يوسف القعيد والسعداوي الكافوري

يوسف القعيد والسعداوي الكافوري

لا أكتب أدبا سياسيا
ولكن كل كتاباتي تطرح همّا سياسيا

  • انهيار الأحلام جعلني أسكن الضفة الأخرى من اليأس
  • كانت أمي تقتطع من قوت يومنا لتشتري لي الصحف
  • لا أسعى لتحويل أعمالي الأدبية إلى دراما .. رهاني الأول على القرّاء

يعتبر الأديب الروائي يوسف القعيد واحدًا من أهم كتّاب الرواية في الوطن العربي حيث قدم للمكتبة العربية أكثر من عشرين عملاً روائيًا منها (الحداد), (أخبار عزبة المنيسي), (أيام الجفاف), (البيات الشتوي), (يحدث في مصر الآن), (الحرب في بر مصر), (شكاوى المصري الفصيح), (في الأسبوع سبعة أيام), (وجع البعاد), (أربع وعشرون ساعة فقط) وغيرها من أعمال روائية, عكست في مجملها ارتباطًا عميقًا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبسطاء والمهمّشين والتزامًا نبيلاً بقضاياهم ومشكلاتهم, من خلال لغة شاعرية مترعة بالشجن وأسلوب رشيق أخّاذ وتناول مثير للدهشة, وإلى جانب اهتمام الأديب يوسف القعيد بالفن الروائي, فإنه يكتب القصة القصيرة أيضًا, حيث صدر له أكثر من سبع مجموعات قصصية منها: (طرح البحر), (تجفيف الدموع), (الفلاحون يصعدون إلى السماء). ولقد ترجمت أعمال الأديب يوسف القعيد, سواء كانت روايات أو قصصا قصيرة إلى العديد من اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والصينية والروسية.

وبالإضافة إلى الإنتاج الأدبي والإبداعي ليوسف القعيد فإنه أثرى المكتبة العربية بالعديد من الكتب الفكرية المهمة مثل (مفاكهة الخلان في رحلة اليابان) و(الكتاب الأحمر) ناهيك عن مقالاته في العديد من كبريات الصحف المصرية والعربية. وحول المشروع الأدبي والفكري للأديب يوسف القعيد دارت هذه المواجهة التي حاوره فيها السعداوي الكافوري وهو كاتب مصري صدرت له ثلاث مجموعات قصصية ورواية.

  • القارئ لأعمالك الأدبية سواء الروايات أو القصص القصيرة يدرك أن ثمة وعيا خاصا لديك بأحوال وظروف وعادات وأخلاقيات البسطاء من أبناء القرية المصرية في كفاحهم اليومي المرير مع الواقع, ومن خلال علاقاتهم المتشابكة مع بعضهم البعض. فما الظروف الموضوعية التي ساهمت في صياغة وتشكيل تلك النظرة المتعمّقة لديك?

