كاترينا القاتلة

كاترينا القاتلة

أكثر من ألف قتيل, ومئات الآلاف من المشردين, وخسائر تزيد على 125 مليار دولار. كان الكل يعلم أن الإعصار كاترينا سيضرب نيوأورلينز, فلماذا كانت الضربة مدمرة على هذا النحو?

قبل سنوات عديدة من عصف الإعصار كاترينا بالمدينة التاريخية القديمة, كان احتمال اجتياح إعصار مدمر لنيوأورلينز أحد الكليشيهات الشائعة بين خبراء الكوارث الأمريكيين. وكان هذا الاحتمال يذكر دائما عند حديث الخبراء عن أسوأ الكوارث الطبيعية التي يمكن أن تحدث على الإطلاق. وعندما أتت كاترينا, كان الواقع أسوأ من أسوأ الكوابيس.

في العام الماضي كان الإعصار إيفان متوجها أصلا إلى مدينة نيوأورلينز, وفجأة غير وجهته في اللحظة الأخيرة. وقد توقعت شيرلي لاسكا, الخبيرة في مركز تقييم ومجابهة وتكنولوجيا الكوارث في جامعة نيوأورلينز, أن تكون الخسائر التي سيسببها الإعصار كارثية. وقالت حينها: (ستكون بلا شك واحدة من أسوأ الكوارث الطبيعية التي تضرب الولايات المتحدة الأمريكية, إن لم تكن أسوأها على الإطلاق), فالإعصار إيفان قادر على تحويل الكوابيس إلى حقيقة واقعة). وعندما حول إيفان وجهته بعيدا عن نيوأورلينز وحوّل مساره في اللحظات الأخيرة مرسلا سيوله الجارفة نحو المسيسبي, قالت لاسكا: (في المرة القادمة لن تكون نيوأورلينز محظوظة هكذا).

وبالفعل ضرب الإعصار كاترينا هذه المرة المدينة الساحلية بأمطاره الغزيرة ورياحه القوية التي بلغت سرعتها 257 كلم في الساعة.

وكانت الصورة التي تناقلتها وكالات الأنباء تثير الرعب والفزع, خاصة مع ما صاحب جهود الإغاثة من عجز وارتباك وفوضى. فقد اجتاحت المدينة موجة مد وصل ارتفاعها إلى تسعة أمتار ليغرق أكثر من 80% من مساحتها باستثناء الحي الفرنسي التاريخي الذي يقع في منطقة مرتفعة نسبيا. وأضاف أن مستوى المياه في بعض الحالات وصل إلى ستة أمتار.

وأعلن حاكم ولاية مسيسيبي أن 90% من المباني في المنطقة الساحلية الأكثر تضررا في الإعصار الذي ضرب الولاية (اختفت تماما). وقال إن المنازل المدمرة امتدت لمسافة تتراوح بين 40 و50 كيلومترا على ساحل خليج المكسيك. وأوضح أن فرق البحث والإنقاذ تمكنت من دخول المناطق المدمرة عبر تلال من الأنقاض كما أمكن إدخال الإمدادات الطارئة إليها, غير أنه قال إن هناك حاجة لعمل المزيد.

وقد فشلت طائرات الجيش الأمريكي التي أسقطت أكياسا من الرمل على الشاطئ في سد ثغرات أحدثها الإعصار في السد الذي يحمي مدينة نيو أورلينز في ولاية لويزيانا.

وألقت الرياح الهادرة بالأنقاض في الهواء وأطاحت بالنوافذ في الفنادق العالية بالمدينة ومزقت سقف ستاد لويزيانا سوبردوم العملاق المغطى. ولجأ إلى هذا الاستاد نحو 20 ألف شخص هربا من العاصفة.

وتحدثت مصادر طبية عن مخاطر انتشار الأمراض في المدينة جراء تحلل الجثث التي غرقت وقذفها الإعصار إلى الشاطئ, بينما قال المركز الوطني الأمريكي للأعاصير في ميامي إن قوة كاترينا بلغت الدرجة الخامسة من مقياس سافير سيمسون لقياس الأعاصير, المؤلف من خمس درجات.

وقد انهارت معظم البنى التحتية لشبكة الاتصالات, السلكية منها واللاسلكية, في خليج المكسيك إضافة إلى شبكات التغذية بالتيار الكهربائي التي تزود أكثر من 1.3 مليون مشترك بالكهرباء, ومنذ اللحظات الأولى لهبوب الإعصار بدأت شبكات الاتصال بالانقطاع تباعا, تاركة سكان كل من لويزيانا ونيو أورلينز والميسيسيبي معزولين تماما وفي الظلام.

