اليونسكو.. حارس التراث الإنساني

اليونسكو.. حارس التراث الإنساني

سواء كانت رسومًا خطتها يد الفنان الأول في كهوف طاسيلي الجزائرية, أو شواهد من الفن والعمارة بالقاهرة الإسلامية, أوجدارا لمدينة الأديان, العاصمة الفلسطينية; القدس, أو بيوتا ودروبا قديمة في بُصرى الشام, وقيروان تونس, وفاس المغرب, فإنها - جميعها وسواها - تمثل ذاكرة للفن والإنسان على هذا الكوكب. ومن هنا ينطلق الدور الخالد للحفاظ عليها ضمن قائمة التراث العالمي, الذي يضطلع به اليونسكو - ومؤسسات أخرى - وهو الدور الذي أعُدُّه الوجه المقاوم لسطوة المعدن الأصم, وطغيان الخرسانة البغيض, وشراسة القنبلة العمياء, وزحف التلوث الكاسح, وفوضى التعمير المدمرة.

تضطلع منظمة اليونسكو بحماية التراث الثقافي والحفاظ عليه, ودعمه من خلال الدول الأعضاء (187 دولة). ولأكثر من خمسين عامًا, مضت اليونسكو في تنفيذ المشروعات لحماية التراث الثقافي حول العالم, بالتعاون مع القطاعين العام والخاص. كما انبثق من المنظمة عدد كبير من المؤسسات المهمة, التي تستهدف الحفاظ على التراث, وتعد معقلاً للتعاون الدولي, وتكاتف الجهود من أجل الحفاظ على التراث الثقافي.

ويتم ترشيح التراث ليدخل ضمن قائمة التراث العالمي من أية دولة وقعت على اتفاقية التراث العالمي, ويجب أن يتضمن الطلب تعيين برنامج الحفاظ على الموقع التراثي. وإذا نظرنا إلى مجمل المواقع الثقافية (563) فهي عبارة عن آيات معمارية, مثل قصر فرساي, وتاج محل, أو بقايا أثرية من حضارات بائدة, أو نصب تذكارية مثل نصب السلام في مدينة هيروشيما. كما يمكن أن تكون المحميات تمثل منتزهات طبيعية, مثل جبال الألب في سويسرا, أو جبل كلمنجارو. أو خليطا بين الاثنين, مثل حديقة تيكال في جواتيمالا.

بعد الترشيح, وقبول طلب إدراج الموقع ضمن خريطة التراث العالمي, يتم تصنيفه, وتحديد المواقع التي تتعرض للخطر فيه. في إفريقيا - على سبيل المثال - هناك 57 موقعا ثقافيا, و32 موقعا طبيعيا, و3 مواقع مختلطة تجمع العنصرين, وهذا يعني أن القارة السمراء بها نحو ربع تراث العالم الطبيعي ومن بين هذه المواقع الإفريقية جميعا يوجد 16 موقعا معرضا للخطر, مما يجعلها القارة الأكثر تعرضا للخطر مقارنة بستة مواقع مهددة في آسيا, وثلاثة في أوربا, وخمسة في الأمريكتين.

المشروعات القائمة لليونسكو حاليا تضم 27 حملة دولية تشمل مواقع بأبي سمبل, وفينسيا, هاييتي, قرطاج, موهينجودارو, كاتماندو, كوبا, جوريه (السنغال). فضلا عن أكثر من 60 مشروعًا يجري تنفيذها حاليًا لحماية التراث الثقافي. ومن أبرزها أنجكور, وتاج محل, ودوبروفينك, وباجا, وبيروت, وسمرقند, والقاهرة التاريخية, ومنغوليا.

يهدف المركز الدولي لدراسة صيانة وترميم الملكية الثقافية الذي أسسته منظمة اليونسكو عام 1956 إلى الحفاظ الفعلي المؤثر على موارد التراث الثقافي في العالم أجمع. وقد تم إنشاء مقر للمركز في روما منذ عام 1959, ويبلغ عدد الدول الأعضاء حاليًا 94 دولة, بالإضافة إلى 94 عضوًا مشاركًا. ويوفر المركز, بوصفه منظمة فريدة تتعامل مع جميع مفردات التراث منهجًا عمليًا وشاملاً لخلق أو تحسين الظروف المحيطة بعملية الحفاظ على التراث, حيث تنطوي عملية الحفاظ على التراث على إحساس قوي بالهوية الثقافية, وهو سر أهميته في التنمية والاستقرار الاجتماعي. وتتوافق حلقات الوصل بين المركز والأمم المتحدة مع هدف دعم مبدأ السلام في العالم.

وهناك رابط تفاعلي في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والطبيعية تمثله ثروات الماضي وإنجازات اليوم مما يجعلها مصدرًا مستمرًا للمتعة والإثراء, قبل أن تصبح تراثًا للغد, مع إدراك أن القيمة الحقيقية للآثار ليست فقط ما تجلبه من عائد سياحي, والتأكيد على المضمون المعرفي والتعليمي للثقافة, والمناطق التاريخية, وضرورة التمسك بمبدأ منع الضرر, والحاجة إلى ثقافة المشاركة, وأهمية دعم القيم الخاصة بالمجتمع والتضامن الاجتماعي والتماسك.ولا تقتصر جهود المشاركة على الممثلين الدوليين, ولكنها يجب أن تتضمن الأفراد المعنيين لضمان المشاركة الكاملة لكل المساهمين في عملية صنع القرار على مستوى الحكومات الدولية والإقليمية والمحلية, وعلى مستوى المحليات, والقطاعين الخاص والعام, والمجتمع المدني, وكذلك الهيئات الدولية.

إضاءات سريعة

نحن نعلم أن الكوارث الطبيعية والبشرية لها دور بالغ الأثر في تدمير المناطق التي تمثل صفحات من ذاكرة الإنسانية, وقد وضعت اليونسكو قائمة للتراث العالمي داخل المناطق المعرضة للخطر, والتي بلغت 552 منطقة.

في مدينة صنعاء عاصمة الجمهورية اليمنية التي شيدت منذ أكثر من ألفي عام مضت, وهي لؤلؤة في عقد العمارة العربية والإسلامية, قامت منظمة اليونسكو ببدء حملة دولية لإعادة إعمار المدينة وإعادة الرونق لحائط المدينة وبعض المباني تحت التنفيذ. وفي جزيرة جوري بالسنغال التي استُخدمت في القرن الخامس عشر كمحطة لتجارة الرقيق, بدأت اليونسكو حملة دولية للحفاظ على تراث هذه الجزيرة, وذلك بعد إعلانها منطقة تاريخية من قبل السنغال وضمها لقائمة التراث العالمي. تهدف الحملة إلى إعادة الإصلاح وترميم الأضرار التي أحدثها التآكل والعوامل المناخية وإنعاش اقتصاد الجزيرة عن طريق الاهتمام بها لكونها أكبر منطقة للجذب السياحي. يضم البرنامج خططا متعددة الجوانب الحفاظ على التراث المعماري والحياة الاجتماعية والثقافية من خلال تنمية المدارس ووحدات الحرف اليدوية. بالإضافة إلى ذلك, يدعم البرنامج التنمية الاقتصادية من خلال دعم المشروعات الصغيرة وتنمية المرافق السياحية بما في ذلك مراكز المعلومات والفنادق والمطاعم. ختامًا يهدف البرنامج إلى تحسين الخدمات الأساسية بما في ذلك المياه, والصرف الصحي, وجمع النفايات, وتحسين الصحة, وحماية البيئة الطبيعية.

تشمل الإنجازات التي تمت في جوري أيضا الحفاظ على التراث المعماري وإعادة استخدامه, ومن بين هذه الإنجازات الحفاظ على بيت الرقيق وتحويله إلى متحف وتوظيف قلعة استري كمتحف ومركز ثقافي وإعادة الرونق إلى بيت فيكتوريا ألبيس وبيت السودان. وتضم مشروعات الترميم وإعادة الاستخدام الجاري تنفيذها المستشفى العسكري القديم, حيث سيتم تحويله إلى فندق يموله مستثمرو القطاع الخاص من الولايات المتحدة. كما تضم هذه المشروعات ترميم مدرسة ويليام بونتي القديمة ومبنى آخر وإعادة استغلالهما كفندق ومركز تدريب, وترميم بيت هورتالا وبيت الديو جادينج. كما يتم حاليًا تكوين جهود مشتركة في مجال الدعم الفني وإيجاد تمويل عن طريق منظمة اليونسكو وفرنسا وألمانيا والمملكة العربية السعودية والسنغال ومؤسسة فورد ومالطا وغيرها من مانحي القطاع الخاص.

وفي النيبال, حيث يغطي وادي كاتماندو مساحة 570 ميلاً مربعًا ويتراوح ارتفاعه بين 1200 و 1500 متر, ويتوسط دولة نيبال, اتخذت هذه المنطقة لقرون عدة مقرًا للأسر المالكة, ومازال بها آثار تلك الأسر من قصور ومعابد وأديرة. وقد بدأت منظمة اليونسكو حملة دولية للحفاظ على 132 أثرًا في وادي كاتماندو, متضمنة ميدان دوربار في كاتماندو, وميدان دوربار في باتان, وميدان دوربار في بادجاوان (باكختيابور) ويضم هذا الميدان قصر ديجوتال الذي شيّد في القرن السابع عشر, كما يضم أكبر معبد في الوادي وهو معبد تاليجو ماندير, ومول شوك, وسانداري شوك. تلك المباني في حاجة ملحة إلى إصلاحات هيكلية لمنع حدوث المزيد من التدهور. ومن أهم الهيئات والدول المانحة في هذه المنطقة: منظمة اليونسكو, وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية, وصندوق التراث العالمي, واليابان وألمانيا.

أما مدينة إسطنبول بتركيا فقد بدأت اليونسكو حملة تمت على مرحلتين تكلفتا ثلاثة ملايين دولار أمريكي لحماية الأماكن التاريخية والآثار باسطنبول. وتضمنت المرحلة الأولى ترميم أسوار المدينة وإحياء المناطق المحيطة وكذلك منطقة السليمانية التاريخية وإصلاح وصيانة قصر طوب كابيه سراي وآيا صوفيا, إلى جانب أجزاء من قصر يلديز. وتضم المرحلة الثانية - ضمن ما تضم - منطقة القرن الذهبي, فضلا عن منطقة جرمي في تركيا أيضا, بمنطقة كابادوكيا وهي مجموعة فريدة من التكوينات الجيولوجية ذات الشكل المخروطي الذي يبدو مثل المدخنة.

وقد نحتت هذه القمم الصخرية في العصر البيزنطي, واستعملت ككنائس زينت بنقوش جدارية, لكنها أصبحت ضعيفة بسبب عوامل التعرية والتصدع. كما تم تحريف بعض تلك النقوش الجدارية, لذلك رعت اليونسكو حملة دولية لحفظ هذه الروائع. وقامت السلطات التركية بإنشاء هيئة تخطيط الحفاظ على إقليم كابادوكيا التي قامت بوضع خطة تستهدف الحفاظ على وادي الكنائس بجوريم وغيرها من المناطق الثقافية المهمة, بما في ذلك الخانات, ومستوطنات كايماكي, وأزكوناك, وتالارين الموجودة تحت الأرض, وبعض المدن المهجورة في وادي زلف, وكذلك مدن أفانوس وإرجوب وأورتاهيسار. كما تتضمن الخطة ترميم البيوت التقليدية وإعادة استخدامها كفنادق ومطاعم وأماكن للفنانين وغيرها من الاستخدامات المناسبة. ووضعت 10 شروط للمباني الحديثة آخذة في الاعتبار تحديد الارتفاعات والمواد المستخدمة في البناء وغيرها من النواحي المعمارية المهمة.

اليونسكو تجدد نفسها, وبعد اتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح (اتفاقية لاهاي, البروتوكول الأول 1954, البروتوكول الثاني 1999), واتفاقية التدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة 1970, واتفاقية حماية التراث الثقافي والطبيعي 1972, تبنى المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم, في جلسته الختامية لدورته الحادية والثلاثين (باريس 2001) اتفاقية التراث المغمور, لتبادل التكنولوجيا والمعلومات حتى يتم توفير أقصى سبل الحماية لهذا النوع من التراث.

وفي المؤتمر الذي استضافته دولة الكويت, ونظمته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (جامعة الدول العربية), بالتعاون مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت 2003), نوقشت هذه الاتفاقية الجديدة لليونسكو في ضوء اتفاقيات جنيف لقانون البحار, ودعم ما لم توفره الاتفاقيات السابقة من سند قانوني, وحماية مادية, للذاكرة البشرية, التي نعرف نحن في منطقتنا العربية, أن البحر جسد جزءا رئيسيا في مادتها ومتنها التاريخي. بالرغم من أن الاتفاقية لم تمتد لتشمل الآثار الغارقة في الأنهار!

شركاء لليونسكو

مع اليونسكو, تقف يدا بيد, مشاريع أخرى, منها برنامج الحفاظ على الآثار وإدارتها بمناطق أمريكا الجنوبية والشمالية والوسطى, وقد حضر دورته رقم 96 في بيرو 24 من المعماريين وعلماء الآثار, الذين ركزوا في هذا الاجتماع الأخير على دعم المناهج العلمية والتنظيمية للحفاظ على التراث المعماري, ونشر الوعي المؤسسي لسياسات الحفاظ على التراث وإدراة الهياكل المعمارية. كما يساهم البنك الدولي في دعم التجارب الثقافية ومنها صناديق الحفاظ على الآثار. وهناك المجلس الأوربي الذي أنشيء عام 1949 وهو محور التنمية المستديمة لإنعاش وحماية البيئة والتراث الثقافي, ففي البوسنة على سبيل المثال, يتركز التحدي على الحفاظ على ما تبقى من المواقع التاريخية التي نجت من أتون الحرب الأهلية. وهناك الصندوق العالمي لحماية الآثار (أسسته مجموعة من المعنيين بحماية الآثار في سنة 1965), وقد ساهم - كمؤسسة خيرية غير ربحية - في أكثر من 165 مشروعا في 52 دولة.

سنجد هناك أيضا مؤسسة سميثسونيان وهي أضخم مجمع للفنون والعلوم والمعارض في العالم, ومقتنياتها من روائع الفنون والعلوم والتاريخ أكثر من 137 مليون قطعة ونموذج, وقد تعاونت في أحد مشاريعها مع حكومة غانا لتجديد قلاع الساحل القديمة, واستخدام تلك المناطق التراثية كمتاحف, مثل المنجم (مبنى إلمينا) الذي بناه البرتغاليون الباحثون عن الذهب سنة 1482, وقلعة ساحل كاب المهيبة - بعده بستة أميال - التي بناها السويديون سنة 1653 واستخدمت كمقر لقيادة الساحل الذهبي البريطاني لاحقا. وتدعم مؤسسة سميثسونيان أيضا المهرجانات الشعبية بتسجيل تراثها الحي وتوثيقه. وتقوم مؤسسة الأغا خان للثقافة بدور مماثل, من خلال ثلاثة برامج كبرى هي جائزتها للعمارة التي تستلهم البيئة المعمارية المحلية في تشييد عمارة نموذجية جديدة, وبرنامج التعليم والثقافة, وبرنامج دعم المدن التاريخية التي تواجه حالات من التحضر السريع, المهدد لبنيتها التاريخية, ويقول د.إسماعيل سراج الدين - في كتاب له عن إحياء المدن التاريخية - إنه خلال الثلاثين عامًا القادمة سوف يزداد التعداد السكاني لهذه المناطق الحضرية - في معظم أنحاء المجتمع النامي - إلى ثلاثة أضعاف العدد الحالي, مما سيؤدي إلى زيادة التكدس والازدحام في مدن تحوي تراثا معماريا عريقا, كالقاهرة وكالكوتا ولاهور, وسيكون لزاما أيضا وجود فكر واع متطور يتفاعل مع قضايا النمو الحضري المتزايد ويضع حدا له, إلى جانب خلق مدن يمكن العيش بها. ولعلها صيحة أخيرة نرفع بها صوتنا, لتقوم في منطقتنا العربية, مؤسسات ترعى هذا الدور, الذي يحتاج إلى شركاء لليونسكو في دوره للحفاظ على ذاكرتنا وتراثنا. نريد مؤسسات ثقافية تستجيب لنداء هذه الذاكرة لحماية تراث الماضي, والاحتفاء بثقافة الحاضر, والتخطيط لمستقبل يحترم الخواص الثقافية.

 

أشرف أبو اليزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لوح بالهيلوغريفية, انتشل من مياه ميناء أبوقير السكندري, ويعود تاريخه إلى عصر نكتانبو الأول





في عمق الصحراء, تحيا هذه الرسوم بأحد كهوف طاسيلي بالجزائر





الكهوف الصخرية في كابادوكيا التركية مجمع للفنون والديانات شارك في صياغتها الإنسان والطبيعة (بعدسة الفنان: جعفر إصلاح)





نافذتان لمبنى على نهر الكاريبي, من الآثار والمواقع التاريخية التي تدعمها الدول الأمريكية, بعد حصرها, وترميمها, وزيادة الوعي بها





صنعاء, جوهرة العمارة العربية والإسلامية, استثمر في تحسين بيئتها التحتية للحفاظ على مبانيها 10 ملايين دولار





يذكر هذا المكان الموحش بتاريخ العبودية حيث كان العبيد يصدّرون إلى العالم الجديد من جزيرة غوري في السنغال