- لقد ولدت في قرية الضهرية مركز إيتاي البارود - محافظة البحيرة. وهي قرية أم, فيها كل الأبنية التي يمكن أن تقدم الخدمات المطلوبة لقرية مصرية. فيها المستشفى والمدرسة والمركز الاجتماعي وكتاب تحفيظ القرآن الكريم, كل هذا لم يكن له وجود في سنة ميلادي (1944) كل ما كان موجودًا هو مكتب لتحفيظ القرآن. والمدرسة الابتدائية الأولى جرى افتتاحها بعد ذلك. قريتي إذن تكاد أن تشكّل نموذجًا للقرية المصرية العادية. كثيرون يولدون في قرى, لكن الجديد بالنسبة لي كان ميلادي لأسرة فقيرة, وهذا كان ولايزال نعمة من نعم الله عليّ. رأيت الحياة عندما بدأ الوعي في التفتّح من القاع وهي مسألة مهمة. الذين يرون الدنيا من أعلى, لا يرون سوى الشواشي وزعازيع القصب. وهو أقل ما في عود القصب قيمة وأهمية. وهذا ما جعلني أتشرّب جزيئات وتفاصيل الحياة اليومية عند الفلاح المصري. لكن الحلو لا يكتمل أبدًا. في طفولتي الأولى كان والدي (يرحمه الله رحمة واسعة) يحاول أن يتعلق بحياة التجّار. كان تاجرًا صغيرًا. ولهذا عشت حياة القرية, الحارة وداير الناحية والجرن والوسعاية, والمصطبة وسلم الجامع, ولكني لم أعش في هذه السنوات الأولى حياة الحقل بكل تفاصيلها. لقد جاءت هذه التجربة, ولكن بعد ذلك, عندما تحوّل والدي في الخمسينيات من التجارة إلى الزراعة. ولأننا لم نكن نمتلك أرضًا زراعية. فقد مارس الزراعة ولكن من خلال نظام المزارعة. وهو الحل - ربما الوحيد - الذي يلجأ إليه مَن يريد ممارسة الزراعة ولا يمتلك أرضًا زراعية. وهو نظام ظالم وجائر. مالك الأرض هو المستفيد, والمستأجر هو المظلوم على طول الخط. بعدي عن الحقل في سنوات عمري الأولى, جعل رواياتي عن الريف - كما لاحظ ذلك مصطفى بيومي في كتابه: (الفلاح والسلطة في أدب يوسف القعيد) أقول جعل هذه الروايات تخلو من مشاكل مياه الري وتوزيعها وما يمكن أن يجري بسبب ذلك, ولقد اكتشفت أن مياه الري كانت هي موضوع رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي. لقد عرفت القرية وحياة الفلاح, لأنني عشت في القرية, ورغم أنني أرغمت على الحياة في المدينة (القاهرة تحديدًا) منذ ديسمبر 1965 وحتى الآن, فما زلت مؤمنًا بأن القرى خلقها الله, وأن المدن بناها البشر, وأن الإنسان لا يمكن أن يغادر مدينة طفولته مهما ابتعد عنها وغادرها إلى العديد من المدن الكبيرة. لقد عشت في المدينة مغتربًا عنها, لم أستطع أن أكون جزءًا منها أبدًا, حملت غربتي على كتفي وعشت في المدينة مرغمًا.

عندما جلست لأكتب أول رواية, أدركت ساعتها - ومن خلال الكتابة وحدها - أن الرواية (والقصة القصيرة إلى حد ما) هي فن التفاصيل الصغيرة, وأن هذه التفاصيل بقدر ما تنبثق في ذهن الروائي انطلاقًا من تجربة حيّة, فإن ذلك يكون أفضل ألف مرة من القراءة أو الاستماع أو المشاهدة. عندما قدمت رواية (الحداد) وهي روايتي الأولى في مايو 1969 إلى نجيب محفوظ قال لي يومها: هل تعرف أن أول نص روائي لي كان عن القرية?! كانت مفاجأة, قلل منها أن الرجل لم يبق معه من هذه الرواية سوى عنوانها الذي مازال على جدار الذاكرة (أحلام القرية) أما النص نفسه فقد فُقد منه. فالرجل لا يحتفظ في بيته بأوراق أو كتب كثيرة. وهو لم ينشر النص لأنه لم يكن راضيًا عنه بعد الانتهاء من كتابته.

القراءة والقوت اليومي

  • نحن نعرف جيدًا أنه كان لديك ومنذ سني الدراسة الأولى شغف شديد بالقراءة, وكان سطح منزلكم هو المهد الأول الذي احتضن تلك القراءات المبكرة. فهل من الممكن الرجوع إلى هذه المرحلة المبكرة وإحاطتنا بنوعية الكتب التي كنت تطالعها, وأبرز تلك الكتب , خصوصا التي ساهمت في صياغة رؤيتك للكون والمجتمع والإنسان?

- لم تكن في الضهرية في زمن صباي ومراهقتي مكتبة عامة. ربما لم توجد فيها مثل هذه المكتبة العامة حتى الآن, وأول مكتبة عامة تعاملت معها, كانت مكتبة البلدية في مدينة دمنهور عندما عشت فيها ثلاث سنوات (59-1961) هي سنوات دراستي في معهد المعلمين. في قريتي كانت هناك مشكلة الحصول على ما يقرأ. كانت أمي - أمدّ الله في عمرها - مبكّرًا جدًا تقتطع من قوت البيت لكي تشتري لي الصحف القليلة التي تصل إلينا متأخرة عن موعدها, لكن مكتبة المرحوم الحاج عبدالقوي سمك, في عزبته بدمسينا, كانت هي المكتبة التي أقامت علاقتي المبكّرة جدًا مع ألف ليلة وليلة, حيث سحر الحكايات الذي لا يقاوم, وكانت هناك مكتبة المرحوم عبدالعزيز سمك. كان تاجر (مني فاتورة), وكان يحب الفن والأدب, وكان يكتب الزجل الجميل يزيّن به إمساكية رمضان التي كان يطبعها بمناسبة شهر الصوم المعظم, فالمكتبة كانت أقرب إلى الأدب والفن, كانت عنده كل مطبوعات الكتاب الذهبي والكتاب الفضي, وهكذا قرأت الطبعات الأولى لأعمال نجيب محفوظ والسحار وباكثير وعبدالحليم عبدالله, وهي كتب كانت قد اختفت من الأسواق في هذه المرحلة, وكنت أحب فيه حرصه الشديد على استرداد الكتاب بعد يوم واحد من استعارته, كان هذا تعبيرًا عن حرصه الشديد على الكتاب وعلى العلاقة الفريدة بينه وبين الكتاب. في دمنهور وجدت ملاذي ومرفئي في مكتبة البلدية بدمنهور, وكذلك مكتبة قصر ثقافة دمنهور, وكانت الأولى مكتبة محترمة فيها الحديث من الكتب الصادرة ليس في مصر وحدها, ولكن في بيروت ودمشق, وأمكنة أخرى من العالم. في القاهرة ترددت على دار الكتب في باب الخلق, وكانت نظرات الناس توشك أن تأكلني عندما يكتشفون أنني ذهبت إلى المكتبة من أجل استعارة رواية أو ديوان شعر أو مجموعة من القصص القصيرة, جمهور المكتبات ربما كان لديه مفهوم غريب للثقافة. والبعض لا ينظر إلى النص الأدبي باعتباره قد يكون رافدًا مهمًا من روافد هذه الثقافة, بعد نكسة 67 أصبح لدينا في الوحدة العسكرية مكتبة, ذلك أن دور النشر المختلفة قدمت للوحدات العسكرية نسخًا مما تنشره. وهكذا وجدت لديّ مكتبة كاملة. كل كتاب مطبوع في الصفحة الأولى منه ختم عن المجهود الحربي, وعبارة (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة), مع أن هذه الكتب كان فيها ما أخذني من كل أصوات المعركة.

لم تصبح لي مكتبتي الخاصة إلا بعد ذلك بسنوات عندما أصبح لي بيت يخصّني في هذه المدينة الرهيبة. وفي الوقت الذي يفصل بين المكتبات العامة ومكتبتي الخاصة, كانت هناك مكتبات الأصدقاء, كانت مكتبة جمال الغيطاني هي مكتبتي, ما من كتاب لم نقرأه معًا. وكنت أستعير بعض الكتب أكثر من مرة لإعادة قراءتها, لدرجة أنه من كثرة استعارة رواية (دروب الجوع) لجورجي أمادو, كتب جمال الغيطاني عليها إهداء وأهداها لي. ومكتبة المرحوم جلال السيد وهو أنبل مَن تولى مسئولية باب للكتب في تاريخ الصحافة المصرية. كنت أستعير منها بعض الكتب, خاصة النادرة منها أو التي لم يعد لها وجود, كانت لدى جلال أجندة كبيرة, يدوّن فيها أي كتاب استعاره صديق, ولا يشطب اسم الكتاب ومن استعارة إلا بعد استعادة الكتاب مرة أخرى.