وباتت معظم مناطق نيو أورلينز المنخفضة مغمورة بالمياه, بينما فشلت الجهود المبذولة للحد من ارتفاع منسوب مياه الفيضان.

وفي ظل أجواء الفوضى نشط السلب والنهب حيث شوهد العديدون ينهبون المراكز التجارية ويسرقون ما بها من بضائع, بينما تحدث عمدة المدينة عن تسليم الكثير من رجال الشرطة لشاراتهم بعد ما شعروا بعدم جدوى مقاومتهم لحوادث السلب والنهب, مما استوجب إعلان حالة الطوارئ في عدة ولايات على ساحل خليج المكسيك.

وكانت أكثر المناطق تأثرا بالإعصار مقاطعة (هاريسون) في ولاية (ميزوري) التي عاث الإعصار فيها خرابا, لاسيما مدينتي (بيلوكسي) و(جالف بورت). و قال (فنسنت كريل) المتحدث باسم مدينتي (بيلوكسي): (إن المدينة تكاد تكون دمرت بالكامل).

وفي نيو أورلينز, كانت الجثث تطفو فوق مياه الفيضان. وقال رئيس بلدية المدينة: (إن عمال الإنقاذ لا يجدون الوقت للتعامل مع الجثث ويكتفون حاليا بتنحيتها جانبا).

لا عاصم من الماء

لا يمكن لوصف أن يعبر عن هول الكارثة, وربما تكون الصور أكثر تعبيرا من أي كلمات, لكن ما يهمنا هو الدروس التي يمكن أن نخرج بها من الكارثة.

وتثير حقيقة أن كارثة بهذا الحجم كانت متوقعة تماما تساؤلات كثيرة حول التقصير في تفاديها, أو على الأقل التخفيف من وقع آثارها المدمرة.

وكان الإعصار كاترينا قد ضرب شواطئ فلوريدا في الخامس والعشرين من أغسطس الماضي, وصنف حينها على أنه إعصار من الدرجة الأولى, لكنه سرعان ما دخل إلى مياه خليج المكسيك ليستمد المزيد من القوة من مياه المحيط الدافئة, التي كانت درجة حرارتها أعلى بدرجتين من المعدلات العادية في هذا الوقت من السنة, فالبخر المتصاعد من مياه المحيط الدافئة هو المصدر الذي تستمد منه الأعاصير قوتها.

وقد تمثلت الصدمة الأولى في قوة الإعصار. ويقول كيري إيمانويل, باحث الأعاصير في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا: (إن قوة كاترينا أذهلت الجميع), فالأعاصير تستمد الطاقة وقوتها من مياه المحيط الدافئة, لكن في خليج المكسيك هناك آلية طبيعية تخفف عادة من قوة الأعاصير قبل أن تضرب اليابسة. وتتمثل هذه الآلية في أن المياه الدافئة على السطح تنزاح للمياه الأبرد الموجودة على عمق لا يتجاوز 25 مترا. لذا فعندما يمر الإعصار ويقلب بقوته مياه المحيط, يدفع بهذه المياه الباردة إلى السطح, ليبرد الإعصار ويفقده كثيرا من قوته. لكن هذا لم يحدث مع كاترينا, فقد سلك الإعصار طريقا يسلكه تيار دافئ يعرف باسم (التيار الأنشوطة the Loop Current), تمتد فيه المياه الدافئة إلى عمق أكثر من مائة متر, الأمر الذي زاد من قوة الإعصار إلى الفئة الخامسة.

وحتى هذا الأمر كان من الممكن توقعه, كل ما كان يحتاج إليه الخبراء هو أن تسقط طائرات مراقبة الأعاصير بضع عشرات من المجسات الحرارية - تعرف اختصارا باسم AXBTs (مراسيم الأعماق الحرارية المنشورة جوا airborne expendable bathythermographs) - في المياه الواقعة في طريق الإعصار. ويتكلف المجس الواحد بضعة آلاف من الدولارات ويقوم بقياس توزيع درجات حرارة المياه حتى عمق يصل إلى مائتي متر. وهذه بالضبط المعلومات التي كان يحتاج إليها الخبراء للتنبؤ بدقة بالخطر الآتي. ويقول إيمانويل: (إن الأمر لم يكن يحتاج إلى عبقرية, أو إلى إنفاق ملايين الدولارات), ويلقي باللائمة في عدم حدوث ذلك على بيروقراطية الأجهزة الحكومية.

وحتى التبعات اللوجستية للفيضانات التالية للإعصار كانت معروفة أيضا. فمنذ أكثر من عام قام خبراء الإغاثة من الكوارث بإجراء تجربة محاكاة كمبيوترية لمواجهة افتراضية للإعصار بام الذي سيضرب مدينة نيو أورلينز بقوة أربع درجات, أي أقل من الإعصار كاترينا بدرجة كاملة. وكانت النتيجة أن ما يتراوح بين أربعمائة ألف وخمسمائة ألف من السكان سيصبحون مشردين بلا مأوى.

غير أن الدروس والتوصيات المستفادة من هذه التجربة لم تجد سوى التجاهل من الإدارتين الحكوميتين المسئولتين عنها, وهما (وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية) و(مكتب الأمن المحلي والاستعداد للكوارث في ولاية لويزيانا). ويقول ببل ماسي, الخبير السابق بوكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية والمشرف على التجربة: (كانت تجربة عظيمة, لكنني لست واثقا من أن الاستعدادات الموصى بها وجدت التمويل اللازم).

ويتخوف ماسي وكثير من الخبراء الآخرين من أن الأموال والكوادر البشرية التي تحتاج اليها مثل هذه الاستعدادات تسربت إلى وزارة الأمن الداخلي الفيدرالية التي أنشئت في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ويقول ماسي: (التشديد مع الأسف كان على الإرهاب).

الاحتباس الحراري

كان الإعصار كاترينا الأعنف والأكثر تدميرا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. لكن هذا الدمار الهائل الذي أحدثه الإعصار لم يكن وليد الطبيعة فقط, فدراسات عديدة تحذر منذ فترة من أن الاحتباس الحراري سيتسبب في تزايد عنف الأعاصير وتواتر حدوثها.

وكنا قد أشرنا في عدد ديسمبر من العام الماضي إلى أن ما شهدته بعض البلدان في العامين الأخيرين من موجات حارة ومن فيضانات مدمرة ما هو إلا النذير المبكر لتأثير التغيرات المناخية السلبي, وإلى أن المستقبل سيكون مظلما لو لم نتحرك بسرعة لإيقاف ظاهرة الاحترار الكوني, وأن المستقبل القريب قد يشهد تحول ظواهر مرعبة, مثل الأعاصير: ميتش, وفلويد, وجين, إلى ظواهر شائعة.

وقد أظهرت دراسة حديثة أن البيانات التاريخية المسجلة تشير إلى أن الأعاصير باتت أشد وأقوى في السنوات الأخيرة, وهو ما يتفق مع ما يذهب إليه العديد من علماء البيئة من تزايد قوة العواصف المدمرة التي تعيث في كوكبنا دمارا.

وقال علماء أمريكيون في دراسة نشرت ملخصها مجلة (ساينس) أخيرًا, إن الاحترار الكوني الناتج عن الاحتباس الحراري ربما يقف وراء تزايد حدة الأعاصير مثل كاترينا, على الرغم من الحاجة إلى مزيد من الأبحاث العلمية للتأكد من هذا. والواقع أن فكرة أن الاحترار الكوني يقف وراء ازدياد قوة الأعاصير منطقية تماما من الناحية النظرية حيث إن العواصف الاستوائية تحتاج إلى مياه محيطات أدفأ لتستمد منها قوتها وتتحول إلى أعاصير.

وفي هذه الدراسة, قام علماء من معهد جورجيا للتكنولوجيا في أتلانتا بولاية جورجيا والمركز الوطني لبحوث المناخ في بولدر بولاية كولورادو, بتحليل البيانات المتعلقة بالأعاصير والعواصف الاستوائية منذ أن بدأ رصدها بالأقمار الصناعية.

وقد وجدوا أن هناك زيادة حادة في عدد الأعاصير التي تبلغ قوتها أربع وخمس درجات, وهي النوع الذي يسبب أفدح الخسائر عند دخوله إلى اليابسة. وفي الفترة من 1975 وحتى 1989, كان هناك 171 إعصارا قويا, لكن هذا الرقم قفز إلى 269 إعصارا في الفترة من 1990 وحتى 2004.

ويقول البروفيسور بيتر وبستر المشرف على الدراسة: (أعتقد أنه يمكننا القول إن زيادة قوة الأعاصير مرتبطة بالارتفاع في درجة حرارة سطح المحيطات, وأن هذا الارتفاع مرتبط بدوره بالاحترار الكوني الناجم عن الاحتباس الحراري).

 

أحمد الشربيني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




إنقاذ الضحايا بالمروحيات





لا عاصم من الماء





90% من المباني في المنطقة الساحلية الأكثر تضررا في الإعصار الذي ضرب الولاية (اختفت تماما)





مدرعات الجيش البرمائية كانت وسيلة المواصلات الوحيدة





قوة كاترينا أذهلت الجميع