هل تفلت الإنترنت من الهيمنة الأمريكية?

هل تفلت الإنترنت من الهيمنة الأمريكية?

لم تعرف البشرية وسيلة اتصال تحمل المزايا التي تحملها شبكة الإنترنت, ولكن هل هي وسيلة حرة أم أنها تخضع مثل الكثير من ظواهر عالمنا لهيمنة القطب الأوحد?

تنفرد الإنترنت عن غيرها من أساليب التواصل, بأنها تتيح الفرصة للاستفادة من وسائل الإعلام والاتصال الأخرى بكفاءة عالية عن طريق الاستعانة بجهاز واحد فقط (الكمبيوتر), ومن خلال شبكة واحدة فقط, ودون أن يحتاج الأمر إلى معرفة وثيقة بمبادئ التكنولوجيا, التي يعتمد عليها في أداء هذه العمليات, التي قد تكون على درجة عالية جدًا من التنوّع والتعقيد. وكما يقول فينت سرف رئيس مجلس إدارة جمعية الإنترنت في مقابلة أجراها معه ألان ماكلوسكي أثناء احتفالات اليوم العالمي للاتصال عن بعد: إن الإنترنت قد تتشابه في كثير من النواحي مع غيرها من وسائل الاتصال التي سبقتها في الظهور, ولكنها تتميز عليها جميعًا باستخداماتها الواسعة المتنوعة, وقدرتها على أن تؤدي عددًا من العمليات في وقت واحد بشكل تعجز عن القيام به أي من الوسائل الأخرى. فهي واسطة للاتصال الفردي والجماهيري, وأداة لنشر النصوص والكتابات, وطباعة ما يتم نشره على الشاشة, وجهاز لمشاهدة الفيديو, وسماع الراديو, وإرسال الرسائل الإلكترونية, واستقبالها لحظة إرسالها, أي أنها تقوم بكل الخدمات البريدية والتليفونية والبرقية والفاكسية, فضلاً عن إمكان الاعتماد عليها في إجراء الحوارات المباشرة مع عدد من الأطراف المتباعدين في المكان, والحصول على أدق المعلومات, وأكثرها تنوّعًا من مختلف أنحاء العالم وحفظها, والعودة إليها وقت الحاجة. وهذه كلها ميزات لا تتوافر لغيرها من وسائل الاتصال, التي عرفتها البشرية خلال تاريخها الطويل. وإذا كان عالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان, أطلق عبارته الشهيرة عن أن الوسائل أهم من الرسائل لتأكيد الدور الذي يمكن أن تقوم به وسائل وأساليب الاتصال في حياة البشر, وتشكيل هذه الحياة, فإن ذلك يصدق على الإنترنت أكثر مما ينطبق على غيره من الوسائل, نظرًا لتعدد الوظائف والمهام في وقت واحد, وبسرعة فائقة وكفاءة نادرة.

ويمثل اكتشاف الإنترنت ثورة هائلة في عالم الكمبيوتر والاتصال, إذ تجتمع فيها كل قدرات وإمكانات الاختراعات السابقة. وقد تطلب تحقيق هذا الإنجاز تضافر جهود أعداد كبيرة من العلماء والتكنولوجيين والباحثين ورجال الصناعة والحكومات. وروعي في تحقيق هذا الإنجاز الاسترشاد بأربعة أبعاد متفاعلة, بالرغم من تمايزها على ما يقول ياري لاينر وزملاؤه في نشرة بعنوان (تاريخ موجز للإنترنت) صدرت عن (جمعية الإنترنت) الأمريكية. وهذه الأبعاد الأربعة المتكاملة هي البعد التكنولوجي المتمثل في ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال, والتقدم الخطير الذي أحرزه البحث العلمي في هذه المجالات الواسعة المتعددة, والبعد التنظيمي والإداري المتعلق بأسلوب إدارة الإنترنت ووضع السياسة العامة الموجهة لأنشطتها وعملياتها وخدماتها المختلفة, والبعد الاجتماعي الخاص بتقوية وتوطيد العلاقات بين مختلف الأطراف, التي تستخدم الإنترنت, وبخاصة في مجال التراسل, وكذلك تحقيق التعاون بين الفئات العديدة, التي تعمل في مجال تكنولوجيا الاتصال, التي تؤلف البناء التحتي للإنترنت, والبعد التجاري الذي يستهدف تسويق نتائج البحث والمعلومات والبرمجيات, بحيث أصبحت الإنترنت الآن الأداة الرئيسية والأكثر انتشارًا في مجال المعلومات على مستوى العالم, ولاتزال تحرز طيلة الوقت مزيدًا من التقدم والتوسع والانتشار, وارتياد ميادين جديدة مثل التجارة الإلكترونية.

بيد أن هناك بعض المثالب التي تؤخذ على الإنترنت, أشارت إليها ديبورا صويار في مقال بمجلة The Futurist (عدد فبراير 1999) حيث تقول إن قدرًا كبيرًا من المعلومات, التي تقدمها لا يمكن الاعتداد بصدقها, وأن من الصعب الحكم على مدى دقة هذه المعلومات, لأنها لا تخضع للمراقبة أو المراجعة وأن مما يؤسف له أن الناس يقبلون هذه المعلومات على علاتها ويسلمون بصحتها, بل ويعملون على نشرها وترديدها والاستشهاد بها دون فحص أو تدقيق.

فالمشكلة التي تشكو منها ديبورا صويار في هذا الصدد, وترى أنها تمثل تهديدًا مباشرًا لمستقبل الإنترنت, هي أنه في الوقت الذي تزداد فيه كمية المعلومات, التي تقدمها الإنترنت تتراجع وتتقلص مصداقية هذه المعلومات, وتزداد تفاهتها وسطحيتها وعدم فائدتها أو جدواها. فهناك - حسب رأيها - علاقة عكسية بين الكم والكيف بكل ما يترتب على ذلك من خلل واضطراب, وإن كان الكثيرون لا يفطنون إلى ذلك. ثم إن هناك - في رأيها أيضًا - مشكلة ازدياد الحواجز والعوائق التي تعزل الأشخاص الذين (يدمنون) استخدام الإنترنت عن المحيط الاجتماعي الذي يعيشون فيه, بل وتفصلهم بعضهم عن البعض الآخر, رغم ما قد يكون بينهم من اتصال عن طريق البريد الإلكتروني الذي يفتقر إلى دفء العلاقات الحميمة, التي تتولد من خلال المقابلة المباشرة, أو حتى التراسل بالخطابات والرسائل الورقية المكتوبة. والمفارقة هنا هي أن الوسيلة, التي يفترض فيها توطيد وتعميق التواصل بسهولة ويسر وكفاءة هي الأداة, التي تؤدي إلى العزلة وتدهور العلاقات الاجتماعية, بالرغم من كل المظاهر التي توحي بعكس ذلك.

وعلى الرغم من ازدياد الإقبال على استخدام الشبكات الدولية, بشكل عام, فلاتزال غالبية سكان العالم محرومة من هذه الخدمات, كما أن عددًا كبيرًا من الدول وبخاصة في العالم الثالث تفرض كثيرًا من القيود على استخدامها مما يؤدي إلى اتساع الفجوة الرقمية, بين (الذين يملكون والذين لا يملكون) القدرة على الاتصال, والحصول على المعلومات. بل إن ثمة فجوة رقمية أخرى تزداد اتساعًا طيلة الوقت بين الأجيال القديمة والأجيال الحديثة, أو بين جيل الآباء وأجيال الأبناء والأحفاد, حيث يتفوق الأبناء على آبائهم في المهارات الخاصة بالكمبيوتر والإنترنت. وهذا وضع طبيعي لأن الأجيال السابقة تجد من الصعب عليها تغيير عاداتها الراسخة في التفكير والعمل. ولذا كان لابد من الوصول إلى حل لمشكلة الفجوة الرقمية. ويبدو أن الوسيلة الوحيدة لذلك, هي نشر ثقافة الإنترنت على أوسع نطاق ممكن, والعمل على توفير خدماتها للجميع, بصرف النظر عن التفاوت في القدرات الاقتصادية والذهنية. ومن مصلحة الحكومات ذاتها, أن تتبنى هذه السياسة حتى يمكن الإفادة من المعلومات المتوافرة على الشبكات الدولية في تحقيق التنمية والارتقاء بالمستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية لشعوبها. وعلى أي حال, فإن بعض التقديرات تذهب إلى أنه يوجد الآن ما يزيد على أربعمائة مليون شخص يستخدمون الإنترنت في العالم. وقد تكون هذه نسبة ضئيلة من مجموع سكان العالم, ولكن هناك بعض الأمل في أن يرتفع العدد إلى بليون مستخدم خلال السنوات القليلة المقبلة, وأن يزداد عدد المستخدمين في العالم الثالث زيادة محسوسة.

* * *

وقد تكون هذه كلها معلومات ذائعة ومعروفة, وكثر الحديث عنها والكتابة فيها.ولكن الصعوبات التي يواجهها انتشار ثقافة الإنترنت, تستدعي في رأي الكثيرين وضع سياسة محكمة ودقيقة لإدارة الإنترنت, وتهتم اهتمامًا كافيًا بعمليات تطوير البنية التحتية للشبكة (الكمبيوتر ذاته بوجه خاص), وتفعيل (البروتوكولات) الخاصة بتبادل المعلومات, وغير ذلك من المهام الإدارية, التي تضمن توفير هذه الخدمات بكفاءة في كل أنحاء العالم. والواقع أنه توجد في الوقت الحالي مؤسسة أمريكية تتولى هذه المهام, وهي (هيئة الإنترنت الخاصة بالأسماء والأرقام) والتي تعرف اختصارًا باسم (ICANN). وثمة محاولات مضنية لتحرير هذه الهيئة من (الاحتكار) الأمريكي, الذي يقلق بال الكثيرين, ليس فقط في الدول النامية, ولكن أيضًا في دول الاتحاد الأوربي, ولذا تتعرض الهيئة لكثير من عوامل الشد والجذب من القوى السياسية المختلفة لاعتبارات تتعلق في المحل الأول باعتبارات الهيمنة المعلوماتية, أو ما أصبح يعرف الآن باسم (هيمنة الشفرة).

وقد عملت هيئة الأمم المتحدة في حدود إمكاناتها لإيجاد حل لاختلاف الآراء والمواقف من هذه الهيمنة الأمريكية, وقد ألفت لهذا الغرض لجنة مكونة من أربعين شخصًا تم اختيارهم بعناية من أنحاء العالم, يمثلون عددًا من التخصصات والاهتمامات المتباينة لدراسة الموضوع للتوفيق بين الآراء المتضاربة. وعقدت اللجنة اجتماعاتها في يوليو الماضي (2005), ولكنها أخفقت في الوصول إلى قرار نهائي, واكتفت بإقرار أربعة خيارات لعرضها أمام المؤتمر الثاني عن مجتمع المعلومات الذي عقد في نوفمبر الماضي (2005) لكي يصل إلى اتفاق ترضى عنه كل الأطراف المتنازعة. وقد جاء تشكيل هذه اللجنة في الأصل في أعقاب فشل اجتماع القمة الأول عن مجتمع المعلومات الذي عقد في جنيف عام 2003 في الوصول إلى حل نهائي لمشكلة إدارة الشبكة الدولية, ورفض كثير من الدول للوضع القائم الذي يكرس الهيمنة الإلكترونية الأمريكية, إلى جانب هيمنتها الطاغية على كل وسائل الإعلام وأجهزة الثقافة الأخرى.

خيارات أربعة

وتتراوح الخيارات الأربعة, التي اقترحتها لجنة يوليو بين قبول الوضع القائم بالفعل, والذي يعطي الولايات المتحدة حق الإشراف الكامل على إيكان. وبين الرفض المطلق الصريح لهذا الوضع, واقتراح إجراء تعديلات جذرية, بحيث يتم تكوين هيئة - أو حتى هيئات - جديدة تمامًا يعهد إليها ببعض المهام, التي لا تدخل في الوقت الحالي ضمن صلاحيات إيكان مثل القضاء على مشكلة الرسائل الإلكترونية الدخيلة, أو البريد الإلكتروني الطفيلي الذي يسبب كثيرًا من الضيق والمتاعب والإزعاج لمستخدمي الإنترنت, ومثل جرائم الفضاء المعلوماتي, وعمليات الإرهاب, التي يتم تدبيرها وتنفيذها عن طريق الإنترنت وبعض المشاكل الأخرى المماثلة.

فالخيار الأول يقضي بتكوين هيئة دولية تحت اسم (المجلس العالمي للإنترنت) يتألف من عدد من ممثلي الحكومات الذين يراعى في اختيارهم التوزيع الجغرافي بقدر الإمكان على أن يتولى الإشراف على (إيكان) بدلاً من الولايات المتحدة, وبذلك تصبح هذه الهيئة مسئولة أمامه مباشرة. ويتولى المجلس وضع السياسة العامة لإدارة الإنترنت وأسلوب وطرق تطوير الخدمات, وتوسيع نطاقها, وتحديد القواعد الأساسية, التي تتبع في النظر في المنازعات وعمليات التحكيم والقضاء على المشكلات, التي تواجه مستخدمي الإنترنت مثل ضرورة المحافظة على الخصوصية. ويرتبط المجلس بالأمم المتحدة دون أن يكون أحد أجهزتها.

ويقضي الخيار الثاني بالإبقاء أيضًا على الوضع الحالي مع تعديل مهمة (اللجنة الحكومية الاستشارية لهيئة إيكان) بحيث تصبح بمنزلة منتدى للحوار الرسمي الذي تجريه الحكومات حول مشكلات الإنترنت مع إتاحة الفرصة لاصحاب المصلحة (وقد يكون المقصود بذلك القطاع الخاص) للمشاركة في مناقشة هذه المشكلات والقضايا وإبداء الرأي على سبيل الاستشارة والتقدم بالاقتراحات والتوصيات اللازمة.

ويقضي الخيار الثالث بأن يقتصر دور هيئة إيكان على الأمور الفنية (التقنية) البحتة مع إنشاء مجلس دولي للإنترنت يحل محل اللجنة الحكومية الاستشارية لهيئة إيكان ويكون مستقلاً تمامًا عن هيئة الأمم ولا يرتبط بأي دولة واحدة بالذات فيما يتعلق بأمور الإدارة الدولية للإنترنت. ويتولى هذا المجلس النظر في المسائل الخاصة بالسياسة الدولية المتعلقة بالإنترنت. ويتيح هذا الخيار الفرصة للحكومات للقيام بدور رئيسي في تحديد هذه السياسة بينما يقتصر دور (أصحاب المصلحة) والمجتمع المدني على إبداء الرأي والمشورة.

ويحاول الخيار الرابع التوفيق بشكل أو بآخر بين متطلبات الخيارات الثلاثة الأخرى فيقضي بإنشاء ثلاثة كيانات أو أجهزة جديدة يحل أحدها محل هيئة إيكان ويتولى مهمة الإشراف على نظام التوجه الشبكي ووضع المعايير الفنية الخاصة بإدارة الإنترنت ويمكن أن يشارك أصحاب المصلحة والمجتمع المدني في أعماله بصفة (مراقب), ويتولى الكيان أو الجهاز الثاني إدارة الحوار بين الحكومات والمؤسسات والشعوب بحيث تشارك جميعها في عملية اتخاذ القرار على قدم المساواة ومن دون تفرقة أو امتيازات, بينما يتولى الكيان أو الجهاز الثالث مهمة تنسيق العمل حول مشكلات السياسة العامة المتعلقة بالإنترنت.

مستقبل الإنترنت

وقد تكون هذه كلها مسائل فنية لا تهم سوى فئة محدودة نسبيًا من مستخدمي الإنترنت الذين تعنيهم معرفة الخلفية السياسية لأسلوب إدارة الإنترنت والقوى المتحكمة في هذه الإدارة. ولكن الواقع أن الخلافات التي تنشب بين القوى السياسية المختلفة حول هذه الإدارة تثير كثيرًا من المخاوف حول مستقبل الإنترنت كوسيلة مهمة بل وأساسية للإعلام والثقافة والتواصل بين الأفراد والشعوب والمجتمعات والثقافات على مستوى العالم, وإلى أي حد يمكن لهذه الخلافات - أو بالأحرى الصراعات - المستترة أو الصريحة بين الدول أن تؤثر على فاعلية الإنترنت ونوعية الخدمات التي يمكن أن يقدمها ومدى انعكاس هذا كله على ملامح المستقبل. ومن الواضح أن هذه الخيارات الأربعة تشترك في بعض العناصر لعل أهمها - وهو ما قد يثير في الوقت ذاته كثيرًا من المتاعب - هو الدعوة إلى إنشاء كيان يتيح للحكومات وأصحاب المصالح والقطاع المدني الفرصة لإبداء الرأي حول سياسة إدارة الإنترنت وتطويره حتى يصبح أكثر فاعلية مع عدم السماح لأي دولة واحدة بالانفراد بالإشراف على هذا الكيان كما هو الوضع الحالي بالنسبة لهيئة إيكان. والمقصود هنا أمريكا بطبيعة الحال. والمتوقع أن تكون هذه النقطة محل صراع عنيف في اجتماع تونس بين أمريكا ومؤيديها من ناحية ودول العالم الثالث وبعض الدول الغربية الرافضة للهيمنة الثقافية الأمريكية من الناحية الأخرى خاصة أن أمريكا أعلنت بالفعل في أول يوليو إصرارها على التمسك بالإشراف على هيئة إيكان. وينصح الكثيرون بعدم مناقشة هذا الموضوع من أساسه في الوقت الحاضر. والتخوف من الهيمنة الثقافية الأمريكية قديم نسبيًا وظهر في مناسبات عديدة وفي كثير من الاجتماعات الدولية التي عقدتها هيئة الأمم أو اليونيسكو لمناقشة الأوضاع الثقافية في العالم. ويرجع هذا التخوف من الهيمنة الثقافية الإلكترونية عن طريق الإنترنت إلى التسعينيات خاصة أن اللغة الإنجليزية هي لغة الكمبيوتر والإنترنت بمعنى أن معظم ما يظهر على صفحات الإنترنت من مادة علمية أو إعلامية يكون باللغة الإنجليزية وهو الأمر الذي يؤرق بال شعوب العالم الناطقة بغير الإنجليزية من لغات كما هو شأن دول العالم الثالث من ناحية ودول الاتحاد الأوربي من ناحية أخرى, إذ تشعر بأن الإنجليزية تعمل على تهميش لغاتها وثقافاتها. ويظهر هذا بشكل أكثر وضوحًا في فرنسا التي تقف دائمًا بالمرصاد للتوحش الثقافي الأمريكي. وقد بدا هذا الرفض صريحًا بالنسبة للإنترنت منذ عام 1994 في موقف جاك توبون وزير الثقافة الفرنسي حينذاك الذي نبه الأذهان إلى عدم ظهور اللغة الفرنسية بالقدر الكافي على الشبكات الدولية وحذر من أن فرنسا معرضة - حسب قوله - (لشكل من الاستعمار, وأن الولايات المتحدة في طريقها إلى أن تشغل مكان الصدارة والسيطرة, وإذا نحن لم نفعل شيئًا الآن فسوف يكون الوقت متأخرًا جدا إذ سوف يتم احتلالنا) (ثقافيًا بطبيعة الحال). وقد ردد الرئيس الفرنسي جاك شيراك شيئًا من هذا القبيل في عام 1996 حين قال (إذا لم يتم تمثيل لغتنا وبرامجنا وإبداعنا بشكل قوي في الإعلام الحديث فإن الأجيال المقبلة في وطننا سوف يتم تهميشها اقتصاديًا وثقافيًا). فهناك إذن اعتبارات سياسية وراء الخلاف حول سياسة هيئة إيكان ومشكلة الإشراف عليها وهو خلاف لا بد أن ينعكس على توجهات الإنترنت الإعلامية, وقد يعرض الكيان كله لهزات عنيفة يصعب تقديرها الآن بل يخشى الكثيرون مجرد التفكير في نتائجها.

بدلاً من الانتظار

وأيًا ما يكون الأمر فإن الأمل يراود المهتمين بسياسة الإنترنت ومستقبلها عن أن أزمة هيئة إيكان لا بد أن تجد لها حلاً في وقتٍ ما لعله غير بعيد وأن الإنترنت سوف تتطور وتتقدم بسرعة هائلة وتكتسب قدرات وإمكانات فائقة تتفق مع المتغيرات المتلاحقة التي تحدث في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا. ولذا, لم يعد هؤلاء المهتمون بمستقبل الإنترنت يتكلمون الآن عن (الإنترنت) فحسب وإنما يتحدثون - مثلاً - عن (الإنترنت السريع) بحيث أصبح الإنترنت العادي المألوف لدينا الآن يوصف - على سبيل السخرية من بطء عملياته - بأنه (إنترنت الانتظار الطويل طول العالم وعرضه) بدلاً من الوصف العلمي المعروف بأنه (الشبكة المتسعة باتساع العالم) والتي يشار إليها على سبيل الاختصار بالحروف المعروفة www. وهذا معناه أن الكلمة الأخيرة في تطور الإنترنت لم تقل بعد. فلايزال العلم والتكنولوجيا يتضافران معًا لتحقيق مزيد من الإنجازات وهو ما سوف يؤدي بالضرورة إلى إضفاء مزيد من السعادة والراحة للجنس البشري. ويكفي المرء وهو يفكر في مستقبل الإنترنت أن يسأل نفسه عن نوع الحياة التي كان العالم يعيشها من دون البريد الإلكتروني ومن دون محركات البحث المعروفة مثل جوجل وياهوه وآسك وغيرها مما ييسر للإنسان عملية الاتصال والارتباط بالعالم كله دون عناء وأن يتصفح جرائد العالم ومجلاته ودورياته ويتابع أخباره ويشاهد أحدث الأفلام ويستمع إلى ما يحب من موسيقى ويدخل في حوارات مع أطراف متباعدين لا يعرفهم معرفة مباشرة ولكنه يشترك معهم في الاهتمامات. ثم على المرء أن يسائل نفسه بعد ذلك كله عما سيكون عليه الوضع فيما لو أفلحت أمريكا في مواصلة فرض سلطاتها وسطوتها واحتكارها الإشراف على هيئة إيكان وإخضاعها لتوجهاتها الخاصة بما يحقق مصالحها الذاتية ورفضت كل المقترحات التي اقترحتها لجنة يوليو 2005 مثلما سبق لها أن عارضت في عام 1979 اقتراح اليونسكو حول النظام العالمي الجديد للمعلومات والذي كان يهدف إلى توزيع موارد الاتصالات توزيعًا عادلاً بين الدول لأنها رأت في هذا الاقتراح ما يتعارض مع سيطرة الإعلام الإمريكي, أو مثلما رفضت التصديق على اتفاقية كيوتو وفضلت مصالحها الخاصة على سعادة كل البشر. إن الكثيرين يرون أن مستقبل الإنترنت محفوف بالمخاطر وأن التصلب الأمريكي قد يؤدي إلى فشل النظام كله. وهذا أمر غير متصور بالرغم من كل الشواهد التي تشير إلى عكس ذلك.

 

أحمد أبو زيد