وجودي المبكر في القاهرة نجّاني من أن يكون الكتاب هو مصدر ثقافتي الوحيد. كان هناك الفيلم السينمائي والعرض المسرحي, وحفلات الموسيقى العربية, واحتفالات أوركسترا القاهرة السيمفوني, ومعارض الفن التشكيلي, وجميعها روافد لا تقل أهمية عن الكتاب. المشكلة أننا نتكلم عن الكتب فقط عند الحديث عن مصادر ثقافتنا. لا يتحدث أحد عن لوحة أو فيلم أو قصيد سيمفوني. وهل يمكن أن أنكر دور البرنامج الثاني (الثقافي حاليًا) خلال وجودي في قريتي?لولاه ما عرفت الكثير من التجلّيات الجديدة في الكتابة والأدب والفن. لولا حسين فوزي ما عرفت كيف تتعامل الأذن مع السيمفونية. ولولا إبراهيم الصيرفي ما قرأت أول قصة لي في هذا البرنامج. ولولا بهاء طاهر والشريف خاطر وعزت النصيري ما سمعت تلك المقابلات التي كانت تقدم مع أدباء العالم. كانوا يترجمون المقابلة ويمثّلونها. وهكذا يخيّل إلي أنني استمعت إلى صامويل بيكيت أو ملك راج أنانت أو ميشيل بوتور. كانت القراءات تختلف من زمن إلى آخر. لقد قرأت الرواية وعنها, وقرأت عن مصر, المكان والناس والتجربة, وقرأت عن الحلم الاشتراكي, مثلا بعد نكسة يونيو 1967 قرأت الكثير من مذكرات العسكريين, في محاولة فردية, لمعرفة سبب ما جرى, قراءتي في التراث جرت وراء التراث الشعبي, الملاحم والسير الشعبية خاصة بعد نكسة 1967.

الاغتراب والهجرة

  • (بلد المحبوب), (وجع البعاد), بمنزلة تنويعات على وتر الغربة, فما سر اهتمامك بموضوع الغربة والاغتراب عن الوطن الأم?

- أنا لم أغترب, لم أمر بتجربة الغربة, ولكني عاصرت هجرة المصريين بصورة تصل إلى حدود الظاهرة, وربما تتعداها كثيرا, شدّتني هذه الظاهرة عندما كنت أذهب إلى قريتي فلا أجد في الحقل سوى النساء والشيوخ والأطفال. أما الفلاح التقليدي فقد هجر الحقل سواء إلى المدينة أو إلى الدول العربية الشقيقة. عندما جلست لتناول هذه الظاهرة كان من الصعب عليّ الكتابة عن المصري في الغربة, عن التغريبة نفسها وهو ما كتبه الذين تغربوا. ولهذا جاءت الكتابة عن أثر غياب الذين سافروا, في الواقع الذي تركه كل منهم وراءه. في رواية: وجع البعاد, أقص وأحكي عن الذين غابوا وابتعدوا ولم يعد لهم وجود. وفي بلد المحبوب أحكي وأروي عن الذين عادوا من الغربة, وماعادوا. عندما كتبت هذين النصين, ما كنت قد مررت بتجربة غربة ابني أحمد عندما سافر إلى كندا من أجل عمل دراسات عليا هناك. وهكذا عشت التجربة التي حاولت أن أحياها بعين الخيال من قبل, وأدركت أن الفارق ضخم بين أن يعيش الإنسان حالة إنسانية ما وبين أن يكتب عنها. المصري شديد الارتباط ببلده. في روايتي المبكرة (أيام الجفاف), يصاب بطلها خلف الله البرتاوي خلف الله بالجنون لمجرد أنه ترك بلدته المنصورة وسافر إلى قرية قريبة من دمنهور ليعمل مدرسًا.

أعرف أن المنصورة ودمنهور تقعان في الوجه البحري, بالتحديد دلتا نهر النيل, وأن المسافة بينهما لا تتعدى المائة كيلومتر. ومع هذا يصاب البطل بالجنون لمجرد انتقاله من المنصورة إلى قرية قريبة من دمنهور.

  • تعد السياسة محورًا من أهم المحاور التي ارتكز عليها مشروعك الروائي, وهنا تبرز إشكالية كبرى تتعلق بمسألة الصراع بين رؤيتك السياسية ومقتضيات المعالجة الفنية للنص الأدبي فإلى أي مدى استطعت التغلب على هذه الإشكالية? وما الكيفية التي تغلبت بها عليها?

- أنا لا أكتب أدبًا سياسيًا, ولكن ما أكتبه أدب يطرح همًا سياسيًا. وعندما أعود الآن إلى ما قلته عن هذه الكتابة الجديدة, أو التي كانت جديدة وقت كتابتها منذ أكثر من ربع قرن من الزمان, أكتشف أنني كنت أركز على ضرورة وأهمية أن يكتسب النص شرعيته من شكله الفني أولاً. (يحدث في مصر الآن) رواية (الحرب في بر مصر) رواية, أي أن شرعية النص تأتي من احتوائها على المفردات الجمالية للنص الروائي. عندما كنت أكتب رواية (يحدث في مصر الآن), كنت أتساءل عما يمكن أن يبقى بعد سنوات طويلة من الحدث الجوهري الذي تدور حوله الرواية. إنني أحكي في هذه الرواية عن موكب الرئيس الأمريكي نيكسون, فماذا يمكن أن يبقى من هذا الحدث بعد سنوات?! إن مثل هذه الأحداث ربما يكون لها رنين صاخب وقت حدوثها, وقد لا يبقى منها شيء بعد تقدم الزمن, لذلك لابد أن تتم كتابة الرواية على أساس كونها رواية فقط, يجب أن تأتي شرعيتها من هذا الاعتبار, أيًا ما كان موضوعها وقضيتها, فهي رواية قبل أي اعتبار آخر.. لم أحاول الحفاظ على ميراث الرواية التقليدية في كتابة هذه النصوص: يحدث في مصر الآن. الحرب في بر مصر ثلاثية شكاوى المصري الفصيح: نوم الأغنياء (المزاد) أرق الفقراء. بل إن فيها مغامرة فنية, لن أتحدث عن هذا, ولكن المقالات المنصفة, والرسائل الجامعية التي قدمت عن هذه الروايات الثلاث هي التي يمكن أن تؤكد هذا. وآخرها رسالة دكتوراه مغربية حول آليات السرد في (يحدث في مصر الآن). إن الاشتباك مع الشأن الآني في قصيدة أو مقالة قد يكون مقبولاً, وقد يحقق بعض المراد منه. ولكن هذا الاشتباك إن تم في نص روائي, أو حتى قصة قصيرة, يصبح من الأمور التي تحمل العديد من المحاذير المهمة, والوعي بهذه المحاذير كان مبكرًا, سواء مما كتبه النقاد وقت صدور هذه الأعمال - ولن أتعرض لما كتب رغم أنه من نقاد كبار, لويس عوض وعلي الراعي وفيصل دراج - وأيضا مما أقوم به عادة من مراجعة للنفس لما قمت به, وهذه مراجعة دورية, وأقوم بها بقدر كبير من القسوة أحيانًا.

انكسار الأحلام

  • الفشل والإحباط وانكسار الأحلام قدر معظم أبطال قصصك, فهل ذلك يرجع إلى تراجع المشروع القومي بعد نكسة 67 وتأثرك إلى حد بعيد بها? أم أن ذلك يرجع لأسباب شخصية?

- الأمران معًا.,العام والشخصي, الزمن ومسيرة الحياة الشخصية, الجيل والفرد, السياق العام والخاص. لو أردت الكلام والحكي حول هذه المسألة, لاحتجت إلى مجلدات لأن ما سأحكيه هو قصة العمر نفسها. من المؤسف أنني عشت حتى هذه الأيام, أنا لم أتقدم في العمر بعد, ولكني أقصد ما يحدث للإنسان عندما يحيا حتى يتهدم كل ما بناه, ويتبدد المشروع الذي حلم به, ويكتشف أن كل ما آمن به لا يخضع لإعادة النظر, ولكنه يتعرض لحالة من الانهيار التام والمطلق. الأمور كلها مترابطة. لقد قام مشروعي الروائي كله, من الكلمة الأولى وحتى الآن, ولا أقول حتى الكلمة الأخيرة, لأنه لا كلمة أخيرة أبدًا, قام هذا المشروع على فكرة جوهرية هي الرهان على الجماهير. أكتب من أجل أن تشعر هذه الجماهير أن ثمة خطأ ما في الواقع الذي نحيا فيه, وأن تتحرك هذه الجماهير بالغريزة والعقل والشعور والإحساس من أجل تغيير هذا الواقع إلى الأفضل. أنا ضد تحويل النص إلى مصنع لتصدير الأحلام إلى الناس, وأنا أيضًا ضد التصوير الفوتوغرافي للواقع لأن مثل هذه المهمة قد تقوم الكاميرا بها أفضل مني ألف مرة, ولكني مع الكتابة التي تحرك وجدان من يقرأها. لذلك أراهن كثيرًا على القراءة الإيجابية من قبل القراء. وأعتبر القراء هم الجانب الأكثر أهمية في العملية الإبداعية وأشركهم معي كثيرا في كتابة النص, التي أمارسها كلعبة. ولهذا ظهر المؤلف كثيرًا في أعمالي الروائية, أحكي هذا كله حتى يدرك القارئ عمق دوره في المشروع كله, وإذا بكل شيئ ينهار, كل ما يمت إلى الفكرة بصلة, لم يعد له وجود, ثم لا تريد مني أن أشعر بالإحباط وألا أسكن عند الضفة الأخرى لليأس?

النص أفضل شاهد

  • يعتبر الأدب بمنزلة مرآة عاكسة للتاريخ فهل ترى أن مشروعك الروائي قد استوعب تمامًا هذا البعد?

- من الصعب على أي روائي أو مبدع عمومًا, أن يرجع كل ما يقوم به في العملية الإبداعية إلى عناصره الأولى, وأن يقول إن كتابته فيها كذا وكذا, إن كان سؤالك عن قضية الوعي بالتاريخ سواء لدى الروائي أو لدى مخلوقاته وشخوصه التي يبدعها عند الكتابة الروائية. وإن كان المطلوب مني أن أؤكد أو أنفي وجود هذا الوعي في ثنايا النص الروائي, إن كان هذا هو مقصدك, فأحيلك إلى النصوص نفسها, النص أفضل شاهد. لا مشكلة عند الكلام عن وعي الكاتب بالتاريخ, ولكن المشكلة تكمن عند تناول وعي الأبطال بالتاريخ. ذلك أن الأبطال الذين يتحركون في نصوصي الروائية من الفلاحين, أغلبهم من الأميين. وتحميل البطل الأمي مايفوق وعيه ويتفوق على إدراكه يعكس عيبًا فنيًا, يشكل نقطة ضعف في أي نص روائي, حتى عندما ينطق مثل هذا البطل بالعربية الفصحى, يكون في ذلك خطأ منهجي, إن إنطاق الشخصيات بآراء لا يمكن أن يتوصل إليها سوى المؤلف, خطأ منهجي, وخطأ في الكتابة الروائية. أيضًا فإن جعل البطل الأمي يتصرف وكأنه لديه حس بالتاريخ وشعور به, ربما كان في ذلك بعض الافتعال الذي يقف ضد الكتابة الواقعية التي أؤمن بها وأمارسها, ولا أستطيع أن أحيد عنها, ولكن السؤال الذي يمكن أن يطرح في مواجهة هذه النصوص هو: هل النص فيه وعي بالتاريخ?! لا أقصد أن يكون ذلك مباشرًا, ولكن أقصد روح النص ومعناه والرسالة التي تقف وراء النص كله. وأنا أكتفي بطرح السؤال فقط لأنني أعتقد أن الإجابة عنه ليست مسئولية المبدع نفسه أبدًا.

  • في عصر التلفزيون والحاسب والإنترنت هل مازلت تراهن على القراءة بالنسبة لتوزيع الكتاب وهل سعيك من أجل تحويل رواياتك إلى أعمال درامية مرجعه تراجع عدد القراء?

- لا أسعى أبدًا لتحويل أعمالي سواء إلى السينما أو التلفزيون. توشك الفقرة الأخيرة من سؤالك - وأرجو الإبقاء عليها كما هي - أن تشكل اتهامًا لي, لو كنت أسعى لتحويل أعمالي إلى التلفزيون أو السينما, لكتبت لهذه الفنون مباشرة, والعروض أكثر من كثيرة, أكثر من الهم على القلب كما يقولون. إن حولت هذه الأعمال إلى السينما أو التلفزيون, دون أي تنازلات جوهرية من جانبي فأهلاً وسهلاً, وإن لم تحول فلا مشكلة هناك. رهاني الأساسي والجوهري على قراءة النص, وأي شيء بعد هذا تفاصيل لا يتوقف الإنسان أمامها طويلاً, لا أقلل من أهمية السينما والتلفزيون في مواجهة حالة الأمية بأنواعها المختلفة, وعدم الإقبال على القراءة الذي وصل حتى إلى المثقفين أنفسهم. ومن المؤكد أن القراءة عمومًا تتراجع, ولكن هذه المحنة لا تجعل الإنسان يحيد عن الكتاب, الذي أعتبره الوعاء والوسيلة الجوهرية لإقامة صلة وعلاقة بين المؤلف والقارئ عبر نصه المكتوب, كانت هذه هي قناعتي. ومازالت وستظل.

  • لماذا اخترت النموذج الياباني تحديدًا للكتابة عنه رغم رحلاتك المتعددة إلى بلدان أخرى?

- لست من هواة السفر, ولا من محبيه. وعندما توجه لي دعوة لسفرية, أتهرب وأقاوم, وأبحث عن الأعذار, لدرجة أن السفر يصبح نوعًا من الخروج من شرنقة الحياة التي أحياها. ويمثل انقلابًا للنمط الذي اخترته لحياتي. أصاب بحالة من الارتباك الشديد قبل السفر وخلاله وبعده. ما من سفرية لم أمرض خلالها أو بعد العودة منها, وما إن تمر بعض الأيام على السفرية حتى أصاب بمرض الحنين إلى الوطن بصورة صعبة, حتى الأحلام الليلية تتغير عند السفر. لم يكن هناك أي اختيار للنموذج الياباني أو غيره. سفرياتي كلها دعوات.. اليابانيون هم الذين اختاروني, وقد اشترطت عليهم قبل السفر ألا تكون الكتابة عن بلدهم حتمية, وأن تبقى مسألة اختيارية. ووافقوا, حتى لا تتحول الدعوة إلى ما يشبه عقود الإذعان. كتبت كتابًا عن رحلتي اليابانية لأنني وصلت إلى طوكيو محملاً بسؤال جوهري: لماذا تقدمت اليابان في حين تعثرت مصر?! باعتبار أن مشروع النهضة بدأ في الدولتين في وقت واحد تقريبًا. لي كتاب عن رحلاتي إلى الاتحاد السوفييتي السابق, نشر في فترة سابقة: الكتاب الأحمر: رحلاتي في خريف الحلم السوفييتي, ولدي كتابات كثيرة عن بلدان زرتها, وكلها تندرج تحت مسمى (الكتابات الأخرى), وذلك باعتبار أن الكتابة الأدبية هي الكتابة بالنسبة لي, وأي كتابة غيرها تبقى الكتابة الأخرى, ما دفعني إلى الكتابة عن اليابان أو الاتحاد السوفييتي أو كل الدول العربية الشقيقة التي زرتها أو بريطانيا وفرنسا, هو بقاء قدر كبير من الدهشة بداخلي. مازلت مسكونًا بهذه الدهشة ولم تتبخر. وهذا يجعل من السفرية رحلة اكتشاف من نوع فريد, والكتابة عن هذه الاكتشافات تعد كشفًا بحد ذاتها. في أي رحلة أبحث عن متاحف الفن التشكيلي الكبرى: الأرميتاج في ليننجراد مثلاً. ومتاحف الأدباء والكتاب: شكسبير في ستراتفورد, وكاوباتا بالقرب من جبل فيجي. وديستوفيسكي في ليننجراد, وتولستوي وتشيكوف في موسكو وأبو القاسم الشابي في القرية التي شهدت ميلاده في جنوب تونس الغربي بالقرب من الحدود مع الجزائر. وضريح ابن بطوطة في قلب مدينة طنجة, الذي قضيت نهارًا كاملاً في البحث عنه حتى وصلت إليه, وضريح جان جينيه في قرية العرائش بالقرب من مدينة طنجة. هندسة شلالات الضوء وسط الهدوء المسترخي في المدينة المنورة, حيث الروضة الشريفة وهو مسمى ضريح النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو مكة المكرمة, التي يمكن القول إن أهل مكة أدرى بأنفاقها بعد أن كان أهل مكة أدرى بشعابها.. لا يصبح السفر بالنسبة لي سياحة بقدر ما هو محاولة للقراءة, أقصد استمرار القراءة عن المدن والشوارع والميادين والأرصفة والناس, والمدن مثل البشر لها ملامح, والمكان كما قال صديقي جمال حمدان له عبقريته الخاصة, وظله الخاص ووجهه وصوته وكلامه الذي يفوح من تفاصيله الصغيرة.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




يوسف القعيد





السعداوي الكافوري