مساحة ود

 مساحة ود

ماذا لو.....?

ذات مساء جميل, وبين أشجار الحديقة, التي يطل عليها بيتي, أحببت أن أفترش عشب الأرض الطري الذي يمتد كبساط من إستبرق, مدغدغًا أقدام الأشجار, التي آثر أن تكون مليكته.

ووجدتني أستغرق في مراقبة اللؤلؤات السماوية, وأهيم فيما حولها من فضاء, فشعرت بالضآلة لما رأيت رحابته وامتلاءه بالكواكب والنجوم اللامعات, وسألت نفسي في دهشة: كم من كوكب يطل علينا?! وكم نجمًا يومض على البعد مرسلاً لنا التحية?! فلما هبط نظري إلى كوكبنا, رأيت فيما يرى النائم رجالاً تتفاوت أطوالهم, يسيرون على سطح الكرة المحدب هنا وهناك في كل مكان, فأردت أن أرى عظم قاماتهم, فانبطحت أرضًا, وأخذت أنظر إليهم كما نملة تتفقد الكون حولها, فرأيتهم عماليق فارهين, واستعظمت في نفسي هذا الكائن...(الإنسان).

وأكبرت ما قدمه لهذه الحياة من حضارة وابتكار, ولم أستكثر عليه ما يشعر به تجاه نفسه من عز وثقة وافتخار, لكن تأملي فيه لم يدم طويلاً, فقد هزني وقع أقدامه حولي, فخشيت إن ظللت في مكاني أن تحطمني الأقدام اللامبالية بوجودي, فأصبح مثل نملة سليمان, التي قالت لجماعة النمل لما رأت سليمان وجنوده: ادخلوا مساكنكم.

فانتفضت واقفة, فرأيتني بين جماعة الناس مخلوقًا يماثلهم خلقة وعظمة, إن صح التعبير, وبدأ ما دب في قلبي من خشية ورعب يتلاشى شيئًا فشيئًا حتى سخرت من نفسي لأني ولوهلة خامرني بعض الخوف من هذا الكائن العجيب الجميل.

ولما كنت مولعة بالتحليق والطيران, فقد قررت أن أحط على فرع مائس في تلك الحديقة, كان يغريني بنضارته وجماله, فبدت لي هذه الكائنات متأقزمة قليلاً, وصار الكون من أعلى الشجرة أكثر رحابة في عيني, فأخذني الهوس بالارتفاع إلى أن أطلق جناحي للريح, وظللت أعلو, وأعلو..وكلما زاد ارتفاعي تأقزمت تلك الكائنات حتى كادت تتلاشى, صرت أراها من بعيد كأسراب نمل تسعى هنا وهناك, ملأت صدري بشهيق لذيذ, وأطلقت قرقعة صوتي للريح, التي آن أن تحط بي على قمة جبل شاهق...ما هذا الجمال!..ما هذه الرحابة يارب!!...وما هذا الاتساع الذي يضيق بنا على سطح الأرض!...أخذني تأملي بعيدًا بعيدًا..ياالله...ما أصغر هذا المخلوق...وما أضعفه...ذلك الإنسان...ليته يأتي هنا ليرى نفسه على حقيقتها, مخلوق متأقزم متلاش لا حول له ولا قوة إلا بما رحم ربي, ووجدتني أصب جام غضبي عليه, لو علم هذا المخلوق مقداره الحقيقي لامتنع عن الكبر والخيلاء, لكفّ يده عن البطش والظلم, وكفّ لسانه عن الكذب والرياء والفحش والنميمة.. و... و

ياإلهي...كم هذا المخلوق بشع, يدب على الأرض كأن لاشيء في الكون يماثله, ولاشيء في الكون يهزمه, ورأيتني من فرط غيظي وألمي, نسيت أن أكون, نسيت أني منه, لم أكن أرى ما رأيت الآن, كنت أفعل فعله صباح مساء, تقتلني العنجهية والكبر, ويميتني الصلف والغرور, مسكين فعلاً هذا المخلوق, دائمًا يرى نفسه من منظور نملة, ولم يفكر أبدًا أن يتخيل نفسه في نظر طائر, ماذا لو أتيح له ما أتيح لي?! ربما تغيّر الحال, وأصبح يرى في كل ما حوله وجه الله وقدرته.

نظرت إلى السماء فرأيت نور الله يغمرني, وشعرت بكل كياني أنه يراني ويسمع همسي وأنا في مكاني لا أكاد أرى أبناء جنسي, فما كنهه هذا الإله العظيم الذي يرانا جميعًا ولا نراه, ويسمعنا ويفهمنا, ومن فضله يرزقنا نحن وسائر المخلوقات, فما من دابة على الأرض إلا كان الله رازقها, فما بال الإنسان الباطش المغتر بذاته لا يشكر ولا يذكر ولا يتعظ?!

 

حنان عبدالقادر