العلم وصفًا من الأوصاف الثابتة. وتمضي المقدمات لكي تصل إلى أن من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به هي أخذه عن المتحققين به على الكمال والتمام. وهي مقدمة يترتب عليها أولاً: أن يكون العالم بحق ممن ربَّاه من الشيوخ في ذلك العلم, لأخذه عنهم, وملازمته لهم, فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك. وهكذا كان شأن السلف الصالح, ويترتب عليها - ثانيًا - اقتداء العالم بمن أخذ عنه, والتأدّب بأدبه, كاقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم, واقتداء التابعين بالصحابة وهكذا في كل قرن. ولا ينفصل عن ذلك ما يؤكده الشاطبي من أن أخذ العلم عن أهله يتم عبر طريقين: المشافهة وهي أنفع الطريقين وأسلمهما, ومطالعة كتب المصنفين, ومدوّني الدواوين. وهو أمر نافع بشرطين. الأول أن يحصل للعالم من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب, ومعرفة اصطلاحات أهله, ما يتم له به النظر في الكتب, والشرط الثاني أن يتحرى العالم كتب المتقدمين من أهل العلم المراد, فإنهم أقعد به عن غيرهم من المتأخرين. وأصل ذلك التجربة والخبر, أما التجربة فهي أمر مشاهد في كل علم كان (فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم). والجملة حاسمة الدلالة في معناها الذي لا يقتصر على علوم الشريعة بل يجاوزها إلى كل علم عملي أو نظري, وذلك بما يؤكد المبدأ الثابت الذي يرد الفضل, دائمًا, إلى المتقدم, ويعلي من شأن السلف على الخلف في كل الأحوال وكل العلوم. ولذلك, يقول الشاطبي ما نصه: (فأعمال المتقدمين - في إصلاح دنياهم ودينهم - على خلاف أعمال المتأخرين, وعلومهم في التحقيق أقعد).

ويستدل الشاطبي على ما يذهب إليه بتفسير الحديث النبوي الذي يقول: خير القرون قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم . ويعتمد تفسيره على أن كل سابق خير من كل قرن لاحق, مؤكدًا ذلك بما روي عن ابن مسعود من أنه (ليس عام إلا الذي بعده شر منه). وهو تأكيد ينتقل من خاص علوم الشريعة إلى عام كل العلوم والمعارف, وذلك بما يصل إلى النتيجة النهائية التي يجملها الشاطبي بقوله (فلذلك صارت كتب المتقدمين, وكلامهم, وسيرهم, أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أي نوع كان).

والنتيجة التي تنتهي إليها مقدمات الشاطبي تعني فرض الديني على الدنيوي, ومن ثم رد فضل السابقين دينيًا على السابقين في كل علم دنيوي, الأمر الذي يؤكد نزعة تقديس الماضي في كل علم, وتأكيد خصائصه الاتّباعية التي ظلت شائعة, مهيمنة على العقول, وبخاصة عقول العامة.

العلم النافع.. وغير النافع

هذه الخصائص هي التي يبدأ منها ابن رجب الحنبلي, منتهيًا إلى النتيجة نفسها التي انتهى إليها الشاطبي, وذلك في رسالته المتاحة في أكثر من طبعة, في أكثر من قطر عربي.

وتبدأ الرسالة بتحديد العلم النافع وغير النافع الذي تلحق به صفة (علم لا ينفع وجهالة لا تضر). والمقياس هو القرب من الدين وخدمته, فما بعد عن ذلك ابتعد بقدر بعده, إلى أن يتدنّى إلى رتبة العلم الضار, وهو الذي يرتبط بمحدثات الأمور ومحدثات الأفكار, وينطلق منها, فالعلم الأعلى هو ما كان عليه السلف الصالح, والعلم الأدنى المذموم ما يشمل (علوم أهل البدع) التي أُحْدِثت بعد الصحابة, وتوسَّع فيها أهلها, وسمّوها علومًا, وظنوا أن من لم يكن عالمًا بها فهو جاهل أو ضال, فكلها بدعة (وهي من محدثات الأمور المنهي عنها). وما انتهى إليه المتكلمون والفلاسفة وغيرهم من العقلانيين والتجريبيين داخل في مذمة (المنهي عنه) أي ما لم يعرفه السلف الصالح الذين (لا يوجد من كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين, فضلاً عن كلام الفلاسفة).

ولكي يثبت ابن رجب مقالته, على طريقته, يؤكد أن في كلام السلف والأئمة مدارك الأحكام بكلام وجيز, مختصر, يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب, كما أن في كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة, بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم. وربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه, فما سكت من سكت عن كثرة الخصام والجدل من سلف الأمة جهلاً ولا عجزًا, ولكن سكتوا عن علم وخشية الله. وما تكلم من تكلم, وتوسع من توسع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم, ولكن حبا للكلام وقلة ورع, فالسابقون عن علم وقفوا, وببصر نافذ قد كفوا, وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا.

ولا يفوت ابن رجب أن يغمز طوائف العقلانيين الذين يخالفونه الرأي فيقول: (وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من أنه أعلم ممن تقدم, فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة جداله ومقاله.

ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين). ويرى ابن رجب أن هذا الكلام انتقاص عظيم من قدر السلف الصالح, وإساءة ظن بهم, ونسبة لهم إلى الجهل وقصور العلم, فالمؤكد - عنده - أن من جاء بعد الصحابة والتابعين (أقل علمًا وأكثر تكلفًا). وما كان مخالفًا كلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه, فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة.

ويصل ابن رجب إلى النتيجة الأخيرة التي يريد الوصول إليها, وهي أن على معاصريه كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد, كما أن عليهم أن يحذروا مما حدث بعد هؤلاء الأئمة, فإنه حدثت بعدهم حوادث كثيرة, أشد مخالفة لشذوذها عن كلام الأئمة: (أما الدخول... في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فشر محض, وقلّ من دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم).

ويعني ذلك أن العلم النافع هو التقيد بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم. لكن هذا العلم - من زاوية أخرى - لا يخلو من معنى الجبر الذي ينفي الإرادة الإنسانية ومعنى الاستطاعة فهو (نور يقذف في القلب, يفهم به العبد الحق, ويميز به بينه وبين الباطل, ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد). وتلك كلمات تسقط مفهوم الجبر في العلم على مفهوم الجبر الملازم للإنسان, فتنطوي على ما يجعل الناس درجات في العلم, لا على أساس من اجتهادهم الذاتي, أو سعيهم الإنساني, وإنما على أساس من الفضل الذي يؤثر به الله سبحانه وتعالى بعض عباده على بعض.

ضرورة التقليد

وهكذا يصل ابن رجب إلى ما يؤكد ضرورة التقليد في كل علم, كما انتهى الشاطبي, ويضيف إلى ذلك إطلاق فضل علم السلف في كل مجال على علم الخلف في كل ميدان.

والنتيجة هي تأكيد الخصائص الاتباعية للمعرفة التي ظلت شائعة بين الناس, سائدة بين العامة على نحو خاص. وهي الخصائص التي هاجمها غير واحد من علماء الشريعة المتأخرين, ومنهم القاضي شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني المتوفى 1250هـ, وذلك في كتابه (البدر الطالع بمحاسن مَنْ بعد القرن السابع). وهو الكتاب الذي يفتتحه - على نحو حاد, لا يخلو من انفعال دال - بتقرير أنه لما شاع على ألسن جماعة من الرعاع اختصاص سلف هذه الأمة بإحراز فضيلة السبق في العلوم دون خلفها, حتي اشتهر عن جماعة من أهل المذاهب الأربعة تعذر وجود مجتهد بعد المائة السادسة كما نقل عن بعضهم, أو بعد المائة السابعة كما زعمه آخرون. وكانت هذه المقالة - فيما يؤكد الشوكاني - بمكان من الجهالة لا يخفى على من له أدنى حظ من علم, وأنزر نصيب من عرفان, وأحقرحصة من فهم, وذلك لأن هذه المقالة - فيما يؤكد الشوكاني مرة أخرى - قصر للتفضيل الإلهي, والفيض الرباني على بعض العباد دون البعض, وعلى أهل عصر دون عصر, وأبناء دهر دون دهر من دون برهان ولا قرآن. ويمضي الشوكاني قائلا - بحق - مواصلا الحدة الانفعالية نفسها: (إن هذه المقالة المخذولة, والحكاية المرذولة تستلزم خلو هذه الأعصر المتأخرة من قائم بحجج الله, ومترجم عن كتابه وسنّة رسوله, ومبين لما شرعه لعباده. وذلك هو ضياع الشريعة بلا مرية وذهاب الدين بلا شك. وهو تعالى قد تكفل بحفظ دينه, وليس المراد حفظه في بطون الكتب والدفاتر, بل إيجاد من يبينه للناس في كل وقت وعند كل حاجة). ويعلن الشوكاني أن هذه المقالة المرذولة هي التي دفعته إلى وضع كتاب يشتمل على تراجم أكابر العلماء من أهل القرن الثامن ومن بعدهم, ليعلم صاحب تلك المقالة أن (الله - وله المنّة - قد تفضل على الخلف كما تفضل على السلف, بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية, على اختلاف أنواعها, من يقل نظيره من أهل العصور المتقدمة به).

ولكن مع الأسف, فإن أفكار أمثال الشوكاني لم يكتب لها الغلبة, وذلك في سياق الانحدار الذي انتهى إليه الفكر العربي, وطوردت فيه النزعة العقلية التي نال أصحابها العذاب الذي اقترن بحرق كتبهم, وذلك لكي يكونوا عبرة لغيرهم, وتمثيلاً قمعيًا على ضرورة اتّباع الأقدمين وتقليدهم في كل مجال.

وهي النتيجة نفسها التي انتهى إليها الأدب العربي, وبخاصة الشعر الذي فقد طاقته الخلاقة, التي وصلت إلى ذروتها مع أبي العلاء المعري, وتضاءلت بعده تحت وطأة التقليد إلى أن اختفت في دواوين الشعراء المتأخرين الذين عاشوا في دواوين الشعراء المتقدمين أكثر مما عاشوا عصرهم, أو عاينوه. وكانت النتيجة وصول الشعر إلى مرحلة (العقم) التي تحدث عنها, باقتدار, عبدالعزيز الأهواني - رحمة الله عليه - في كتابه العلامة (ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار). وهو الكتاب الذي يبسط فيه الأهواني نظريته في دراسة العصور الأدبية المتأخرة التي كانت عصور تقليد واتّباع أكثر منها عصور ابتكار وابتداع, الأمر الذي يفرض منهجًا خاصًا في دراستها, يعتمد على قراءة أشعار المتأخرين في علاقتها بأشعار المتقدمين, وذلك للكشف عن مسار التحولات التي مرّت بها الصور الشعرية المأخوذة عن القدماء إلى أن وصلت إلى تعقيدات المتأخرين ومبالغاتهم.

ولذلك, يمكن القول إن ازدهار الإبداع العربي, سواء في النثر والشعر, كان موازيًا لازدهار الفكر العربي, والتيارات العقلانية والنزعات التجريبية, كما كان انحداره موازيًا لانحدار هذه التيارات والنزعات التي تجاوبت معه في الحيوية, كما تجاوب معها في الجمود والتقليد الجامد الذي أحال الابتكار الشعري إلى عقم كامل.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات