الواسطي.. وبول كليه

الواسطي.. وبول كليه

كانت إحدى تلميذاتي في معهد الفنون في بيروت, ومن أفضلهنّ. صادفتها في باريس منذ سنوات عدة, إذ نالت منحة دراسية, أخبرتني عن حياتها هنا, ورأيت أعمالها, وكالعادة تكلّمنا كثيرًا عن الفن وعن كل شيء, وكانت في حيرة, إذ إن عليها أن تكتب بحثًا عن فنان, وهذا ضمن برامج التخرّج, ورحنا نبحث معًا إلى أن اقترحت عليها أن  تكتب بحثًا عن فنان من بلادنا. فقالت مَن? جبران خليل جبران? قلت: لا. جبران أحب كتابته ولا أحب رسمه, قالت: مَن إذن? قلت: الواسطي, هل سمعت به قبلاً? قالت لا. قلت مازحًا: لقد وصلنا!.... قالت وصلنا إلى أين? إلى الموضوع, أجبتها. قالت: لم أفهم منك شيئًا, الواسطي والبحث والوصول. الآن لنبدأ من جديد, من الأوّل: أجبتها: الواسطي رسّام وخطّاط من مدينة الواسط في العراق, وهو من مؤسسي (مدرسة بغداد) الفنية منذ حوالي خمسمائة سنة, وبغداد لا تملك ولا رسمًا واحدًا من رسومه, أعماله كلها موزّعة مابين أمريكا, ملكًا لمقتنٍ مشهور, كما يقال, ومجهول عندنا, وبين فرنسا, في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس, منذ سنوات بعيدة, أقيم مهرجان للواسطي في بغداد, وكنت من المدعوّين لهذا المهرجان.

تابعت حديثي: إذا قبلت وارتحت لهذا الموضوع, وقدّمته إلى الأستاذ أو المسئول عن هذا البحث, فهو سيرفضه لسببين, الأول: هو أن الفنان عربي, والثاني أنه يجهل وجوده, قالت: أعتقد أن الكثيرين من العرب لا يعلمون بوجود هذا الاسم, هذا الرسام الواسطي, فكيف نريد أن يعرف به أساتذتي في مدرسة الفنون هنا في باريس? قلت:  صحيح, موافقًا. قالت: كيف الوصول إلى أعماله? أخبرتها أن الذين أقاموا منذ ثلاثين سنة (مهرجان الواسطي) في بغداد, لم يستطيعوا الاستعارة من الدولة الفرنسية رسمًا واحدًا من أعماله, وبعد أشهر ومداولات طويلة, توصلوا لأن يُسمح لهم - للعراق - بأن يستعملوا نسخًا مطبعية لعشرة رسوم فقط ليقيموا بها معرضًا في بغداد, في مسقط رأس هذا الكنز الفنيّ العربي. في مكتبتي في بيروت بعض المنشورات عن الواسطي, أستطيع إعارتها لك بإرسالها من بيروت.

قالت: طيب! ماذا سأكتب? قصة حياته? مولده? وفاته? المطلوب دراسة فنية عن فنان!

قلت: طبعًا, الموضوع الذي في رأسي كنت أتكلّم عنه منذ سنوات, وكنت أعطي الأمثلة عن الواسطي و(بول كليه).

قالت ضاحكة وكأنها نفضت عنها كابوس حديثي, تركتها تكمّل ضحكتها, وبعد أن هدأت قالت: هل نمت جيدًا? يا أستاذ أمين? هل تعشيّت? هل حلمت بالواسطي وبول كليه البارحة? من أين تأتي بهذه المواضيع التي لا رأس لها ولا ذنب?

قاطعتها مبتسمًا: اتركيني أكمل ثم أسكت, ومن بعدها... قالت أكمل... تفضّل...

تابعت: هل عندك بعض المعلومات عن بول كليه, وهو من كبار فناني القرن العشرين?, أين هو من اليوم? قالت متردّدة: لا ليس كثيرًا, قلت: ماذا في لوحته? ماذا ترين أو تشعرين وأنت تنظرين إلى عمل من أعماله? قولي شيئًا? لم تقل شيئًا, بل ازداد اتساع عينيها. تابعت: بول كليه الرسام الألماني لم يثق بنفسه, ولم يكتشف حاله رسامًا إلا في تونس ومصر, بعد رؤية الهندسة الإسلامية هناك, وجمال الحرف العربي, والحياة في مدن وقرى تونس, والزيّ التونسي... إلى آخره, من مظاهر الحياة, ومن مناظر طبيعتها الملوّنة, في تونس تساءل مرارًا: (هل أنا عربي? ومن هذه البلاد?), ثم قوله المشهور وهو في تونس (أنا الآن رسّام, لقد وجدت اللّون).

قالت: عال, وماذا أيضًا? أين الواسطي وبول كليه? قلت: بول كليه أحبّ الزخرفة العربية الإسلامية, ووقف طويلاً على أبواب الجوامع المزينة بالخطوط العربية, وبالأشكال الهندسية, ورسم القناطر والمآذن والمقاهي, وتطلع على المدينة من على سطوح بيوتها البيضاء, إلى أن دخل الحرف العربي في أعماله كشكل جمالي وصار من ضمن أشكاله الخاصة.

قالت: هناك فنانون عرب استعملوا الحرف العربي, قلت: منذ ثلاثين سنة أو أكثر قامت جماعات من الفنانين العرب وأكثرهم من بغداد ومن القاهرة, ينبشون عن التراث, فلم يجدوا سوى استعمال الحرف العربي في لوحاتهم, وكتبوا وحاضروا وألّفوا جمعيات ليضمّوا فيها كل من وضع حرفًا عربيًا في لوحته, واعتبروا أن هذا فن ثوري يعيد الأمة العربية إلى عروبتها...إلى آخره, من الشعارات والعناوين, وعلى ذكر العناوين, فقد ألّف بعض الفنانين العراقيين كتبًا في موضوع التراث وسبل العودة إليه, واعتبرها الكثيرون في العالم العربي من الرسامين والمفكرين الكبار, لكثرة ما كتب وجلّد كتبًا.

ذبلت عينا رفيقتي الرسامة, وكأن حديثي أنامها وأيقظها, ثم أنامها ولم يوقظها, فأيقظتها منبّهًا:

- إيه!.... أين أنت?

قالت بصوت من استيقظ حديثًا من نوم: أكمل, أكمل, أنا أكملت حديثي غير عابئ بمن يسمع وبمن لا يسمع, وكنت كمن يتكلّم لذاته, لأذنيه ليسمع صوته, وكثيرًا ما أمضي يومًا دون أن أتفوّه بكلمة, ثم فجأة أكتشف هذا الصيام عن الكلام, وأكون أكثر الأوقات في مرسمي, أقف بعد أن أضع الفراشي على طاولة عملي وأروح بالصّراخ بأعلى صوتي, وكثيرًا ما أغني الأوبرا, وأشعر بالراحة, ثم أكتشف, ككل مرّة أن صوتي لابأس به.

إذن, فها أنا أكمّل حديثي سائلاً إياها إذا اقتنعت بفكرة موضوع البحث?

قالت: الواسطي وكليه?

قلت: نعم, الواسطي سبق كليه بما يقارب خمسمائة سنة, وكلاهما استعملا الورق والألوان المائية للتعبير عن فنهما, أو بواسطة فنهما. وكلاهما استعملا الحرف العربي في أعمالهما الفنية, الواسطي خط سطرًا أو أكثر في كل لوحة من لوحاته, يفسّر فيها الموضوع المرسوم بلغته وبأحرفه العربية, أما كليه, فقد جعل من الحرف العربي أبجدية من أبجديته التشكيلية, لكن لوحته بقيت لوحة غربية, كانت مفتاحًا من مفاتيح الفن الغربي الحديث, مثله مثل (كاندنسكي) الروسي, وبيكاسو الإسباني, لكن هذا موضوع آخر.

هنا استوت على كرسيها وقالت:

- ماذا سأفعل الآن? ومن أين أبدأ?

قلت: أولا أخبري المسئول عن موضوعك, وبكل بساطة ضعي عنوان البحث: (الواسطي وبول كليه), تابعت: قومي بزيارة المكتبة الوطنية واطلبي رؤية أعمال الواسطي, وأنا سأرسل إليك ما عندي بخصوص الواسطي.

بعد أسبوع, أخبرتني أن بعض الأساتذة رفضوا الفكرة, والبعض الآخر قبلها, وأنها ابتدأت بالعمل في (الواسطي وكليه).

* * *

مضى على ذلك سنوات طوال, ومرارًا ألتقي بالفنانة, وإلى الآن لا أعلم عن نتيجة هذا البحث الذي قدّمته, وأسأل: هل قامت فعلاً بكتابة هذا الموضوع? وماذا كانت ردّة فعل أساتذتها?

النتيجة لا تهمّني كثيرًا, ما يهمّني هو اختيار فنان تاريخي من بلادنا ليكون موضوع البحث الفني, وهذا مالم يحصل حتى الآن, وكأني أطلب الكثير عندما يزداد يأسي من وضع فنوننا القديمة في زاوية التاريخ, وليس هناك من يحرّكها, ويعيد تذكّرها في بلادنا وفي العالم, أما بالنسبة لفنوننا المعاصرة, فنادرًا ما ترى متحفًا للفن المعاصر في بلد من البلدان العربية, التي لا تطمح لأن تصير بلدانًا تسير مع العصر. واهتمام دول العالم من غربها وشرقها, اهتمامها بفنونها القديمة والحديثة معًا, أي بالماضي والحاضر, كاهتمامها بالسباق العلمي والتكنولوجي, ومرارًا أكثر من هذا.

 

أمين الباشا 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




التقط الفنان بول كليه هذه الزخرفات من الرسوم الشعبية البسيطة الموجودة على جدران المدن التونسية





لوحة مليئة بالرموز ذات الجذور العربية والإسلامية





زخارف القيشاني والخزف طبعت تأثيرها على أعمال بول  كليه