جمال العربية

جمال العربية

الشعراء وعشق المدن القديمة
شوقي بغدادي والبحث عن دمشق

العلاقة بين الشاعر والمكان, تعني حضور الوطن في وجدان الشاعر وذاكرته. والوطن ليس مجرد أحداث وذكريات ومواقف متراكمة, لكنه نقْش أيام وتتابع أعوام وفيض عطور وأنسام ازدحمت بها الرئتان, وخيالات وأحلام امتلأْنا بها تحليقًا, وواقع شاخص أبدًا, يتغير في خارجنا, لكنه يظل كما هو في داخلنا, قابعًا مستقرًا, نبحث عنه, ونتأمل ما طرأ عليه من تغير وتشويه وتدمير, لكنه - في نفوسنا - يظلّ على بهائه القديم, وصورته النديّة, وقسماته وملامحه المتوهجة بالشجن والحنين.

وشوقي بغدادي: الشاعر السوريّ صاحب المسيرة الحافلة: إبداعًا وحيوية ومشاركة, وقدرة على الميلاد متكررة في أعماله الشعرية, ما يكاد يودع مرحلة حتى يستقبل أخرى, أو يُسقط عنه بعض شواغل الحياة وأوضار الأيام حتى يصفو من جديد, ويتهيأ لإبداع مغاير منذ كان ديوانه الأول (أكثر من قلب واحد) (1955) حتى ديوانه الأخير (البحث عن دمشق) (2002) مرورًا بدواوينه المتتابعة: لكل حب قصة, أشعار لا تُحبّ, بين الوسادة والعنق, صوت بحجم الفم, ليلى بلا عشاق, قصص شعرية قصيرة جدًا, عودة الطفل الجميل, رؤيا يوحنا الدمشقي, شيء يخصّ الروح.

ومنذ البدايات الأولى لشوقي بغدادي, منذ الخمسينيات, وهو شاعر يعرف ويجيد ما يقول: لغة وإحكام صنعة وأدوات, لديه عدته المذخورة من خلال عمله بالتدريس لسنوات طوال, واتصاله العميق بالثقافة العربية, والموروث الشعري العربي, وانفتاحه الدائم على الجديد في عالمه العربي, وفي العالم كله من حوله, وهو الانفتاح الذي مكّنه من كتابة: قديم الشعر وجديده, وعودة الاستعمار, وقُلْها وامْشِ, والأوّلان كتابان بالاشتراك, والثالث نموذج في أدب المقالة والخاطرة.

من هنا جاء حضور شوقي بغدادي, وتوهّج صوته الشعري في صورتيه العمودية الكلاسيكية والجديدة الحرّة, وهو في الحالين يجيد ما يقول, مدركًا - بالطبع - أن الشعر الحقيقي يتأبّى على التصنيف, وإنما هو الجوهر الخفيّ, والكيمياء النافذة, التي لو مسّت الحجر لأنطقتْه شعرًا.

ولأن دمشق واحدة من أقدم مدن التاريخ - من قبل أن يكون اسمها (جِلّق) في تراثنا الشعري - فكل من يعيش فيها ويرتبط بها, لابد أن يتملّكه هذا الحسّ التاريخي العريق بالمكان, خاصة في ثوابته الباقية - الشاهدة على مرّ الزمان - والمتغيرات التي تحدث بين الحين والحين, فتغيّر من المعاهد والمعالم والشواهد, التي انغرزت ظلاً وحسّا ومعنى في ملايين القلوب, وأصبحت جزءًا أصيلاً من تصور دمشق, وعندما رحل بعضها, وانزاح عن واقع المعاينة, فإنه استكن واستقرّ في القاع البعيد من الوجدان, تغلّفه حسرة وأسى لا يزولان,من هنا وجدنا شاعرًا دمشقيًا كبيرًا هو نزار قباني يحكي لنا في سيرته الشعرية, ويرسم لوحات بديعة من علاقته الأولى مع البيت والحيّ والحدائق والقطط الشامية والروائح والعطور والزواريب والأزقة, وهو يستعيد تلك الحياة الأولى, حياة الطفولة والصبا, التي هيّأت له مهادًا شعريًا, درج عليه, وانكمش في أحضانه, فكان أمومته الأولى وسحابات حياته الممطرة.

شوقي بغدادي - على طريقته - يبحث عن دمشق, بعينيّ متأمل, ووجدان شاعر, وعقل فيلسوف. يغوص فيما وراء التغيير, وينقب عمّا كان وما هو كائن, ويتساءل - أحيانًا في دهشة طفل, وأخرى في منطق حكيم - عن المعنى, وعن الصيرورة, وعن الزمن الممتد. ويعطي للقطات البصرية, التي تتوقف عندها عدسته الرائية, المتابعة لتغير المكان, دلالات أوسع وأرحب وأعمق, مُهديا كلماته - في هذا السياق - إلى عشاق الأماكن القديمة قبل أن يفقدوها, كما فقدوا زمانهم القديم. آملاً (أن تغدو كتابته غناء خالصا للروح, وذكريات العمر الجميل مع أعرق مدينة على وجه الأرض, وقد بدأت معالمها الأصيلة تختفي أمام الزحف الأخرق لحضارة هجينة, وصار ضروريًا البحث عن تلك الأصالة الجميلة, وحمايتها شعرًا على الأقل, والكشف عنها صوْنًا للذاكرة الإنسانية والوطنية من التشويه والمسْخ اللذين يهدّدان البشر والبلد).

يقول شوقي بغدادي في قصيدته (البحث عن دمشق):

لا يُمكن أن توجد أغصانٌ
مثل ذراعيَّ
إذا أطلقْتُهما
أجمعُ بينهما الدنيا
لا يُمكن أن تمتدّ جذورٌ
مثلُ جذوري
أعمقَ في الأرض
إذا أطبقْتُ على الأرضِ
بكفَّيّ وقَدميَّ
وكلِّ خلايا جسدي
لا يمكنُ أن يُسمع صوتٌ
أجملُ من صوتي
حين أُرتّلُ بعض حروفٍ
يتشكّلُ منها اسْمُ حبيبي
لا يُمكنُ أن يعشق مثلي إنسانٌ
امرأةً صامتةً باستمرار
يُؤْسفني ياذات الزنّارِ الأخضرِ
والسّبعةِ أنهارٌ
أنّ مواهبَ هذا العاشِق
لا تتجاوز صحْنَ الدارْ
لاتقدرُ أن تتسلّقَ
أعلى من قافيتيْن
ومجموعةِ أشعارْ
يا أيتها الشمسُ الباردةُ
على حيطانِ دمشقْ
ليس سوى أنبوبِ الألوانِ
المسفوح على الشرقْ
ليس سوى الأصفر فوق الشجرِ
وعند الأفقْ
في (الغوطةِ) فلاّح مذهول
يتساءلُ
كيف يموت البقدونسُ والنعْناعُ
بلا سببٍ مفهومٍ
كيف تضاءلت الحبّةُ في شجر المشمشِ
كيف احمضّ الجانَرَّكُ
وتخشّب العوجا
وانقرض الجُمّيزْ
مازال النهرُ يُسمّى (بَرَدى)
والماء يقاومُ ويُصفّقْ
كي يتطهّرَ من طينِ البشرِ
ويخرج مجلوًّا
كعريسٍ من حمّام السوقِ
ليستأنف زفّتَه بين الحارَاتِ
ويختلسَ زيارتَهُ
للقاعاتِ الخاويةِ
وللصالاتِ الموحشةِ
وغُرف النومِ الباردةِ
وبِرْكة بيتَ (الموصلِّى)
الناجية من الموتِ
بفضل مدير الآثارْ
يُؤْسفني يا ذات الزنّارِ الأخضرِ
والسبعةِ أنهارْ
يؤسفني أن أتغزّل بالجمعياتِ الخيريةِ
والسيدة الثانية الطيبةِ القلْبِ
وبالخانمِ تستجدي الرمقَ
لآخرِ بيتٍ (عربيٍّ) ينهارْ
لا يمكنُ أن يوجد عُشّاقْ
فقدوا العقل نهائيًا
مثل السكّان على الأسوارْ
ربطوها أحزمةً حول خُصورِهمو
والتفّوا بمدينتهمْ
كي تهدمَ حجرًا
لابُدّ إذن أن تهْدمهُمْ
مثل الأحجارْ
في كلّ صباح
يرتفع غطاءٌ صخريٌّ
عن ماءٍ مكتومٍ
وبقية أسرارْ
في حيّ (الشاغورِ) تلثّمْتُ
وفي (القصّاع) سَفرْتُ
فما أجداني الحبُّ
سوى مرمرةِ زمانٍ غدّارْ
صيّرني من عشَّاقِ التاريخ
ولمّامي الورد الشاميّ الذابلِ
والياسمين المتناثرِ في الريحِ
وحَبِّ الآسِ المُشحمِ كاللحمِ الأبيضِ
والحلو كشهْدِ النّحْلِ
كما تروي الأخبارْ
أَجهد أن أُرجعَ
للشفةِ العُليا المحلوقةِ شارِبَها
والساعدِ مرخيًّا
قبْضتهُ المرفوعةَ
والشرْوالِ المُتهدِّلِ
زهْوتَهُ الأُولى
والحطبَ لِبيْتِ النارْ
قابلتُ أبا صيّاحٍ في أروقةِ المسرحِ
يتدرّبُ كيْ يرقص بعصاهُ على المزمار
ناديْتُ من الصالةِ مفجوعًا
يامال الشام ارفض دوْرَك
وارجِعْ للمقهى المُتصدّعِ
عند الدوّارْ
ارجعْ للحكواتي الصامتِ
ينتظرُ إشارتَكَ
ليُطلقَ عنترةَ من الأسْرِ
ويُبرّئَهُ من تهمة تهريب الموْزِ
وتسخين الأفكارْ
ناديتُ....
فلم يسمعْني
إلا جُلاّسُ الصفِّ الخلفيِّ
فغادرْنا
كي نُعلنَ رفْضَ النظّارةِ
توزيعُ الأدوارْ

***

شوقي بغدادي يغوص بنا - عبْرَ هذا النصّ الجميل - فيما وراء المنظورِ والمُشاهَدِ والمُتعيِّن. إنه غوْص في الروح, الروح التي انكسرت, وانجرحت وتصدّعت. هذا هو المعنى العميق, والرؤية البعيدة التي تتيح للشاعر امتلاك فضاء القلب والوجدان, واشتعال العقل والفكر, بهذه الصيرورة التي يرى العابر بنظرته العابرة حجرًا يزاح, وجدارًا ينقضّ, وسورًا يُهدم, ومياهًا تغيضُ وزهورًا تجفّ وورودًا تفقد رائحتها, لكن عين المتأمل لا تقف عند هذا الظاهر المرئيّ - على خطورته وعُمْق تأثيره -, إنها تنفذ - مزوّدةً بالوعي الكاشف - إلى هذه المحبوبة العتيقة الساحرة ذات الزنّار الأخضرِ, والسبعة أنهار ماذا دهاها? وما الذي جعل القاعات خاوية, والصالات موحشة وغرف النوم باردة? ما الذي جعل آخر بيت (عربي) ينهار? وطلقة الخلاصة في هذا الوعي المتفجّر, أن هذا الحب الهائل الذي ربط بين الشاعر ومدينته لم يقدم له سوى (مرمرة زمانٍ غدّار)!

في قصيدة ثانية عنوانها: (مع بَرَدى) تكتمل عناصر المشهد الدمشقي, في رؤية المحب القديم, الباحث عن دمشق التي كانت, ويُثري مشهدُ (بَرَدى) ضفافَ الرؤية, ويمنحها بعْضَ ملامحها الحزينة, وحِسِّها المأساوي, والنظرة البعيدة المنكسرة, تعبُرُ غُبارَ الوقت, نافذة إلى مجهولٍ قادم:

بَرَدى
لُعْبتُنا الأحلى
وما في الجسدِ الطفليّ عريان
وما في ذكريات النور والماءِ
من الدغدغة الأولى
ومن فطرة روحٍ تتألّق
يدخلُ النهرُ من البوّابة الكبرى
فيحتالُ على نافذةٍ في الطابقِ الأرضيّ
كي ينسل منها زائرًا
يلعبُ بعْض الوقت في البَحْرةِ
أو تَعْبانَ يُرخي بدنًا تحت عيون الشمسِ
في أرض الديارْ
ماسحًا وجْهَ المُصلين وأيديهم
ومرشوشًا رذاذًا مرِحًا
بين الصبايا يتخابثْنَ
ويسبقْنَ الصغارْ
نافذًا من غُرفِ النومِ
إلى الجيرانِ
يُفشي لهمو سرًّا
ويروي قصةً
من قصص الحبِّ التي يحبكُها الدهليزُ
والسطحُ وعيْنُ المشربيَة
طالعًا في ساحة الحيِّ
نديمًا ساقيًا
حتى إذا غابَ عن الأعْينِ
ظلَّ الصوتُ يهدي مُنعشًا
تحت رنين الخطْوِ
في مجرى السّراديب الخفيّة
فإذا صادفهُ الجامعُ
لم يبخلْ على بِرْكته في الصحْنِ
أن تغدو لمن ينوي الوضوءَ المَطْهَرةْ
ولمن أدّى الصلاةَ المغفرةْ

***

هاهو الآن عريسُ الأرضِ في الغُوطةِ
فالمشمشُ والدرّاقُ والخوْخُ
وكلُّ الأخضرِ الموعودِ بالخِصْبِ فراشُ
فمن النهر ولوجٌ
ومن الترْبِ ارتعاشُ
وصياحُ الحبِّ موسيقى العصافيرِ
وتصفيقُ الرياحينِ
وصوتُ الماء مبحوحًا
فإن شدَّ فقذْفٌ
وإذا ارتاح قليلاً فَرشاشُ

***

ها هنا السرُّ
فإن كانت دمشقْ
مبدأَ التاريخ
والأعجوبَة الأولى
لنهرٍ خارقٍ
في مهمهِ الصحراء يطفو
فأنا الآنَ على الأطلالِ أبكيها
وأسترجعُ تاريخي ونهري
وأرى ماجفَّ
في صورة نبْعٍ لا يجفُّ
يا لَذاكَ الحبِّ
لم يبْقَ من الحبِّ
سوى القرْع على الأبوابِ
والمسْحِ علَى الجدرانِ
في بيْت الحبيبةْ
يا لَذاكَ النهرِ
لم يَبْق من النهرِ
سوى ماءِ النّفاياتِ
وإنْتانِ الرطوبةْ
وأنا أرفضُ
إلا أن أنادي: بَرَدى!
وأرى في بَردى
مُعجزتي أو لوثتي
بحْرَ الخُصوبةْ...

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات