3 قصص قصيرة (قصة × صفحة)

قصص قصيرة (قصة × صفحة)

1- شرود

يسرع الطريق, فلا أكاد أحصي البنايات, أعمدة الإنارة, وأشجار الزينة على جانبي العربة, لاشيء يغري الذاكرة بالتزحلق عبر وديانها سوى ذلك الثبات المتحرّك, كذلك هي العين فوق مقعد طائر, وكذلك أنا, جسد مقيد بالرزانة, ومزاجية مصابة بالتقلب الجوزائي, فلا يكاد يجمع بيني وبيني إلا غباء أفلاطون, وكأن خللاً مَسّ أوردتي, فحوّل خط البراءة لدائرة لا تنتهي.

يسرع الطريق, فتنكمش أناملي داخل جورب أنيق, لا يوجد ثمة خطر, فلستُ من يقود على أي حال, لم أفعلها يومًا, ربما هي الأتوفوبيا, وربما القهر المقنع.

يسرع الطريق, فأرقب رجفتي, ياااه.

كلما أصعد فوق جرحي...يسقطني جرحٌ آخر.

تذكرني بي طواحين الهواء.

يسرع الطريق, ويمنح المطر وجه الزجاج قبلات عابرة...هل لي من أمنية?

أن تعرف ما تريد, تلك هي المشكلة, من يزعم أنه يعرف, إما عبقري أو مجنون.

فلأغمض عيني قليلاً...

أيها الحلم المبهم:

لستُ هنا, فتش حيث أنت...ستجدني.

2- الجوزاء

مرت ساعات وهي تقطع أرجاء غرفتها جيئة وذهابا, تغيرت ملامحها ألف مرة, وتشابكت أصابعها خمسين, وأيقظت مرآتها بضعًا وعشرين, هي عدد سنوات عمر عاشتها بقوة الدفع, لم تمارس خلالها فعل الحياة.

حريتها قرضٌ بنكي بفائدة مركبة.

لها قلب وجناحا طائر, لكن النوافذ مغلقة.

تذكرت النسر الذي لم يعرف الطيران طيلة حياته الداجنة, وعندما ألقوه من علٍ, انتفضت فطرته فحلّق قبل أن تصرعه الصخور.

تملكتها الفكرة, أخرجت قلمًا ودفترًا, وخطت رسالة تقول:

(دافئة هي حياتي معك, لكني ممزقة...ملاكٌ أنت, وبداخلي ألف شيطان, أرستقراطي أنت, وروحي تدخن النارجيلة في مقهى شعبي, مقيمٌ أنت بمدنك الهادئة, ويقيني معقود في قدم مسافرة. فماذا لوتحررنا من ذلك القيد الوهمي?

أشياء جميلة تجاهك, لكنها لا تعصم القلب من جموحه.

ولأني امرأة, تطاردني مشاعر ذئب إرثية, ولأنهم علّموني كيف أبيعك حريتي أيّا كنت, وأيّا كانت البيانات في بطاقة هويتك, أحاول بين الوقت والآخر ارتكاب المصارحة, فأجدني على حافة جرف, أتشبث بياقتك, ويأخذ اعترافي شكل قبلة طويلة, لا تفهمها...فأتعذب أكثر, وتجتاحني كلمة اعتذار, فأنطق كلمتي: أحبك جدًا!

أيها النقي:

هأنذا أمنحك القدرة على سبر أغواري, لا تغضب, فقط تنفس بعمق, واستمر في الغوص إلى أبعد نقطة حيث تتكون الدمعة والابتسامة, وحيث أنا, تلك التي يدنو إليك بعضها, وينأى الآخر, ليس هربًا منك, وإنما هربًا إليّ, ولأني لست اثنتين, سأختارني, وأرحل بعيدًا, وداعًا).

طوت الرسالة, وحدقت طويلاً في سقف الغرفة.

بعد ساعات أخرى, كان الرماد يغطي بقايا رسالتها في سلة مهملات سميكة ألفت جدرانها النحاسية ذلك الاحتراق, وكانت ذراعاه تطوقان خصرها, وهي تمنحه قبلة طويلة, تنظر بعدها في عينيه قائلة:

أحبك جدًا!

3- الراقص الأخير

يتراقصون, يعلو الضجيج, فيجرحون الأغنية.

أعود لطاولتي, أراقبهم, يطوفون حول ذواتهم, يركلون ما سواها, خطوات تقطعها عقارب الوقت, وتنكرها الذاكرة.

وحده كان هناك, ثمة آخرون لا تبصرهم الروح, هل للعازف أن يترك قيثارته قبل اكتمال اللحن?!

فقط هو مَن يسمع صداه دون وتر, فليرقص إذن...

وليرفع الزمن قبعته للراقص الأخير...!

 

هبة عصام الدين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات