الفن... ومأزق الإبداع

الفن... ومأزق الإبداع

الفن التشكيلي والإبداع البصري في المغرب

كيف نكتب تاريخ الفن التشكيلي في المغرب? وهل يتم ذلك بمراجعة للتاريخ السياسي, لنرى أثر ثقافة المستعمر? أم هل تصبح كتابة تاريخ الفن التشكيلي في المغرب مساءلة ومحاولة لفهم تراكمات إبداعية, وتجارب متنوعة ومتميزة, حضرت في تواريخ متباينة وفي أزمنة متباينة أيضا?!

أعمال كثيرة لا تلتقي إلا في منحى هذا التاريخ الحافل بأسماء الفنانين, وأعمال كثيرة أخرى تشكل منعطفات ومقتربات, لا لحظة لظهورها في إطار المقارنة مع أعمال أخرى كانت مطبوعة بطابع المرحلة, ولا أثر لأحد من الفنانين السابقين أو المجايلين للفنان عليها, وهنا يستعصي الحديث عن مراحل فنية واتجاهات, ويمكن الحديث عن أعمال ظلت معروفة بأسماء أصحابها, كأعمال أحمد الشرقاوي وأحمد الغرباوي ومحمد شبعة ومحمد المليحي ومحمد القاسمي, وأعمال آخرين كثيرين, كلها سعت إلى اقتحام بياض القماش أو فراغ المعنى من أجل أن تمنحه المعنى, متمردة عن أن يكون لها وجود, كحلقة في سلسلة أعمال أخرى, ومتمردة بذلك على أن توجد في قلب لحظة تاريخية ما, لأنها توحي بوجود عالمها في كل أزمنة وتواريخ العالم. وإذا كانت المعاني تتعدد, وأسماء أجيال من الفنانين التشكيليين تتضافر, مكملة أو غير مكملة لبعضها بعضًا, فهل هناك أجيال من الفنانين التشكيليين قادت تجاربُ بعضهم إلى تجاربِ بعض?

هل نطمئن إلى تقسيم اتجاهات التشكيل في المغرب إلى اتجاه يستلهم الفولكلور وآخر غرائبي سحري وثالث تجريدي ورابع فطري, كما أكد على ذلك (راغون) في سنة 1962? أم علينا أن نأخذ برأي (سانت إينيان) فنختصر هذه الاتجاهات الأربعة إلى اتجاهين? أم نذهب مع (بيير جوديبير) في النظر إلى تقسيم اتجاهات التجريد, في الفن التشكيلي في المغرب, إلى انطباعية وهندسية ولاشكلية وغنائية? أم أن التشكيل المغربي قد انطبع بالتوجه نحو اتجاهات أخرى?

التأسيس والامتداد

حقا, لقد بذل كثير من الباحثين والنقاد التشكيليين المغاربة والأجانب جهودا محمودة لمحاولة هذا التأريخ, وكتاباتهم تستطيع أن تقدم بعض الضوء للحظات كانت حاسمة في ظهور الظاهرة التشكيلية بالمغرب, ولكن هذه الجهود تظل في حاجة إلى قراءتها على ضوء التحولات التي صنعتها امتدادات لحظات التأسيس, ولربما كانت قراءة الأعمال الخاصة للفنانين الذين حققوا نوعا من الاستمرار في مزاولة الإبداع التشكيلي تبدو ذات أهمية في الكشف عن مظاهر التأسيس والامتداد, ذلك لأن الإعلان عن المعرض, و(الكاتالوجات) والكتب التكريمية, وإن كانت لها مهمتها التوثيقية, فهي وحدها لا تكفي لتعرف الأجيال الجديدة من المثقفين والمهتمين بالفن التشكيلي حركية الإبداع التي مارسها هذا الفن في بداية القرن الماضي, وفي الثلاثينيات والأربعينيات منه, وحيث وجدت قاعات للعرض ملحقة ببعض الفنادق, أو في بعض الأماكن الخاصة, بل لتعرف أيضًا ما الحساسيات الفنية والجمالية التي كان يتم من خلالها استقبال تجارب الرواد والمؤسسين. كما هي الطفرة الإبداعية تندرج أو لا تندرج في تجربة تشكيلية خاصة لها احتمالها وممكناتها, قد تكون أو لا تكون لها وسائل استيعاب الفنان للموقع الفني الجمالي والثقافي, وقد تكون لها سوق رائجة أو لا تكون, فما الذي ظل يحدث في عالم التشكيل, أهو متاجرة سياحية بالفن التشكيلي, أم محاولة لتجذير الإبداع البصري في متاهات وضعنا الإبداعي والثقافي بالمغرب?

إن كتابة أي تاريخ إبداعي جمالي للحساسيات الفنية في مرحلة من المراحل لا يمكن أن تتم بقدر مناسب من الجدية إلا من خلال شهادة صانعيه, بما هم حاملو ذوات مبدعة ممزقة ظلت تراود قلق الأسئلة, وبما هم أيضا, أسماء لامعة وأساسية في صياغة مباني ومعاني خلق تجربة تشكيلية معاصرة في المغرب, وأعني الأسماء المشار إليها سابقا, إلى جانب فريد بلكاهية, عبد الله الحريري, عبد الكبير ربيع, كريم بناني, ميلود لبيض, الحريري, أحمد العمراني, عبد الكريم الوزاني, عيسى يكن, فؤاد بلامين, وغيرهم ممن سموا بجيل السبعينيات.

ماذا نقول عن الفنانين الذين برزت أعمالهم مع الثلاثينيات والأربعينيات? وهل نحن بصدد إقامة حلقات متسلسلة في تاريخ الفن التشكيلي? أم أن هذه الحلقات غير ممكنة? والممكن هو النظر إلى التجارب والاتجاهات في تزامنها لا في تاريخيتها? أم أن التحقيب بواسطة الأجيال أو المدارس الفنية يمكن أن يفيد? أم أن كل ذلك عبث, وأن ما يمكن أن يكون شاهدا على تاريخ الفن التشكيلي في المغرب هو الأعمال نفسها, لكي تقرأ بالانفتاح الذي يجعل منها أثرا فنيا, لا مجرد شهادة على مرحلة, كما يجعل منها مساحة حرة للإبداع, لا ارتباطا بلحظة تاريخية ذاهبة نحو الأفول.?

حينما تكون الذات الإبداعية والثقافية مسلحة بأدوات جرأتها واقتحامها لفض بكارة الأشياء, فوضعها يدعونا إلى الاقتراب من اللوحة في راهنيتها, كما يدعونا إلى أن نتحدث عن وضع تاريخي لتشكيل مخاتلات واقتناصات لابتهاج العين, العينِ التي تجادلَ فيها المدركُ الحسي البصري الذي أبدع اللوحة التشكيلة, والعينِ التي تتعددُ أبعادُ استقبالِها للوحة, في أبهاء المعارض وخروجها كعين رائية من لحظة المشاهدة الآنية إلى استباقات وشذرات, تحول العالم إلى ابتهاج بكوابيس وأحلام ورؤى وأساطير, يمكن أن تتجلى في الواقع, أو أن تكون لها مضاعفات في هذا الواقع.

بين التشخيصية (الانطباعية والفطرية) واللاتشخيصية (التجريدية والغنائية والهندسية والسوريالية) نهضت مفارقة بين فنانين عصاميين, وآخرين تلقوا الدرس الأكاديمي وتخرجوا في كبريات المدارس الفنية الغربية, وتدل هذه المفارقة على إمكان تصنيف الفنانين وتجاربهم. فهل يكون هذا التصنيف مستمدا من البعد البصري والتشكيل الجمالي للوحة, أم من ثقافة الفنان وتوجيه هذه الثقافة لعمله الفني?

يمكن إذن, أن نقف عند حدود أسئلة جوهرية تقترب من مكونات العمل التشكيلي في المغرب, وذات مبدعة, بانحناءاتها وصعودها, وهي تحرص على أن تكون ذاتا ثقافية وإبداعية, وبإرهاصها على المساهمة في خلق أبعاد إبداعية جديدة متمردةٍ على كل ما يُغَيِّبُ سلطة العين من مرجعيات ثقافية قديمة, ومحتفية بما في تاريخنا الثقافي من لحظات جمالية كان للبصري فيها ارتهانه إلى المستحيل, ومتاخمة أيضا لمعنى اللوحة التشكيلة كما ظهر في الغرب.

لتجذير هذه الوضعية في خضم أسئلة الأصالة والمعاصرة, سوف نجد أنفسنا أمام تمزقات حضارية وثقافية, يستدعي أفقُ تأملِها فضاء الإبداع التشكيلي المعاصر كما عرفه المغرب منذ الثلاثينيات من القرن الماضي وإلى اليوم, وسنجد أنفسنا أيضا, أمام تصارع القيم, وثقافات التأصيل والتحديث, وأسئلة الحداثة والمعاصرة, وتأمل أصالتنا وتحديثنا بوعي جديد.

ولابد من هذه الجرأة, على الأقل, لتنوير طبيعة فضاء معرفي وجمالي وثقافي جديد, يوجد في معترك ثقافة لها أجوبتها المتعددة عن سؤال وضعية التأصيل والتحديث.

إذا كان التحديث يستمد قوته من ثقافة العصر, ومن أنواع وطرائق تشكيل العالم, ومنحه حضورا أكبرَ في الإبداع, فإن الإنجازات التشكيلية التي عرفها المغرب, ومنذ المحاولات الرائدة, قد استثمرت كثيرا من مظاهر دخول اللوحة كثقافة بصرية جديدة على مجتمع كانت له مظاهر أخرى لحسه البصري وجماليات تكريس دور العين في الامتلاء بعوالم تحيل على الثقافة المحلية (الخط العربي, الزربية, لوحة المسيد, المعمار بجميع تنويعاته وفسيفسائه والتراكيب اللونية والهندسية للزليخ, الزخارف, أشكال الحناء, الوشم, اللباس والحلي...).

لكن ظهور اللوحة والمنحوتة كتقليد غربي قد ارتبط بالمتغيرات التي عرفها المجتمع المغربي وفي إطار خلق حداثته التي لم تكن لتلغي ما كانت قد أنجزته الثقافة البصرية كتقاليد جمالية كانت موجودة, بل لتستثمر بعض مظاهرها, سواء على مستوى المواد (الصمغ, الحناء, الكحل...) أو على مستوى استيحاء الفضاءات المحلية واستخدامها كرموز وإشارات.

لن تتحقق الأجوبة على طرح سؤال الحداثة والمعاصرة في الفن التشكيلي الحديث والمعاصر بالمغرب إلا على مستوى الاقتراب من الإنجازات التي طفرت بها الساحة التشكيلية, وهي تؤسس لتاريخها من خلال الأسماء الفاعلة, والمعارض, والتظاهرات الفنية, وهذه المحطات الثلاث, تحتاج إلى قراءة خاصة.

كما هو الحال في مجالات إبداعية أخرى فسوف تتزامن تجارب متباينة جنح بعضها نحو الفطرية, واتجه بعضها الآخر نحو إمداد اللوحة بأدوات مستمدة من الثقافة الأكاديمية ومن قيم الفن الغربي المعاصر.

اللوحة وعمقها الثقافي

في تزامن هذه التجارب على اختلافها ما يشير إلى الكيفيات التي تحقق بها الإنجاز, فرسم اللوحة هو تقليد جديد على مجتمعنا الثقافي في جميع الأحوال, لكن الفطريين, وإن كانت أعمالهم تندرج في المفهوم المعاصر للوحة, فهي تعود بالمشاهدة إلى إحالة اللوحة على عمق ثقافي, يحمل منظوره الخاص وثقافته الخاصة, بمعنى أنه يحيل على مدرسة تشكيلية (هي التي سميت بالفطرية) تسعى إلى تفجير لاوعي الفنان ومخزونات ثقافته الشعبية, وبكل ما يمتلك هذا التفجير من معان, بينما نجد في أعمال كثير من الفنانين ما يسمح لنا بتصنيفها في إطار التجريد أو التشخيص أو الرمزية أو الانطباعية أو الهندسية وغيرها من المدارس الغربية, على اختلاف أعمالهم واختلاف المراحل والتجارب التي مر بها كل واحد منهم. لفهم هذه الوضعية, التي لا تتعلق بمحاولة تأريخ للفن التشكيلي في مسيرته وحسب, ولكن أيضا براهنيته وامتداداته, يجب النظر إلى محاولة تفسير هذه القطائع بين لوحة فطرية تستمد وجودها من الرغبة في التعبير الحر, ولوحة تمارس تجريبها على التقنيات والهندسية والخطوط والألوان والدلالات الممكنة, التي يمكن أن يمنحها الفنان لعمق التعبير البصري .. هي لحظة تتقاطع ولاشك, بين وعيين بصريين, ويمكن أن تفسر من الخارج بعصامية الفنانين الفطريين وبلجوء الفنانين الآخرين إلى تثقيف الذات عبر الدراسة الأكاديمية والانخراط في الفعل الثقافي والإبداعي على المستوى الوطني والعربي والعالمي, واتخاذ مواقف تحدد موقع الانتماء إلى مسارات وآفاق الثقافة والإبداع, وانشغال الفنان بقضايا الوطن ومساهمته مع النخب الثقافية في التغيير في مرحلة تاريخية, كان التغيير شعارا مطروحا لها, من قبل كل من تجاوزوا الوعي القائم إلى الوعي الممكن, بينما ظل الفطريون بعيدين عن هذه الانشغالات, وهذه ملاحظة يمكن أن تُقرأ عدة قراءات. الفطريون يعملون بما تجود به القريحة, وهم مزوقون تعلموا صناعة التزويق, وحولوا مرادها وقصدها من كف اليد الذي تنقش عليه الحناء أو تكتب عليه طلاسم السحرة, ومن سقوف البيوت التي يحفر فيها على الخشب ومن جدران المنازل التي تبلط بالزليج, حولوا القصد, والمراد, إلى عمل تزييني, تكمن وظيفته في جماليته لا في أية وظيفة أخرى. ولم تكن لوحات بعضهم بريئة من احتضانها لمواقع رسمية معلنة في اللوحة نفسها, كتبني المظاهر الفولكورية لا توظيفها, وكرسوم فطرية لوجوه رجال السياسة المعروفين, لا علاقة لها بفن البورتريه, ( الشعبيية, طلال, محمد الحمري), إضافة إلى غياب هؤلاء الفطريين عن أي التحام يمدهم بصلة الاهتمام المشترك سواء مع الفنانين الآخرين أو مع عامة الفاعلين في الحقل الثقافي من جمعيات ومجلات ثقافية وبيانات ومعارض مشتركة, فانشغالاتهم تختلف, وهي محصورة في توسيع سوق أعمالهم, بدعم من وسطاء أجانب, هم الذين روجوا لهذا الفن الفطري, بعد أن كان المحرضون عليه من الأجانب أيضا, بينما نجد الفنانين المثقفين ينخرطون في الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي, ومنهم فاعلون في المجتمع على مستوى ربط الإبداع التشكيلي بمحيطه الاجتماعي, ومنهم فاعلون على مستوى الثقافة, أسسوا المجلات الثقافية وانخرطوا مع الشعراء والكتاب في هم ثقافي وإبداعي مشترك.

هو خلاف أو اختلاف في النظر إلى علاقة العمل التشكيلي بمحيطه الاجتماعي وبدوره الثقافي, كما أنه خلاف أو اختلاف في دور الفنان, هل هو دور يقتصر على الرسم, أم أنه دور مضاعف, يجمع بين الإبداع التشكيلي والاقتراب من هموم وحاجيات المجتمع.

تتأكد هذه القطيعة, ويمكن أن تفسر من الخارج على نحو ما تقدم, ولكن محاولة تفسيرها من داخل الخطاب التشكيلي نفسه قد لا تلقى أي نجاح, نظرا لاختلاف السياقات الثقافية التي تبدو واضحة من جانب, وغير واضحة من جانب آخر, ونظرا لاختلاف المرامي والمقاصد من تشييد عالم اللوحة, ونظرا لتباين الحساسيات الثقافية والبصرية التي تقف من ورائها.

هل تفترض اللوحة التشكيلية تلقيها, أو تلقياتها الممكنة? ومن هو متلقي اللوحة في ظروف وأوضاع المجتمع المغربي والثقافة المغربية? وهل المتلقي هو المستهلك, الذي يقتني اللوحة? سواء أكان فردا من أصحاب المجموعات أو مؤسسة بنكية أو سياحية? أم هم مالكو المجموعات? أم هو المثقف المغربي الذي يرتاد المعارض? أم هو الناقد التشكيلي أو الإعلامي الذي يقوم بتغطيات سريعة لهذه المعارض?

اللوحة الفنية والسوق

يحلو لبعض الفنانين التشكيليين أن يستعملوا عبارة (السوق) التي يعملون على توسيعها باستمرار, كدليل على حيويتهم وحضورهم واستمرارهم في العطاء والإنتاج, ودليل أيضا على تواصل أعمالهم مع مستهلكيها من الخواص, ومقتنيها ممن ينفقون أموالا باهظة على تزيين بيوتهم أو مؤسساتهم التجارية بالأعمال الفنية, وحيث يصل سعر اللوحة إلى أربعين ألف درهم (أربعة آلاف دولار) أو ما فوق ذلك. وهو ما يجعل الناس العاديين لا يرون اللوحة إلا في المعارض, رؤية مبهورة بسعرها حتما, والدوائر الحمراء التي تلصق على اللوحة تعني دائما أنها قد بيعت, أو أنها محجوزة, ناهيك عن أصحاب قاعات العرض, ودورهم في البحث للوحات عن زبائن لينالوا نسبتهم المئوية من المبيعات. أما القاعات الثقافية, مثل قاعة (باب الرواح في الرباط, التابعة لوزارة الثقافة) فهي مناسبة أخرى لترويج من نوع آخر, يفتح (السوق) على النخب, والمسئولين الكبار, وعلى الوزارة نفسها, التي أوكلت لمديرية الفنون التابعة لها أن تقتني لحساب الدولة أعمالا يمكن أن تكون لبنة لتأسيس متحف للفن المعاصر, علاوة على دعم الفنان.

لن نكون متحجري النظرة إلى خصوصية الفن التشكيلي, الذي هو إنتاج يبحث عن مستهلك, بالرغم من أن الضوابط بين الانتاج والاستهلاك غير واضحة, وأحيانا تكون جزافية, فالفنان يبيع توقيعه على اللوحة, لا اللوحة نفسها وحسب. ولن نكون متحجري النظرة للموضوع, لأننا لا نقارن هذا المنحى في الإبداع التشكيلي مع مناح أخرى من الإبداع, تتعلق بالمسرحيين الذين ينفقون على مسرحياتهم من جيوبهم الفقيرة فلا يستردون ما أنفقوه, أو بالشعراء والكتاب الذين يطبعون كتبهم على حسابهم فلا يستردون ما دفعوه, أو المثقفين الذين يؤسسون المجلات الثقافية ويكتتبون من أجل إصدارها والإنفاق على طبعتها فلا تزيد عن أربعة أعداد أو عشرة, كتحد للذات الثقافية وتحد لحضورها بالرغم من بؤس هذا التحدي.

المقارنة غير جائزة, وبعض الفنانين التشكيليين أصدروا مجلات ثقافية, أو ساهموا في إصدارها, كما فعل الفنان محمد المليحي, عندما أصدر مجلة (أنتغرال), أو عندما أصدرت جمعية الفنانين التشكيليين المغاربة مع اتحاد كتاب المغرب, في مبادرة لها دلالتها, جريدة (الإشارة). النظرة البسيطة لخاصية الانتاج التشكيلي أنه سلعة, بالمعنى الرأسمالي للكلمة, لكن فنانين مغاربة قليلين, يرفضون بيع لوحاتهم على فقرهم (الفنان خليل غريب على سبيل المثال), فيما يقبل فنانون آخرون أن يبيعوا أعمالهم بالجملة لمتاجرين (وبعضهم فنانون أيضا) ليسوقوها إلى الخارج (الفنان حسن العلوي على سبيل المثال), فهي مفارقات, يمكن أن تضعنا أمام سؤال: هل للثراء أو للتضحية كنقيضين علاقة بالإبداع? ومتى تكون التضحية من قبل المبدع من أجل أهداف معينة? وما هي هذه الأهداف? ومتى يكون البحث عن الثراء مشروعا تجاريا يتوسل بالإبداع? هل التضحية هي اقتراب من مشروع عدمي, مثالي, يشبه عدمية الفن ومثاليته? أم الرغبة في الإثراء هي حس طبيعي لدى الفنان? وحيث يصبح الإبداع وسيلة للرفاه المادي.

يبقى تلقي اللوحة في إطار الاقتراب من قراءتها (ممارسة النقد التشكيلي), وفي أغلب الأحوال, مجرد وسيلة إعلامية للترويج, وفي أقل الأحوال عشقا, وسؤالا حائرا كما هو سؤال الإبداع, وحتى وإن كان لتلك القراءة عمقها واحتماؤها بمصطلحات ومعجم النقد التشكيلي, ولربما يتغير دور الناقد التشكيلي, من وظيفة تفكيك اللوحة, والكشف عن دلالاتها ورمزيتها وعمقها الجمالي, إلى ممارسة أخرى مقصودة أو غير مقصودة, تندرج في إطار حاجيات السوق.

ظلت العلاقة بين منتج اللوحة (الفنان) ومن يقومون بوسائط استهلاكها (النقاد والإعلاميين) على هذه الحال, لكن الاستثناءات ظلت مجسدة في كون بعض الفنانين التشكيليين المغاربة من الفاعلين في الحقل الثقافي والمنصهرين فيه, قد ظلوا يلحون على القيمة الثقافية والجمالية والرمزية للوحة التشكيلية, وكانت أعمالهم وإنجازاتهم مؤهلة بالفعل, لأن تحتل هذه القيمة.

في زمن مضى من تاريخ التجربة التشكيلية بالمغرب, كان هؤلاء الفنانون هم الذين اقتحموا الفضاءات الشعبية لحياة الناس لتقريب الحس الجمالي البصري من الشعب, وبمعانيه وإنجازاته الخطية واللونية المعاصرة, على شكل جداريات في الساحات العمومية, أو على شكل تحريض الأطفال ونزلاء مصحة (برشيد) العقلية على تفجير مكنونات الذات وتحرير هذه الذات عن طريق الإمساك بالفرشاة والتعامل مع اللون. ولكنهم هم أنفسهم الذين رسموا بعض الجداريات في طوكيو وباريس ونيويورك, ولم يكن في الأمر ما يوحي بمخادعة لوعي بأهمية انتشار اللوحة, وإن كانت الإنجازات التي انحازت إلى تقريب اللوحة والرسم الزيتي على الجداريات ترجع إلى السياقات الثقافية التي حرضت عليها لحظة تاريخية إن كانت تتكرر الآن فهي تتكرر من قبيل التقليد لا من قبيل وضع التجربة في السياق نفسه, الذي أصبح اليوم متجاوزا ولعدة اعتبارات, وحيث أصبح البعض يحمل شعارات مسبوقة كان لها سياقها الثقافي الذي تغير بتغير الأوضاع, التي تربط بين الفنان ومجتمعه, فاللحظة الثقافية تتغير, ومن يظل يجترها لا يمكنه أن يفيد في شيء, لأنه لم يبدع لتغير تلك اللحظة إبداعا جديدا ومناسبا لذلك التغير.

لذلك, فما زال بعض الفنانين المقلدين للأفكار الإبداعية السابقين, يرددون شعارات مثل:

ـ خروج العمل التشكيلي إلى الشارع.

ـ الإبداع التشكيلي مجاله هو الفضاء العمومي.

ـ اللوحة, التشكيلية هي جمالية بصرية يجب أن تحتل البيت ودكان الحلاق والمقهى والفندق والمحطات الطرقية, وكل أماكن الإقامة والعبور.

هل هذا ممكن? أم أن هذه مجرد شعارات, أصبح يرددها بعض الفنانين المقلدين لجيل سابق. انتصر على نفسه, وحاول أن ينتصر على مجتمعه, فجعل من الإبداع التشكيلي فضاء عموميا كما شارك الأطفال والمرضى عقليا في عملية الإبداع?

هذه الوضعية, تخلق الالتباس بين الرغبة في تجذير تجربة الفن التشكيلي في تربتنا الثقافية والمجتمعية, والرغبة في توسيع مجال السوق, أو تقليد ظاهرة ثقافية ارتبطت بالتشكيل, وكانت لها سياقاتها المفتقدة الآن.

كان كل ذلك سوف يصبح ممكنا, لو أن التأسيس للثقافة التشكيلية في المغرب, قد تأسس على استراتيجية ثقافية عامة تعني الكِتَاب والشريط السينمائي والإنتاج التلفزيوني والعمل المسرحي, والأغنية والنكتة السوداء وكل مكونات الثقافة المقروءة والمسموعة والمرئية, وحيث يمكننا أن نتحدث عن منظومة ثقافية متكاملة, تساهم فيها الدولة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات. وما دامت هذه الاستراتيجية تظل مجرد حلم مثالي في واقع غياب أدوات تفعيلها في الراهن, فإن إنتاج العمل الإبداعي التشكيلي في المغرب, يظل محتفظا بأوضاعه المختلفة عن الإنتاج الأدبي والمسرحي والتلفزيوني, ولذلك تبقى الهواجس والرؤى كما تتجسد في الأعمال الإبداعية التشكيلية, تعبر بعمق أو بسطحية, عن رؤية الفنان لعالمه, وتبقى وسائط الترويج مشروعة أو مشبوهة أحيانا, ساكنة في رغاب التلقي والتواصل مع الناس, أو مراوحة لهذا السكون بين الاتجار التسييحي للوحة الفولكلورية في أبهاء فنادق يرتادها السياح, وبين قرصنات مشبوهة للأعمال الفنية, يقبل بها بعض الفنانين أنفسهم, ويساهمون فيها.

وعلى مدار الخمسينيات والستينيات والسبعينيات, وحتى الثمانينيات من القرن الماضي, كنا نستطيع أن نعد الفنانين التشكيليين المغاربة المرموقين بأعمالهم وإنجازاتهم, على رءوس الأصابع, أو في قوائم محدودة العدد, تشير إلى أسماء لامعة, مؤثرة في الساحة التشكيلية, وفي الساحة الثقافية, أما اليوم فيمكن الحديث, وبكل هذا التسريع الذي شاءه زمن قصير, عن مجموعة هائلة من الفنانين التشكيليين.

هل هو تغير في القيم الفنية والحساسيات واقتحام الشباب بطيشه وجرأته لعالم الإبداع التشكيلي? أم هو وضع جديد غامض يجمع بين الارتزاق من الفن, وبين تحقيق الفن لنرجسية الفنان?

صحيح أن الإبداع لا يتغذى إلا بالأسماء الجديدة الفاعلة, وصحيح أيضا أن إقبال الشباب على التعامل مع التشكيل قد أفرز طاقات حية وجميلة, ولكن هذا لا يعفينا من أن نلاحظ استسهال الإبداع التشكيلي وغياب الثقافة عند بعض الفنانين, الذي غالبا ما يعوض بالتطاول والادعاء.

الحداثة المغربية

في العقود السابقة, كان الحديث الثقافي عن لوحات بعض الفنانين, كما لو كنا نتحدث عن علامات تشكيلية, مطبوعة ببصمات الذات, واحتمال أن تكون للعين المشاهدة, لاشتعال حرائق أخيلة هذه الأعمال, كما هي بصمات أخرى لا تنطبع على اللوحة ولكنها تنطبع في ثقافة المشاهدة والتلقي واستشفاف الجماليات من اللوحة على تباين التجارب واختلافها (مسيرات محمد القاسمي, أكريليكات محمد شبعة, هندسيات محمد المليحي, وقبل ذلك أو خلاله, التحولات البطيئة لأعمال المكي مغارة من التشخيص إلى التجريد, وجمع سعد السفاج بين النحت والرسم في عمل واحد, ومغامرة فريد بلكاهية في استعارة شكل اللوحة من أشكال أخرى يمكن أن تكون بدائية أو موجودة في أشكال موجودة, أو إيحاءات فؤاد بلامين بالبعد التقليدي لصباغة الحرير والجلد لدى الصناع التقليديين في فاس, أو جراح أخرى تحملها اللوحة, كما هي جراح ذاكرة فردية وجماعية.

لابد من الاقتراب من الأعمال التي شكلت تاريخا للوحة بمعناها الحداثي في المغرب, وكيف اعتنقت هذه اللوحة المفهوم الغربي للوحة منتمية إلى مدارس أو اتجاهات, أو أغنت ذلك المفهوم وفجرته بارتياد جدلية العلاقة بين الأنا والآخر, والتراث والمعاصرة, بين الشكل والمضمون, وبين موقع الذات والذاكرة والمخيلة من ابتكار العالم التشكيلي, وموقع الموضوع من اقترابه من الذات ليصبح موضوعا للذات, وهذه مجرد طروحات نظرية قد تتعلق بدلالة اللوحة وانتمائها لخرائط الذات والثقافة والمجتمع, والذاكرة والحلم, بما هما تحرر من أسيجة الذات والموضوع, ولكنهما يبنيان تلك القدرة على الانفجار الذي يعود بنا من جديد إلى الذات وموضوعها. كما يمكن للأدوات التعبيرية, من خطوط وألوان وفضاءات تشكيلية أن تحقق مغايرة هي مغايرة الأشكال, وحيث إنها تصريف إبداعي للعالم, تحضر فيه ثقافة الذات وارتدادها عن هذه الثقافة في البحث عن إدراك مغاير لعالم, متقصية كل ممكنات التعبير الجمالي, ومراوحة الموضوع والذات, لكيلا يصبحا موضوعا لعالم اللوحة, فموضوع اللوحة هو لا موضوعها, هو بياضاتها التي تأثث بحركية الخط واللون لكي تتجرد, ربما, عن انعكاس لموضوع الذات أو ذات الموضوع, فالمتاهات قائمة ومتجلية بين تحيين التجربة وأصولها الثقافية والمعرفية والبصرية, وهي متاهات ضرورية لأن لا تكون اللوحة مرآة, بل أن تكون مرآة خادعة تمارس الافتنان والافتتان على وجودها وعلى الرؤية والرائي معا, وبمظاهرِ ومكوناتِ ومواد سحر الإبداع. فلا ممالأة, وهي تجربة بصرية منشودة في عالمنا اليوم, لكي ندرك ما وراء الحسيات البصرية في ممكنات ذواتنا وفي آفاق حاجتنا إلى الثقافة, بما هي امتلاء بذخائر الأصالة والمعاصرة, وبما هي تفجير لعلاقة الذات بموضوعها, وبما هي استشراف لأفق ممكن, وفي حالة الإبداع التشكيلي, فحلم ثقافة جديدة تتجذر في مجتمع اليوم, لن يتحقق إلا بعبور طبيعي بين ما يمكن أن تؤسس له ثقافة الحس البصري وثقافة المكتوب, والمسموع, وفي سماحة تجميل الذات المجتمعية , وهي تقترب من جمال وقبح العالم. لا يمكن أن نبدأ في تجربة الفن التشكيلي بالمغرب من الصفر, متناسين ما قدمته رموز هذا الفن من عطاءات.

ولكن كيف تمتد التجارب وتتسع الآفاق وتتصاهر لإيجاد مرامي العلاقة, بين تحديث اللوحة, ومدخراتها التراثية? وكيف يمكن لهذه الفاعلية الجمالية والثقافية أن تكون لها مراهنات على رمزية الفعل الثقافي والإبداعي, قبل أن تكون لها مراهنات أخرى?

هذه أسئلة لن تغير من مسار الفن التشكيلي بالمغرب, ولكنها تشكل حساسية ثقافية للنظر إلى تاريخ ومسار وتحولات هذا الفن.

 

محمد عزالدين التازي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أحمد الشرقاوي ولد بـ (بوجاد) (المغرب) (1934 - 1967)





محمد القاسمي ولد بمكناس (المغرب) 1942-2004





محمد المليحي 1936, ولد بأصيلة (المغرب)





شعيبية طلال ولدت بـ (شتوكة) (المغرب) (1929-2004)





فريد بلكاهية 1934 فجر # 1984 دائرة قطرها 250 سم حبر على جلد مشدود على خشب





فؤاد بلامين ولد بفاس (المغرب1950)