البعد الإنساني في الأدب

أذكر في إحدى مرات إقامتي الطويلة في الولايات المتحدة، في أواخر التسعينيات، أني ذهبت إلى الطبيب لمراجعته في بعض الأمور الصحية، وما إن عرف الطبيب أنني من مصر حتى أخذ يحدثني معبرا عن إعجابه بنجيب محفوظ الذي كان قد حصل على جائزة نوبل سنة 1988، وقال لي إنه قرأ رواية «زقاق المدق» باللغة الإنجليزية، وإنه أصبح من يومها معجبا بأدب نجيب محفوظ، ويسعى إلى قراءة أعماله التي تكاثرت ترجماتها إلى اللغة الإنجليزية. وأذكر أنني، في هذا العام، وبعد أشهر قليلة من زيارتي لهذا الطبيب، ذهبت إلى أشهر مكتبة لبيع الكتب في مدينة بوسطن، فوجدت في المدخل مباشرة روايات نجيب محفوظ المترجمة إلى الإنجليزية مصفوفة على شكل هرم، تلميحا إلى جنسية نجيب محفوظ المصري الذي يعيش في بلد الأهرامات.

 

هكذا أصبح من المعتاد أن أجد في مدينة بوسطن من يحدثني عن إعجابه بنجيب محفوظ، وقد دفعني ذلك إلى أن أتذكر فيما بعد أن رواية «بداية ونهاية» قد تم إخراجها في السينما المكسيكية فيلما متميزا بواسطة المخرج أرتورو ريبستين عام 1993، وبعدها بعام واحد أخرجت السينما المكسيكية فيلما عن رواية «زقاق المدق» بعنوان «زقاق المعجزات». وقد قام بإخراج الفيلم المخرج المكسيكي خورخي فونس، وقامت بدور البطولة في هذا الفيلم سلمى حايك التي كنت أقارن بينها وبين شادية التي قامت بدور «حميدة» في الفيلم المصري «زقاق المدق» الذي أخرجه حسن الإمام. وكان فهم كلا المخرجين المكسيكيين لروايتيّ نجيب محفوظ فهما عاليا، ولفت انتباهي فيما قرأت عن الإعداد المكسيكي لفيلم «بداية ونهاية» أن من قام بإعداد السيناريو للفيلم هو زوجة المخرج إليثيا جارسيا دييجو التي قالت إنها وقعت في غرام رواية «بداية ونهاية» عندما قرأتها مترجمة إلى اللغة الإسبانية، وإنها اقترحت على زوجها المخرج أرتورو ريبستين أن تعدها للسينما في فيلم يقوم هو بإخراجه. وكانت متحمسة إلى درجة أنها قالت له: «إذا لم أعد هذه الرواية للسينما فسوف أموت».

 أعمال محفوظ تخاطبنا جميعا

وقد اكتشفت - فيما نقل عنها - أن عالم نجيب محفوظ قريب منها، مثل أي كاتب من بلدها وبلغتها. والواقع أن هذا الذي قرأته عن روايتي نجيب محفوظ اللتين أصبحتا فيلمين سينمائيين، حازا إعجاب الجمهور المكسيكي، قد دفعني إلى استعادة الحيثيات التي وردت في قرار منح جائزة نوبل إلى نجيب محفوظ، خصوصا ما أشارت إليه حيثيات المنح من أن نجيب محفوظ أسهم في تطوير اللغة الأدبية على امتداد العالم الناطق باللغة العربية، وأن مدى إنجازه أوسع بكثير من العالم الناطق بهذه اللغة، فرواياته قد وجدت من يتذوقها ويعجب بها على امتداد العالم كله. والأمر واضح تماما في العبارة الحرفية في حيثيات المنح التي تقول: «إن أعماله تخاطبنا جميعا». ولا يعني هذا في النهاية إلا أن أعمال نجيب محفوظ قد وصلت إلى العالمية، وأنها لهذا السبب أعجبت الطبيب الأمريكي، كما أعجبت جمهور السينما المكسيكي، وأعجبت الدارسين والنقاد الذين ترجموا روايات نجيب محفوظ إلى كثير من لغات العالم قبل أن تصل إليه جائزة نوبل سنة 1988. ولكن ما الذي أدى إلى اتصاف أعمال نجيب محفوظ بهذه العالمية؟، والإجابة عن هذا السؤال تقودنا مباشرة إلى البعد الإنساني في الأدب. وهو بعد

لا يتحقق عندما يتحدث الأديب أو يكتب عن قضايا عالمية كما يتوهم الكثيرون، فنجيب محفوظ حصل على جائزة نوبل لأنه - فيما تقول الحيثيات - يصور بدقة «ما يدور في الحارة المصرية الضيقة بكل ما فيها من أحداث ومعاناة من لحم ودم، ويصور الصراع الأزلي بين الخير والشر، مؤكدا على معاني الحرية بكل أبعادها». ويعني ذلك بلغة النقاد أن العالمية في الأدب هي المرادف الجماهيري للبعد الإنساني في الإبداع، كما تعني أن هذا البعد لا يتحقق إلا من خلال تصوير الخاص المحلي، والغوص فيه عميقا إلى أن يصل المبدع إلى الجذر الإنساني للشخصيات والأحداث. ولذلك فإن نجيب محفوظ قد حقق ما حقق من بعد إنساني، لأنه جعل الحارة المصرية بلورة سحرية تغوص فيها لغة الإبداع لتصل إلى العالم كله.

 سلمى حايك في دور حميدة

ومن هنا استطاعت ممثلة عالمية مكسيكية (لبنانية الأصل) مثل سلمى حايك أن تؤدي دور حميدة في «زقاق المدق»، وهو الدور الذي قامت به الممثلة المصرية شادية في الفيلم الذي أخرجه حسن الإمام. ولو استرجعنا رواية «زقاق المدق» بما فيها من أحداث وشخصيات وبناء فني أصيل فسوف نجد أن قلم نجيب محفوظ قد غاص فعلا في أخص خصائص حارة «زقاق المدق»، وأنه جعل من شخصياتها المحلية تماما شخصيات إنسانية قادرة - بسبب خصوصياتها - على أن تخاطب الناس جميعا رغم اختلاف الأماكن واللغات، ورغم اختلاف الأزمنة على السواء. وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن كثيرا من أحداث روايات نجيب محفوظ يدور في «الحارة» القاهرية على وجه التحديد (زقاق المدق، خان الخليلي، السكرية، بين القصرين، العطوف، أولاد حارتنا، درب المهابيل...إلخ) فإننا يمكن أن نقول إن نجيب محفوظ قد عثر على الجذر الإنساني بحفره عميقا في أعماق وعلاقات الشخصيات التي تسكن الحارة، وذلك بالقدر والكيفية المختلفة التي عثر بها جارسيا ماركيز على الجذر نفسه في المعتقدات السحرية الشائعة والذائعة في وطنه كولومبيا، وهو الأمر نفسه مع ساراماجو في رواياته الأصيلة التي تضرب بجذورها في أعماق وطنه: البرتغال. وهو الأمر الذي ينطبق على توني موريسون الأمريكية، ويمكن أن نضيف إليهم توماس مان صاحب «الجبل السحري»، ولويجي بيراندللو الإيطالي، وأوجين أونيل الأمريكي، وأندريه جيد الفرنسي، وبوريس باسترناك الروسي، وإيفو أندرتش اليوغسلافي، وويل سوينكا من نيجيريا، وكاميلو خوسيه ثيلا من إسبانيا، ونادين جورديمر من جنوب إفريقيا، وكنزابورو أوي الياباني، وجاو شينجيان الصيني، وأورهان باموق من تركيا وغيرهم كثيراً. إن ما يجمع بين هؤلاء جميعا، فضلا عن مواهبهم الإبداعية الاستثنائية، هو قدرتهم على أن يغوصوا عميقا في عوالمهم المحلية إلى أن يصلوا إلى الجذر الإنساني الذي يرد تباعدهم إلى تقارب، ويرد تنافر ما يظهر من موضوعات إبداعاتهم إلى تشابه ما هو كامن في هذه الإبداعات من عنصر القيمة الذي يبدأ وينتهي بالإنسان، من حيث هو كيان خالص من القيم التي يمكن أن تحدد أهمية إبداعه في كل لغات العالم. هكذا تظل قيمة إبداعات كل مبدع متحدة الجوهر والقيمة التي تتعدد صورها وتتنوع تشكيلاتها، لكنها تظل واحدة في الأصل الذي تنتهي إليه، والذي لا يفقد مضمونه الإنساني في كل حالات الاختلاف اللانهائي لمظاهر هذه الإبداعات التي تشير إلى جوهرها المتحد في كل حالات الاختلاف التي لا حصر لها، خصوصا من منظور ما نطلق عليها التنوع الإبداعي للإنسانية التي لا نراها إبداعا إلا في تنوعها الخلاق.

 جائزة نوبل بين أدباء المركز والأطراف

ويترتب على معنى التنوع الخلاق للإنسانية، في هذا السياق، أن ما نسميه «الإبداع العالمي» الذي تقع فيه إبداعات هذه الأسماء وغيرها هو إبداع مزاح المركز. أعني أنه ليس إبداعا يتوزع ما بين مركز أكثر قيمة لأنه مركز، وأطراف أو هوامش أقل قيمة لأنها أطراف. وهو الوهم الذي أشاعته الأيديولوجيات القديمة لخطاب الاستعمار الاستيطاني، والأيديولوجيات الحديثة لخطاب الاستعمار الاقتصادي. لقد عاشت البشرية الإنسانية طويلا تحت وهم أن العالم منقسم إلى مركز متقدم وأطراف متخلفة. وقد عمل المركز المتقدم - في خطاباته إلى الأطراف- على ترسيخ وتثبيت هذا الوهم. ولذلك ظلت جائزة نوبل – مثلا- مرتبطة في حقبها الأولى بأدباء المركز

الأوربي - الأمريكي، مستبعدة أدباء الأطراف والهوامش الواقعة خارج هذا المركز جغرافيا وسياسيا واقتصاديا. ولكن كان لابد لأدب الهوامش والأطراف أن يثبت حضوره إبداعيا، وذلك على نحو جعل المشهد العالمي للإبداع مشهد مزاح المركز، لا مركز فيه إلا لحضور القيمة الإبداعية التي تعلو على الحدود الجغرافية والسياسية والاقتصادية، ولا تعتد إلا بقيمة المنجز الإبداعي الذي يخرج من محليته إلى عالميته، أو لا يصل إلى عالميته إلا من خلال الغوص العميق في محليته حتى يصل إلى الجذر الإنساني الذي لا يعرف شرقا أو غربا، ولا تقدما أو تخلفا، ومن ثم، فلا مركز ولا أطراف، ما ظلت القيمة الإبداعية محققة في بعدها الإنساني الذي يعطف الإنسان على أخيه الإنسان مهما اختلفت الألسنة والأمكنة والأزمنة.

وكانت النتيجة الطبيعية إسقاط مفاهيم المركزية الأوربية الأمريكية من واقع تقدير الإبداع العالمي، خصوصا من منظور القيمة الإنساني التي هي شرط جوهري لكل إبداع. وقد جاء ذلك موازيا لما حدث في العلوم الإنسانية، وعلى رأسها النقد الأدبي، منذ أن بدأنا نسمع ونقرأ عن «خطاب ما بعد الاستعمار» الذي هو - في حقيقة الأمر- نقض خطاب الاستعمار القديم والجديد على السواء. وكان ذلك في موازاة التغير في مفاهيم «الثقافة» التي أسقطت عن نفسها مفهوم «الهيمنة» واستبدلت به مفهوم التنوع الثقافي الخلاّق. وهو مفهوم ينفي عن الثقافة أي نوع من أنواع التراتب ما بين عوالم متقدمة وعوالم متخلفة، ويحل محله مفهوم «التنوع الثقافي الخلاّق» الذي يؤكد المساواة بين كل الثقافات، ويرى أن في تعددها واختلافها إغناء للثقافة الإنسانية العامة التي تنبني على التنوع الذي هو مفهوم يخلو من أي معنى من معاني التراتب. وكان من الطبيعي، في هذا السياق المتصاعد، على امتداد الكوكب الأرضي، أن يتبلور فهم جديد للتنمية البشرية، وما يوازيها من فهم مصاحب للتنمية الاقتصادية التي لم تعد محصورة في نموذج واحد هو نموذج «التقدم» في المركز الأوربي- الأمريكي، وإنما تعددت نماذج التنمية التي تجسدت في صعود النمور الآسيوية التي ترتب على صعودها تغيير مفهوم التقدم نفسه. وهكذا، أصبح نصف العالم الآسيوي الجديد، إذا استخدمنا مصطلح كيشور محبوباني في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، يزاحم وينافس المركز الأوربي- الأمريكي، ولا يقل عنه قوة أو فاعلية أو تأثيرا. وهو أمر يؤكد إلى أبعد حد شيوع مفهوم «التنوع البشري والثقافي الخلاّق» الذي أصبحت تقبله دول المركز الأوربي - الأمريكي. ولذلك أصبحنا نقرأ عن التعددية الثقافية في دول هذا المركز، ونقرأ عن «التنوع الثقافي الخلاّق» الذي أصبح الوجه الملازم للديمقراطية السياسية بمعناها المعاصر.

 قيمة العالمية مرادفة للقيمة الإنسانية

وترتب على ذلك تغير علاقات استقبال الأدب في العالم كله، وأصبح ما كان يسمى قديما «العالم المتقدم» يقرأ إبداع ما كان يسمى «العالم المتخلف». ويتذوق إبداعاته عبر الترجمة التي أصبحت الحاجة إليها ماسة، وعلى نحو متزايد، في العالم المعاصر. ولهذا لن نجد لغة من لغات الكوكب الأرضي إلا وقد ترجمت إليها أو منها آداب غيرها من اللغات. وإذا كنا نعيش في «زمن الرواية» حقا، ونحن كذلك بالفعل، فمن الطبيعي أن تتوزع جائزة نوبل على روائيين من كل أرجاء المعمورة الإنسانية، وذلك بعد أن سقطت عن الأكاديمية التي تمنح الجائزة تحيزاتها القديمة، وأصبحت أكثر اهتماما بالبعد الإنساني للقيمة، ليس في عالم الرواية وحده، وإنما في عوالم الشعر والمسرح والقصة القصيرة التي لا تزال مظلومة على مستوى التقدير الأدبي. ولذلك توزعت جائزة نوبل على أقطار العالم التي كانت منبوذة في الهامش، بعيدة عن المركز قديما، فأصبحت الجائزة تجمع بين روائي من مصر، وآخر من كولومبيا، وثالث من نيجيريا، ورابع من تركيا، وخامس من جواتيمالا، وسادس من جنوب إفريقيا، وسابع من الترينداد، وثامن من اليابان، وتاسع من الصين، وعاشر من المجر..إلخ. وإن دل ذلك على شيء فإنه يدل على أن قيمة العالمية أصبحت مرادفة للقيمة الإنسانية، بعيدا عن التحيزات الأيديولوجية القديمة.

وطبيعي، والأمر كذلك، أن يحدثني عن نجيب محفوظ الطبيب الذي ذهبت إليه في مدينة بوسطن في أمريكا، وأن يعجب مخرجان مكسيكيان بروايتين لنجيب محفوظ نفسه، مترجمتين إلى اللغة الإسبانية، وأن تقوم سلمى حايك بتمثيل شخصية «حميدة» في رواية «زقاق المدق» التي أخرجها حسن الإمام المصري للسينما. والمؤكد أن الطبيب الأمريكي يشبه المخرجين المكسيكيين، في أنهم تأثروا جميعا بجوانب القيمة الإنسانية التي عطفتهم على الرواية، فتأثروا بها على نحو لن يختلف جذريا عن تأثر القراء المصريين أو العرب الذين قرأوا الرواية بلغتها الأصلية.

وظني أن الطبيب الأمريكي لم يفكر أن «زقاق المدق» أقل قيمة من روايات هيمنجواي أو شتاينبك التي من المحتمل أن يكون قد قرأها في أدبه الوطني، وأن كل ما شغله هو المعاني الإنسانية التي تكمن وراء الأحداث والشخصيات، ومن ثم قدرة نجيب محفوظ الإبداعية على صياغة بناء يجمع ما بين الأحداث الدالة والشخصية الفنية التي أسهمت في إبراز البعد الإنساني الذي وصل الطبيب الأمريكي بالرواية المصرية، كما وصل الرواية نفسها بالمخرج المكسيكي الذي أخرج الرواية فيلما للبطلة التي توهجت في الفيلم المكسيكي على نحو مواز لتوهج شادية في الفيلم المصري.

والحق أن هذا البعد الإنساني لا يقتصر على الرواية فحسب، وإنما يجاوزها إلى الشعر والمسرح والقصة القصيرة وغيرها من فنون الإبداع كما قلت، فالمهم هو أن يغوص المبدع في واقعه المحلي حتى يصل إلى الجذر الإنساني لهذا الواقع فيعثر على الرابطة السحرية التي تعطف الإنسان على الإنسان في كل زمان ومكان. وهذا هو ما يجعلنا نعجب كل الإعجاب بروايات أمريكا اللاتينية، ونتذكر شخصيات كاتب مثل جارسيا ماركيز، بسبب ما فيها من بعد إنساني يجعلنا نشعر بأننا إياها في هذا الموقف أو ذاك، رغم بعد المسافات المكانية ورغم اختلاف اللغات، فالأصل في الإبداع الروائي دائما أنه لا يحقق بعده الإنساني دائما إلا بعد أن يغوص المبدع في المحلي أو الخاص إلى أقصى درجة، وأن يكون مخلصا في هذا الغوص، صادقا في تصويره، بما يجعله يصل إلى الجذر الإنساني الذي يكمن وراء كل المتغيرات المحلية أو الخاصة في كل مكان وزمان.

 المجاز مبدأ عام في كل اللغات

ويحق لنا نحن العرب أن نفخر بأن تراثنا البلاغي والنقدي قد أدرك هذا البعد الإنساني في الأدب. ولذلك اهتم أسلافنا به، على نحو ما فعل أبو أحمد العسكري الذي قال: «إن الله لم يخص بالبلاغة قوما دون قوم، ولا أمة دون أخرى، وإنما جعلها خاصية موجودة لدى كل الشعوب والأمم في كل اللغات». وقد ذهب مذهب أبي أحمد العسكري عبد القادر الجرجاني الذي أكد أنه حتى المجاز ليس موجودا في لغة العرب وحدها، وإنما هو مبدأ عام في كل اللغات. وكان يرد بذلك على ضيقي الأفق من المتعصبين للجنس العربي وتفضيله على غيره من الأجناس التي فتح العرب أرضها، وهو أمر سرعان ما أخذ في التقلص مع انفتاح العرب على غيرهم من الأجناس، وتعمق إيمانهم بما أدركوه من ضرورة طلبهم العلم ولو في الصين، وترجمة آداب غيرهم من الأمم، كما ترجموا فلسفة اليونان وحكمة الهند وبلاغة الفرس. وكان ذلك لإيمانهم العميق بأنهم مندوبون لمعرفة كل ما فيه فائدة، في المعمورة الإنسانية التي كانوا على وعي بتعدد أجناسها وتنوع ثقافاتها. ومنذ أن تعمق وعيهم بأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى حتى اندفعوا إلى الترجمة من الحضارات التي سبقتهم على درجات سلم التقدم، والبدء من حيث انتهت هذه الحضارات، ولذلك لم يكن من الغريب أن تصبح النزعة الإنسانية نزعة فلسفية في الفكر العربي، وأن تبدأ من المعنى الديني السمح للآية التي تقول: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). سورة الحجرات آية رقم 13 - وإذا كانت «الإنسانية» تدل على ما اختص به الإنسان من الصفات وما ارتبط به من المحامد، فإنها تدل على جوهر الإنسان، خصوصا من حيث هو كائن لا يبلغ أعلى مراتب الإنسانية إلا بإخراج ما في قوته إلى الفعل ويجعل ما في فعله مفيدا له ولكل بني الإنسان على امتداد المعمورة الإنسانية الفاضلة، إذا استخدمنا هذا المصطلح من فلسفة الفارابي الذي لم تخل فلسفته من النزعة الإنسانية التي وجدت ازدهارها في كتابات أبي حيان التوحيدي ومسكويه، وأن يكتمل منحاها الوجداني في تصوف ابن عربي وشعر ابن الفارض، وأعتقد أن شيوع النزعة الإنسانية بمعناها الفلسفي في التراث العربي قديما كان هو الأساس لحركة الترجمة الواسعة والمستمرة التي قاربت ما بين العرب وغيرهم من الأجناس في المشكلات الفلسفية والوجودية. وظني أن الذين ترجموا أقاصيص الفرس والهنود لم يكونوا يشعرون بأنهم يترجمون عن كائنات نائية قَصية، ومنفصلة عنهم تماما، وإنما كانوا يدركون بمعنى أو بآخر أنهم يترجمون حكايات وأفكار بشر مثلهم وكائنات تتعرض لما يتعرضون له من مشكلات ميتافيزيقية وفيزيقية في آن. ولا أظن أن أدب الرحلات إلا بمنزلة إكمال للمجلي الأدبي لهذه النزعة في التراث العربي. فقد كانت حكايات وقصص ومشاهدات الرحالة العرب تؤكد- رغم غرابة ما تقص- أن كل الأجناس النائية أو البعيدة ليست سوى بشر مثلنا يعانون ما نعانيه على مستويات كثيرة.

 

إعجابنا بالشعر الجاهلي مظهر للنزعة الإنسانية

والحق أن إعجابنا نحن العرب المعاصرين بالشعر الجاهلي ليس سوى مظهر آخر لهذه النزعة الإنسانية، وإلا ما الذي يربطنا بزمان امرئ القيس وناقة طرفة بن العبد أو عوالم غيرهما من الشعراء في كل حالاتهم الوجدانية وأحوالهم النفسية وتأملاتهم في عوالمهم الصحراوية التي تصل إلينا نحن العرب المحدثين، وتؤثر فينا، رغم أننا نعيش عصرا مختلفا تماما عن عصورها من كل النواحي. ولكن لأن شعراء الجاهلية كانوا مبدعين حقيقيين فإنهم غاصوا في المواقف المتعينة التي عاشوها وفي المشاعر المتميزة التي عانوها فوصلوا إلى الجذر الإنساني لها، ومن ثم عثروا على أداة الاتصال التي تربط بيننا وبينهم، وتجعلنا نتأثر بالموضوعات والمواقف التي يحتويها الشعر القديم الذي لا تكتمل له صفة الشعر حقا إلا إذا وصل بين محتواه الخاص ومشاعرنا وانفعالاتنا في هذا الزمان، بل مشاعر غيرنا وانفعالاته في أي زمان آخر. ولولا هذه النزعة ما كان للشعر المترجم أن يؤثر في الناس جميعا رغم أنه يفقد كثيرا في عملية الترجمة، ولكن بما لا يؤثر بالسلب في جوهره الإنساني الذي جعل من شعراء العالم في لغاته المختلفة يؤثرون ويتأثرون بغيرهم من الشعراء والقراء في كل اللغات المغايرة.

