يوميات (أرق الصحراء)

يوميات (أرق الصحراء)

بصدور يوميات (أرق الصحراء) (2005), يوسع الشاعر العماني (سيف الرحبي) من متنه السردي الذي كان استهله بعمل لافت على (حوار الأمكنة والوجوه) (1999).. في موازنة بين الكتابة في جنسين إبداعيين: الشعر والنثر.

(أرق الصحراء) وما سبقتها من تجارب إبداعية يؤسس ـ إذا شئنا ـ لسيرة ذاتية كبرى هي في الجوهر والأصل سيرة الشاعر, كما أنها سيرة الفكر والفن وإنتاج الجمال.

تقع (أرق الصحراء) - والتي صدرت عن دار الانتشار العربي في بيروت - بما هي يوميات كما سلف في خمسة فصول, هذه تبدأ من مسقط, وتطول بيروت والقاهرة, إلى ما يتم استحضاره وتذكره في سياق الكتابة وإنتاج المعنى, ويتم ختم المؤلف بنصوص يؤشر عليها بعناوين وليس أياما كما السابق.

بيد أن الناظم الجامع والموحد لمسار إنتاج المعنى في هذه اليوميات, يتمثل أساسا في الاسم العلم المدون لهذه اليوميات والمحيل على الشاعر الذي عاش التجربة, وعمل على تدوين تفاصيلها والتقاط دقائقها على السواء, إلا أن اللافت كون التدوين لا يتم ويتحقق بالاستناد إلى التاريخي مجسدا في اليوم والشهر والسنة, وفق ما طالعنا مثلا في يوميات عبد الله العروي أو محمد خير الدين أو سلفادور دالي, وإنما يكتفي بالتركيز على الأيام في نوع من التتالي, بحكم أن المكتوب هو في الأصل يوميات, وهذا ما يمنح الكتابة منطقها الصارم إلى قوة بنائها.. على أن ما يستنتج من قراءة هذه اليوميات هو أنها تدور زمنيا بداية التسعينيات, بل إن بعض أجوائها تحيل على حرب تحرير الكويت, وإن كان الاستحضار يجلو ما هو أبعد من هذا التاريخ, كأن يتم الحديث في إحدى اليوميات عن لقاء جمع بين يوسف الخال وأدونيس ونزار قباني.

يضاف إلى الاسم العلم, العناية الدقيقة باللغة, ذلك أن الكاتب حرص على الكتابة الوصفية ذات النكهة الشعرية, والاختزال الدقيق, ومن ثم كان الرصد والمتابعة الأساس الذي نهضت عليه هذه السيرة, علما بالروتين والتكرار الذي يطبع الحياة والذي يوحي به العنوان أساسا: أرق الصحراء.

في أي يوم نحن?

وأعتقد أن بناء اليوميات المغلق يصب في ذات المنحى والاتجاه:

(في أي يوم نحن الآن? الأربعاء, الخميس, الأحد?

في أي ساعة وزمن وتاريخ?. لا أكاد أتبين علامات الأزمنة..) (9).

إن تلقي (أرق الصحراء) ككتابة يومية تعكس حياة مثقف وشاعر عربي, تدعونا للوقوف على المستويات التالية:

المستوى الزمني

أسلفنا سابقا أن هذه اليوميات لا تخضع للدقة الزمنية التاريخية, ولئن كانت تدون بشكل يومي إلا فيما ندر, ومن ثم تغطي وقائع ذاتية محلية وخارجية, ذلك أن ما يطبع الداخلي يتميز بالتكرار والاستعادة, فيما الخارجي يتفرد بالتجديد وببعد الحرية, حيث تجد الذات متنفسا للاختناق الذي تعاني منه, وكأن الخارجي مفتوح على الحياة والحرية, وفي هذا المستوى الزمني فإن الكتابة قابلة للاستمرار والديمومة:

(عام 1990) (ص/18)

(نحن في شهر أكتوبر) (ص/26)

إن انفلات الزمن في تصوري, وفي هذه اليوميات بالذات قصد إليه قصدا, إذا ما أخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلة المتحدث عنها, إلى نوعية الأحداث التي يتم وصفها وتدوين تفاصيلها.

وموضوعة السفر في هذه اليوميات, وهو ما يكاد يجعل هذا النوع من الكتابة الذاتية يتداخل وأدب الرحلة, قد قاد إلى تعدد الفضاءات, ليبقى الفاعل فيها ضمير المتكلم المحيل على الشاعر سيف الرحبي, فمن الداخلية متمثلة في عمان بمدنها, وهو ما طال الفصلان الأول والثاني, وهما معا من أطول الفصول في هذه اليوميات, حيث تبرز قوة الصحراء عاكسة أثرها على الشاعر, إلى القاهرة وبيروت, وهما عاصمتان ثقافيتان لهما قوتهما ومبرر قصدية اختيارهما للتدوين والحديث, إلى ما يتم استدعاؤه وتذكره من مدن وعواصم بعضها غربي وآخر عربي.

بيد أن خاصة الوصف هي ما منح الكتابة بلاغتها وقوة معناها, وبالتالي هو ما جعل المقارنة تحدث مثلا بصدد القاهرة بين زمن الدراسة, والراهن بامتداداته وتحولاته.

قوة الفكري والثقافي

قد يذهب البعض إلى أن بإمكان الجميع تدوين يومياته الحياتية, إذا ما تم امتلاك صيغة الكتابة والتأليف, لكن القيمة الحق تنبع أساسا من البعد الاعتباري الذي يحوزه المبدع, إلى قوة حضوره في المحفل الثقافي والفكري, من ثم يكون لفن اليوميات صداه ووقعه, خاصة إذا ما كانت اليوميات تجيب عن العديد من الأسئلة التي تعد بيضات في حياة الكاتب والمبدع, لذلك فإني أعتبر يوميات (أرق الصحراء) الصورة التمثيلية لواقع وحياة المثقف العربي, النابعة من متابعته الدقيقة للمسار الثقافي, إلى جرأة الرأي التي تميزه على المستوى السياسي والفكري, بالإضافة إلى حضور الحس النقدي لما يتعلق بالأعمال الثقافية والأدبية.. واللافت بخصوص هذه اليوميات, كونها تضيف إلى معلوماتنا معارف جديدة على مستوى الواقع والخصوصية المحلية, مما يعد مجهولا بالنسبة إلينا.

ومثلما تحفل هذه اليوميات بالهم السياسي والثقافي الفكري, فإن فن السينما يستحضر في حالات التمثيل عن واقعة أو في حالات المشابهة والمقارنة.

(أقرأ حتى تختلط الأسطر أمام ناظري (كيف لا يختلط مداد الكتب بالليل)) (ص / 17)

((نيتشه) الذي اعتبر شكسبير بكامله عبقرية جدباء) (ص /22)

(أليس (ديستوفسكي) من قال: الجمال هو المنقذ الخير للعالم?) (ص / 67)

(السينما جزء من ذاكرتنا الثقافية والحياتية) (ص / 35)

تبقى هذه اليوميات, بمنزلة التأريخ لمرحلة في حياة المؤلف من ناحية, كما أنها تعد شهادة واقعية يتقلص فيها الخيالي ليفسح للواقعي قوته وجاذبتيه المميزة له.

 

سيف الرحبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات