الإقصاء عن الفعل الحضاري

الإقصاء عن الفعل الحضاري

فكرة قديمة, وتفسير قديم دأب كتّاب غربيون على طرحهما على فترات, كواحدة من المسلّمات بها في نظرية الحضارة, وبالتحديد في تفسير سبب نشوء الحضارة في العصر الحديث في الغرب وليس غيره, وذلك رغبة في إقصاء غيرهم عن دائرة الفعل الحضاري, ومنعهم من إخراج إمكاناتهم وقدراتهم الخلاّقة في البناء والمشاركة الحضارية, وذلك من أجل استئثارهم بالمبادرة التاريخية, وتكريسًا منهم للمركزية الثقافية. وكان رئيس تحرير (العربي) في مقاله (رأس المال الثقافي... مفهوم جديد وتناقضات عابرة) المنشور في عدد (556) مارس 2005م, وفي معرض نقده ذكر قول لورانس هاريسن في كتابه (مَن يزدهر)...(إن أغلب سكان المناطق الحارة تقل لديهم قيمة حب العمل, ويسود الكسل نتيجة رغبة الأفراد في الهروب من الشمس الحارقة سعيًا للاسترخاء في المناطق الظليلة, وهو دافع بيولوجي يساهم المناخ فيه, ويؤدي إلى اتساع الشعيرات الدموية للأفراد بما يجعلهم عرضة للإجهاد والإرهاق نتيجة أقل مجهود يبذلونه. وهو ما يتحول تدريجيًا إلى ثقافة اجتماعية تفضل العمل داخل المكاتب المكيفة مثلا على العمل اليدوي في العراء). كما ذكر هاريسون المثال النقيض لذلك, وهو ما يظهر من انتشار قيمة حب العمل لدى سكان المناطق الباردة.

وكان الأستاذ وول ديورنت قد طرح هذا التفسير في كتابه العظيم (قصة الحضارة), حيث يقول: (والحضارة مشروطة بطائفة من عوامل هي التي تستحث خطاها, أو تعوق مسارها, أولها العوامل الجيولوجية, وثانيها العوامل الجغرافية, فحرارة الأقطار الاستوائية, وما يجتاح تلك الأقطار من طفيليات لا تقع تحت الحصر, لا تهيئ للمدنية أسبابها, فما يسود تلك الأقطار من خمول وأمراض, وما تعرف به من نضوج مبكر وإحلال مبكر, من شأنه أن يصرف الجهود عن كماليات الحياة, التي هي قوام المدنية...).

والموضوع بحاجة إلى مزيد من الوقوف عنده, فالفكرة - في اعتقادي - لم توضع لتفسير نشوء حضارة الغرب, بقدر ما وضعت لإقناع غيرهم بعدم جدوى أي فعل حضاري ينوون القيام به. ومن هنا تأتي خطورة هذا التفسير في تثبيط همم بقية شعوب الأرض وإقناعهم بالصبر والرضا على ما يكون. وبالتالي إقصاء الآخرين عن دائرة الفعل الحضاري.

وهو طرح لا يبرره العلم, فلم ينتج عن استقراء لواقع الأحوال في العالم خلال فترات التاريخ.

فمنطقة ألاسكا وكندا والولايات المتحدة, ومنطقة أمريكا اللاتينية, بالرغم من وجود سكانهما الأصليين منذ آلاف السنين فيهما لم تنهضا إلا بعد الهجرة الأوربية إليهما, وكان الازدهار من نصيب منطقة الشمال (كندا والولايات المتحدة), أكثر بكثير من نصيب منطقة أمريكا اللاتينية...(المكسيك وجواتيمالا وهندوراس وكولومبيا والاكوادور وبنما والسلفادور وجامايكا), وهذا يدل على أن الإنسان وليس المناخ والطبيعة كان المؤثر.

كما أن منطقة الشرق الأقصى والشرق الأدنى وشمال إفريقيا وآسيا الصغرى, هي التي عرفت بقيام الدول والحضارات من قبل الميلاد ثم بعده.

فقبل اكتشاف العالم الجديد بـ4500 سنة, كانت الحضارة المصرية تبني الأهرامات في الجيزة (3098ق.م . 2988ق.م). والمصريون القدامى هم الذين ارتقوا بالكتابة الهيروغليفية (التصويرية), ثم الهيراطية (المقدسة) ثم الديموطية (الشعبية). وكان عندهم (رئيس الاصطبل الملكي للتعليم), بما يناظر الآن وزير التعليم, حيث أنشأوا المدارس الابتدائية ثم المتوسطة, وأنشأوا مدارس للتعليم المهني, وأنشأوا المكتبات, وأنشأوا نظامًا للتعليم, وارتقوا بالطب والعلوم والآداب, وعندهم ظهرت بدايات الفلسفة (بتاع حوتب). وهم أول مَن نادى على الاقتصار على زوجة واحدة, ونادوا بالعدالة الاجتماعية. وأنشأوا نظامًا للبريد والتعداد. وأول مَن أقام حكومة منظمة نشرت السلام والأمن في البلاد, وأتقنوا صنع الحلي والملابس, واخترعوا الزجاج.

أما السومريون, فقد اخترعوا الكتابة حوالي 3600ق.م, وكذلك ابتكروا أول أنظمة الري, وأول استخدام للذهب والفضة في تقويم السلع ظهر عندهم.

وكذلك ظهر عندهم أول استخدام للكتابة على نطاق واسع في الألف الثالث قبل الميلاد. وأنشأوا أول المدارس والمكتبات, وظهر عندهم النحت والنقش البارز والقصور والهياكل. وكذلك كانوا أول من استعمل المعادن في الترصيع والتزيين وظهرت عندهم أصباغ التجميل.

أما البابليون, فقد أنشأوا الحدائق المعلقة, والتي عدت من عجائب الدنيا السبع, وهم أكثر مَن درس الفلك في العصر القديم. وأنشأوا المكتبات لحفظ المخطوطات, التي تدوّن فيها العلوم والتاريخ والأعمال التجارية والقوانين. وفي بابل, وضع قانون حامورابي في 2117 ق.م 2094ق.م. وظهرت عندهم ملحمة جلجامش, التي ترجع إلى 3000 سنة ق.م.

كما بنوا الزاجورات لتكون هياكل ومراصد لدراسة الفلك والتنجيم, حيث سجلوا بدقة شروق الزهرة وغروبها بالنسبة للشمس منذ العام 2000 ق.م. وأنشأوا خرائط للنجوم, وصوّروا مسارات الشمس والقمر, ولاحظوا اقترانهما, ولاحظوا الكسوف والخسوف, وعيّنوا مسارات الكواكب, وكانوا أوّل من ميّز بين النجوم الثابتة والكواكب السيّارة, وحددوا تاريخ الانقلابين الشتائي والصيفي, وتاريخ الاعتدالين الربيعي والخريفي. وقسموا الدائرة إلى 360 درجة, كما اخترعوا الساعة المائية والمزولة لقياس الوقت.

وكان الاستقراء الأوضح لتاريخ الحضارات في العالم, يبين أن الإنسان وليس غيره من العوامل المساعدة هو المؤثر في التطور, ونشوء الحضارات.

ومع هذا, فالمسألة لا تتيح لنا افتراض نظرية المؤامرة منهم ضدنا, من خلال أطروحاتهم وتفسيرهم لنشوء الحضارات, وإنما يجب أن تكون درسًا لنا, ودافعًا للحراك وفقًا لظروفنا وإمكاناتنا, وبالاستعانة بثقافتنا الخاصة والعلم والتكنولوجيا المعاصرة. وأود هنا التشديد على دور ثقافتنا الخاصة, أو ما اصطلح عليه بـ(رأس المال الثقافي) في أي فعل حضاري مأمول.

أحمد محمد شملان
صنعاء - اليمن

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات