أشجان يمانية.. مختارات شعرية *

أشجان يمانية.. مختارات شعرية *

تصدَّر عبد العزيز المقالح, منذ عقود عدة, المشهد الثقافي اليمني. ولما كانت اليمن - خلال هذه العقود - تعاني العزلة والبعد عن مراكز النشاط الثقافي في العالم العربي, فقد شكل المقالح نافذة ثقافية لليمن على الخارج, وكان ممثلها الأبرز في المحافل العربية والأجنبية. وإذا كان المقالح قد برز وعرف أولا بكونه شاعرا وناقدا, فإنه - إلى ذلك - صاحب تجربة نضالية, وصاحب تجربة فكرية وأكاديمية طويلة. كان له أن يؤسس الجامعة في اليمن, جامعة صنعاء, أسسها وعمل رئيساً لها, إلى أن توسعت وأصبح لها فروع وكليات في أنحاء اليمن كلها.

أطلق المقالح شرارة الحداثة الشعرية في اليمن, وظل قائما على رعاية التجارب الواعدة, فقد فتح المجالات أمام الأجيال الشابة من خلال المنتديات ومجالس الشعر والمجلات والمؤتمرات التي عقدت في اليمن بمشاركات من الخارج.

أصدر المقالح مجموعات شعرية كثيرة, ابتداء من (لا بد من صنعاء) و(مأرب يتكلم) و(رسائل إلى سيف بن ذي يزن), إلى (هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي) و(الخروج من دوائر الساعة السليمانية) و(أبجدية الروح) وصولاً إلى (كتاب صنعاء) و(كتاب القرية) و(كتاب الأصدقاء) و(بلقيس وقصائد لمياه الأحزان)... وقد صدرت أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة مجلدات, ضمن إصدارات وزارة الثقافة والسياحة في اليمن, في العام 2004, حيث كانت صنعاء تحتفل بتسميتها عاصمة للثقافة العربية.

في المؤلفات الأولى, يبدو واضحاً من العناوين تركيز الشاعر على مفردات يمنية مفعمة بالدلالات التاريخية والرمزية, وهي مفردات لم يخل منها شعر المقالح من أوله إلى آخره. لقد سعى المقالح إلى التعبير عن الشخصية اليمنية, حاضراً وماضيا, وكذلك فيما يرجو لها من انعتاق وتطور, وهذا السعي لم يحل دون التعبير عن سيرة ذاتية, أرادهاالمقالح ممتزجة بسيرة عامة هي سيرة المكان أو البلد الذي أحبه. فالمقالح لا يحتفي بسيرته الذاتية إلا لأنها تعبير عن انتمائه العميق إلى كل ما تمثله اليمن من تاريخ عريق, ومن حاضر تتنازعه الآلام والأحلام, ولا يجد أفضل من القبض على روح المكان في صوغ مشروعه الشعري. ففي (كتاب صنعاء) - و(كتاب القرية), على وجه الخصوص - يؤكد المقالح على أهمية انطلاق القصيدة من مكانٍ لها, أي من بؤرة اجتماعية - تاريخية - عاطفية تمنحها أفقا خاصا للقول الشعري. هذه البؤرة, وإن أمكن تحديدها جغرافياً, ليست كياناً جغرافياً فقط, وإنما هي كيان ثقافي, بكل ما للثقافة من أبعاد في الزمان والمكان.

اللغة الشعرية لعبد العزيز المقالح لا تتوسل الفخامة أو التهويل, وتتجنب التعقيد والتنميق. إنها لغة رقيقة تنساب في إيقاعات بسيطة, عباراتها تنحو إجمالا نحو السهولة والشفافية. لم يغادر عبد العزيز المقالح مدينته صنعاء, إلى خارج اليمن, منذ أكثر من عشرين عاما. لقد اختار ألا يفارق المكان الذي تجلى له فضاءً للشعر, آثره على كل فضاء آخر.

القصيدة الأولى

هيَ عاصمةُ الرُّوحِ
أبوابُها سبعةٌ
- والفراديسُ
أبوابُها سبعةٌ -
كلُّ بابٍ يحقِّقُ أمنيةً للغريبِ
ومنْ أيِّ بابٍ دخلتَ
سلامٌ عليكَ,
سلامٌ على بلدةٍ
طيِّبٌ ماؤُها طيِّبٌ
في الشتاءاتِ صحوٌ أليفٌ
وفي الصيفِ قيظٌ خفيفٌ
على وابلِ الضوءِ تصحو
وتخرجُ منْ غَسَقِ الوقتِ
سيّدةً
في اكتمالِ الأنوثةِ
هل هطلَتْ منْ كتابِ الأساطيرِ
أم طلعَتْ منْ غناءِ البنفسجِ
أم حملَتْها المواويلُ
منْ نبعِ حُلْمٍ قديمْ?!

* * *

مكّةُ عاصمةُ القرآنِ,
باريسُ عاصمةُ الفنِّ,
لندنُ عاصمةُ الاقتصادِ,
واشنطنُ عاصمةُ القوّةِ,
القاهرةُ عاصمةُ التاريخِ,
بغدادُ عاصمةُ الشعرِ,
دمشقُ عاصمةُ الوردِ,
وصنعاءُ عاصمةُ الرُّوحِ.
في أعماقِها كَنْزٌ مخبوءٌ
للحلمِ
وفي رحابِها تقامُ الأعراسُ البهيّةُ
وتولدُ منْ الحجارةِ أشكالٌ
وترانيمُ
ويكتبُ اللَّونُ الأبيضُ
قصائدَهُ الباذخةَ
ويدوِّنُ اللَّيلُ أساطيرَهُ المثقلةَ
بعناقيدِ الشَّجَنِ
ومجامرِ الأطيابِ,
على الجدارِ الداخليِّ الأملسِ
لبابِ اليمنِ
كتبَ شاعرٌ يمانيٌّ:
(هيَ صنعاءُ, حانةُ الضوءِ فادخلْ
بسلامٍ, وقَبِّلِ الأرضَ عشرا
واعتصرْ منْ جمالِها الفاتنِ البِكْـ
ـرِ, رحيقاً يضيفُ للعُمْرِ عُمرًا)...
من مجموعة: (كتاب صنعاء)
وطني
هلِ الصبحُ مكتئبٌ
أمْ هيَ العَيْنُ, يا وطني?
هل تغني العصافيرُ
أمْ تصطلي فوقَ نارِ اللَّيالي
مناقيرُها?
أنَدَى الفَجْرِ هذا الذي يتساقطُ
فوقَ بقايا الزُّهورِ البريئةِ,
أمْ دمعةُ الكائناتِ الكئيبةِ?
أسئلةٌ لا قرارَ لها
لا مَدَى..
كيفَ,
منْ أينَ تأتي الإجابةْ?!

1/7/1997م
من مجموعة
(تأملات)

* * *

بداية أم نهاية?

يغمضُ عينيهِ على حُلْمٍ
تكاثفَتْ على طريقِهِ الألوانْ
يفتحُ عينيهِ على رُعْبٍ
تشابكَتْ فوقَ رمادِهِ الجدرانْ
لم يبقَ في خرائبِ القلبِ
مساحةٌ لطعنةٍ
ولا مكانْ..
يا سيّدَ الأكوانِ
هل هذا الذي نرى بدايةُ الطريقِ,
أمْ نهايةُ الزَّمانْ?

8/7/1997م
من مجموعة
(تأملات)

* * *

هروب!

اهجروا قفصَ الصمتِ
ولتنهضوا منْ مراقدِكم
منْ زمانِ الوُجُومْ
ربما صارتِ الأرضُ
مقفرةً بعدَ حينٍ
إذا رحلَ الناسُ عنْ شَرِّها
ومخاوفِها,
صوبَ تلكَ النجومْ..
فابحثوا عنْ مكانٍ هناكَ
لكم
ولأحفادِكم,
أو فكونوا غذاءً لأرضِ السَّمُومْ.

15/7/1997م
من مجموعة
(تأملات)

* * *

لؤلؤ الندى

كانتِ الأرضُ خضراءَ
منْ غيرِ سُوْءٍ,
وكانَ الندى لؤلؤاً
والعناقيدُ ماءْ,
كانَ لونُ الحياةِ كما ينبغي
والزَّمانُ كما ينبغي..
يا إلهي لماذا تغيَّرَتِ الأرضُ
والناسُ,
صارَ الندى حَجَراً
والأغاريدُ صارتْ بكاءْ?

22/7/1997م
من مجموعة
(تأملات)

* * *

ليت الفتى غيمة

يهبطُ الغيمُ
فوقَ جبالِ مدينتِنا,
فأراها وقدْ رحلَتْ خَلْفَهُ
تتعلَّقُ شُرْفاتُها بمواكبِهِ,
وأرى طفلةً
منْ نوافذِ بيتٍ قريبٍ
تداعبُهُ بمناديلِها الوَرَقِيَّةِ..
آهِ ليتَ الفتى غيمةً,
آهِ ليتَ الفتى نافذةْ.

29/7/1997م
من مجموعة
(تأملات)

* * *

التباس

حينَ ماتَ النهارُ
بكى الضوءُ
والظِّلُّ,
واستيقظَ الحزنُ
في ورقاتِ الشجرْ..
أيها الموتُ
ما عادَ وجهُكَ ملتبساً
ومخيفاً,
لقدْ صارَ وجهاً أليفاً,
كوجهِ المطرْ.

13/7/1998م
من مجموعة
(تأملات)

* * *

جيل!

هوَ جيلٌ بلا أمَّهاتْ
أرضعتْهُ الخنازيرُ منْ لبنٍ
لا براءةَ فيهِ
ولا حُبَّ..
ليتَ الزَّمانَ الذي يتأرجحُ
بينَ الكآبةِ والموتِ
بينَ البراءةِ والحقدِ
بينَ الصَّلاةِ وبينَ الصديدْ,
ليتَهُ يتوقَّفُ فالأرضُ حبلى
بما لا تريدُ
وما لا يريدْ!

24/3/1998م

أشجان يمانية

(1)

هل عرفتْ أعينُكُم في الأرصفةِ المهجورةِ
معنى الدَّمْعْ?
في المنفى احترقَتْ عيني شَجَنا,
صارَ الدمعُ بعيني وطنا
شربَتْ عيني ماءِ الحزنِ
انفجرَتْ..
أينَ الضوءْ?
شَبَحُ امرأةٍ ظلَّ ينادي وجهي
منْ خلفِ اللَّيلْ
حينَ خلعْتُ ثيابَ المنفى
غابَ القمرُ المشتاقْ
ضاع كتابُ العشّاقْ..
مهلاً يا قدمَيَّ الذّاويتينِ
الدَّرْبُ أفاعٍ
والرِّحْلَةُ زيفٌ.
التَّذكرةُ الأولى ثعبانْ
والتَّذكرةُ الأخرى تمساحٌ
فلتقرأ أقدامُ النَّهْرِ تذاكرَها,
ولنتوقَّفْ
حتى يتفجَّرَ ماءُ الفَجْرِ منَ الصخرةْ
ومنَ الجَمْعِ الحاشدِ يولدُ إنسانْ.

(2)

يتملَّكُني حزنُ كلِّ اليمانينَ
يفضحُني دمعُهم,
جُرْحُهم كلماتي
وصوتي استغاثاتُهم,
يتسوَّلُ في الطُّرقاتِ الصَّدَى
كلَّما قلتُ: إنَّ هواهم سيقتلُني
ركضَتْ نخلةُ الجوعِ في ليلِ منفايَ,
فانتفضَ العمرُ,
وارتعشتْ في الضُّلُوعِ دفوفُ الحنينِ
وبينَ عيونِ نخيلِ (الجنوبِ)
وكَرْم (الشَّمالِ),
يقومُ كتابُ الهوى
تتدلَّى عناقيدُ بهجتِنا
يغضبُ الرَّمْلُ
ترتعشُ الكلماتُ
تحاصرُها شهوةُ الحقدِ
تمتدُّ حولي أصابعُها..
أيُّ قُضْبانِ سِجْنٍ هنا تِرْتَسِمْ?

(3)

أمشي وراءَ صوتِهِ
يمشي وراءِ صوتي,
حيناً أصيرُ ظِلَّهُ
حيناً يصيرُ ظِلّي,
مَنْ هوَ هذا النّائمُ اليقظانْ?
- الخوفُ عُرْسُ النارْ.
يخرُجُ منْ رمادِ الأمسْ
ينسلُّ منْ رمالِ اليومْ
يرقصُ في جليدِ الغدْ.
- يا فَرَحَ الترابِ أينَ أنتْ?
الخوفُ يرتدي دمي
يمضغُني, أمضغُهُ
نأكلُ بعضَنا
نشربُ بعضَنا.. متى سنفترقْ?

(4)

عذَّبَتْني القطاراتُ
وَهْيَ تصافحُ وجهي مودِّعَةً
عذَّبَتْني الشَّوارعُ خاليةً
ليسَ في الكُوْخِ إلاّ روائحُهم.
أيّها الشَّجَنُ (المأربيُّ) المعتَّقُ
هذا حَصاني
وَشِعْري
وَسَيْفِيَ بِعْني بهم ساعةً
منْ لقاءِ الشَّجَرْ.
يا عيونَ الطُّفولةِ
وجهي هنا يستحمُّ بدمعِ الشَّجَنْ..
هل بعيدٌ عنِ النَّخْلِ وجهُ اليَمَنْ?
هل بعيدٌ أنا عنْ نخيلِ الهوى?
هل بعيدٌ أنا عنْ زمانِ المطرْ?
فَخُذوا لغتي
وكتابَ حياتي,
اهْبِطوا بي على صفحةِ الماءِ
نارُ الدُّمُوعِ تُذَوِّبُني
ودمي يستوَّلُ وجهَ الرِّياحْ.

(5)

- إنّهُ موسمُ النوم..
قالَ, وعيناهُ مفتوحتانِ
تفتِّشُ في قَعْرِ إحداهُما
عنْ بقيّةِ إغفاءَةٍ شاردَةْ:
- إنّهُ موسمُ الحزنِ.
قلتُ, وكانَ الصَّدَى, مثلَ زِنْجِيَّةٍ
يتلفَّتُ خلفي,
وكلُّ الممرّاتِ مغلقةً باردَةْ:
خنجرُ الأرقِ المتوهِّجِ في صدرِهِ
يكتبُ الجُرْحَ.
مالَ جبينُ النَّهارِ
بَدَتْ آهةٌ في فمِ الشمسِ مكتوبةٌ,
- إنّهُ موسمُ الحزنِ,
صفراءُ في لونِ آهاتِنا شَجَراتُ الحقولْ,
المقابرُ,
والعشبُ أصفرُ
أسودُ,
والملتقى.
- أيُّ فصلٍ منَ العامِ هذا الذي جاءَنا?
- إنّهُ..
إنّهُ وجهُ كلِّ الفصولْ.

(6)

في العَتْمَةْ..
وطني وأنا نسهرُ
نشكو للرِّيْحْ..
نرسمُ وجهَ المنفى
نتساقَى أكوابَ الدَّمْعْ.
حينَ يغالبُني السُّكْرُ أراني وطني
وأراهُ أنا
مَنْ مِنّا الوَطَنُ / المنفى?
مَنْ مِنّا الجُرْحْ?!
يا نارَ الماءِ اقْتَرِبي..
مُدِّي ظِلَّكِ فوقَ عظامي
فوقَ عظامِ الوطنِ / المنفى,
فوقَ الجِذْعِ المتفجِّرِ بالدَّمْعْ.

(7)

أسيرُ,
يسيرُ الطَّريقُ معي
ثمَّ أعدو ويسبقُني
قَدَماي تَسَمَّرَتا..
هل أنا حَجَرٌ في خطوطِ البدايةْ?
مدينةُ عشقي تُنادي
ومنْ خلفِها تتدلَّى العناقيدُ,
كالبحرِ غامضةٍ تتبسَّمُ (مأربُ)..
سيّدتي ليسَ ذنبي,
تصالحَ - في قتليَ - النفطُ
والرَّمْلُ
هل تسمعينَ أنينَ حروفي
سآتيكِ يوماً.. سآتيكِ
يا لَلطَّريقِ.. أسيرُ عليهِ فيسبقُني
ثمَّ أعدو فيسبقُني,
هل أنا حَجَرٌ في خطوطِ البدايةْ?
(صنعاء 1961م)

  • من مجموعة (رسالة إلى سيف بن ذي يزن)

---------------------------
* ينشر بالاتفاق مع سلسلة كتاب في جريدة, التي تصدرها اليونسكو

 

عبد العزيز المقالح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الشاعر اليمني د. عبدالعزيز المقالح