إلى أن نلتقي

   إلى أن نلتقي

محنة العناوين

طالما وجدت صعوبة بالغة في العثور على عناوين ملائمة لمجموعاتي الشعرية التي سبق أن أصدرتها خلال ربع قرن من الزمن. ذلك أنني أعلم تمام العلم ما للعنوان من أثر عميق في نفس القارئ ومن جاذبية فائقة تسهم أغلب الأحيان في تسويق الكتاب ووضعه على طريق النجاح. وكثيرًا ما حدث أن استغرقت شهورًا عدة في البحث عن العنوان الذي أريد والذي يشع بريقه الغامض في باطن الروح دون أن يبلغ مرتبة الوضوح والإفصاح. وإذا كان الشعر مسألة شخصية لا تسمح لي باقتسامها مع أحد, فإن العنوان بخلاف ذلك يتحول إلى قضية عامة تدفعني إلى (طرح الصوت) على الكثير من الأصدقاء والعارفين وجلساء المقهى. لكن كيف لهؤلاء الذين لا يجمعون على شيء ولا يتفقون حول تعريف محدد للشعر نفسه أن يجمعوا على عنوان بعينه? الأمر الذي يضيف إلى حيرتي حيرة أخرى ويدفعني في النهاية إلى حسم الأمر واختيار العنوان الذي يلح عليّ أكثر من سواه وتتوالى ترجيعاته داخل النفس بشكل متواصل. على أن هذه المعاناة لا تخصُّ كاتبًا أو شاعرًا بعينه, بل لعل معظم الكتّاب, والشعراء بوجه خاص, يواجهون هذا الاستحقاق المضني ويعانون من وطأته المرهقة التي لا يملكون تجنبّها. ذلك أن العناوين تلعب بالنسبة للكتب والإصدارات الدور نفسه الذي تلعبه الأسماء بالنسبة للمواليد الجدد. فكما يحتاج كل مولود جديد إلى اسم يعرَّف به ويصبح عبر الزمن جزءًا لا يتجزّأ من هويته, يحتاج الكتاب بدوره إلى عنوان محدّد ما يلبث أن يكتسب هو الآخر قوة اسم العلم ومنزلته ورسوخه.

لكن الأمر بالنسبة للكتب والمؤلفات هو أكثر التباسًا منه في حالة البشر. فاسم الإنسان ليس صفة له ولا اختزالاً لمضمونه ولا محددًا لجوهره وعلة وجوده. إنه ليس أكثر من إشارة رمزية للتمييز بين الأشخاص والدلالة على هويتهم. لا علاقة هنا بين الاسم والمسمى سوى علاقة الاصطلاح والاستدلال. وإذا كان الاسم يحمل معنى الصفة فليس لوجودها في المسمى بل طمعًا في المواءمة بين الصفة والموصوف. أما بالنسبة للكتب والدواوين فالعنوان ليس مجرد اسم رمزي بل هو إضافة إلى ذلك دلالة موجزة ومدخل وتوصيف. على أن الأمر بالنسبة للشعر والفن بوجه عام أكثر صعوبة منه في الكتب والبحوث العلمية. إذ من السهل أن نضع عنوانًا محددًا لكتاب في التاريخ أو الجغرافيا أو الفلسفة أو الفيزياء تبعًا لموضوع الكتاب واختصاصه في حين أننا نواجه صعوبة بالغة في إيجاد عنوان بعينه يختزل قطعة موسيقية أو لوحة فنية أو مجموعة شعرية.

بكثير من التبسيط كان الأقدمون يحلون هذه الإشكالية عن طريق نسبة الشعر إلى صاحبه فيقال (ديوان المتنبي) أو (ديوان الشريف الرضي), أو نسبته إلى موضوعه فيقال (حماسة أبي تمام) أو (روميات أبي فراس الحمداني) أو إلى أسلوبه فيقال (لزوميات أبي العلاء المعري). غير أن تلك التصنيفات باتت متعذرة تمامًا حين بدأ الشعراء يصدرون قصائدهم في مجموعات صغيرة لا ترتبط أغلب الأحيان في فكرة واحدة أو موضوع بعينه.

وإذا كان من السهل العثور على عنوان ملائم للقصيدة الواحدة التي تتمحور حول فكرة أو سؤال محددين فإن من الصعوبة بمكان أن يعثر المؤلف على عنوان جامع لكل القصائد المتباينة في مناخاتها وموضوعاتها والتي يتعذر اختزالها في صورة أو عبارة جامعة.

ثمة من يقول إن المكتوب يقرأ من عنوانه, ولكن القول, على أهميته ورواجه, لا ينطبق دائمًا على الشعر. فالكثير من المجموعات الشعرية الرائعة لم يوفَّق أصحابها في الاهتداء إلى عناوين تماثلها في الروعة. فيما الكثير من المجموعات الرديئة تحمل بالمقابل عناوين جميلة قد يكون اهتدى أصحابها إليها عن طريق الاستشارة أو ضربة الحظ ووجدت بسبب هذه العناوين بالذات طريقها إلى الرواج. وفي جميع الأحوال فإن على الشعراء والكتّاب ألا يتوجسّوا كثيرًا من العناوين التي يختارونها لمؤلفاتهم لأن القرّاء ما يلبثون أن يعتادوا على عناوين المؤلفين كما اعتادوا على أسمائهم من قبل.

 

شوقي بزيع