وأعتقد أن طه حسين آمن بوحدة التراث الإنساني لهذا السبب، وأنه استخدم لتفسير تنوع هذه الوحدة، ما اكتشفه عند ابن خلدون من وجود قانونين يتعارضان دائما في كل المجتمعات، وهما «قانون التباين» و«قانون التشابه». وإذا كان قانون التباين يؤكد عدم التماثل المطلق بين المجتمعات فإن قانون التشابه يؤكد وحدة الظواهر الاجتماعية، فيؤكد أن المجتمعات البشرية تتشابه على أساس من «الوحدة العقلية للجنس البشري». هذه الوحدة العقلية تؤكد عدم وجود فارق جذري بين روحين بشريين مثلما تؤكد إمكان التشابه بين المجتمعات المتباينة وإمكان انتمائها إلى عائلة إنسانية واحدة. ويعني ذلك – فيما يقول طه حسين- أن الناس جميعا مختلفون على أساس من قانون التباين، فتختلف آدابهم، ولكنهم يظلون متشابهين مهما تختلف أزمنتهم وأمكنتهم، فتتشابه آدابهم، وتتجاوب على أساس من عنصر إنساني واحد، يرد البشر جميعا إلى هذه الوحدة الإنسانية. هذه الوحدة هي أساس للتقارب بين الثقافات، وهي أساس لاتصال آداب الأمم المتقدمة بآداب الأمم المتخلفة، لأنه لا معنى للتخلف أو التقدم في هذا المجال الذي هو مجال المشاعر الإنسانية الخالصة التي لا تتمايز ما بين جنس وجنس أو قوم وقوم. ولذلك كان طه حسين يرى أن الأدب مصدر صلة قوية بين الشعوب والأجناس رغم اختلاف عصوره وبيئاته، وأن اختلاف الآداب يرتد في النهاية إلى أصل واحد يعود إليه كما تعود الصور المتغايرة، في زوايا انعكاسها، إلى أصلها المتحد الذي تعكسه، وهذا هو السبب في أن الآداب المختلفة- لغة ومكانا وزمانا- تتوجه إلى الناس جميعا، أو – بمعنى أدق- إلى الإنسان، أيا كانت اللغات والأجناس أو المجتمعات. وليس تغير اللغات أو الموضوعات أو صور المجتمعات التي تعكسها الآداب المختلفة سوى تجليات متعددة ترتبط بقانون التباين، ولكن تحت هذه التجليات، وفي داخلها تكمن هذه الوحدة الواحدة التي ترد التباين إلى التشابه، فتصل بين آداب العرب وآداب غيرهم، وتصل بين أدب الشرق وأدب الغرب مثلما تصل بين أدب الماضي وأدب الحاضر، فتجعل الأدب- في النهاية- «ظاهرة إنسانية».

ولذلك يقول طه حسين «إنه ليس ضروريا أن تكون رومانيا أو يونانيا أو فرنسيا أو إنجليزيا أو ألمانيا، لتجد لذة أدبية عند هوميروس أو سوفوكليس أو فرجيل أو هوجو أو شكسبير أو جوته، وإنما يكفي... أن يكون لك حظ من ثقافة وفهم وذوق، لتقرأ وتلذ وتستمتع». وبالقياس نفسه ليس ضروريا أن تكون عربيا أو فارسيا لتجد اللذة في شعر أبي نواس أو الخيام أو أبي العلاء، فيكفي أن يكون للمرء قدر من الثقافة ومن الشعور حتى يتأثر بالمشاعر التي تصوغها لغات مختلفة اختلاف اللغة العربية والفارسية.

 

الثقافة وطنية إنسانية معا

هذه النتيجة يؤكدها طه حسين في أكثر من موضع في كتبه عندما يشير إلى أن طبيعة الحياة الإنسانية قد أتاحت للناس أن يخصصوا العام فيطبعونه بطابعهم المختلف في كل حالة. ولكن هذه الطبيعة نفسها تتيح لهم أن يعمموا الخاص فيجعلونه شركة بين الأمم جميعا، ولذلك يقال إن الفن مثل الأدب شخصي، متأثر بمنتجه، مصور لنفسه ومزاجه، وطني متأثر ببيئته، مصور لمجتمعه وخصاله. ولكن هذا الفن لا يكاد يظهر حتى يكتسب من وجوده صفة عامة تصل ما بينه وبين الناس جميعا، وتقربه إلى نفوس الناس جميعا. ويؤكد طه حسين ذلك بقوله: «هذا التمثال مصري وطني خالص ممثل للطبيعة المصرية والذوق المصري. ولكنه لا يكاد يظهر في ضوء الشمس حتى يعجب المثقفين جميعا ويتصل بنفوسهم. وهذا اللون من ألوان الموسيقى ألماني أو فرنسي يصور فاجنر كما يصور ألمانيا ويصور برليوز كما يصور فرنسا. ولكنه لا يكاد يوقع حتى يهز قلوب المثقفين جميعا ويتصل بأذواقهم، فليست الثقافة وطنية خالصة ولا إنسانية خالصة، ولكنها وطنية إنسانية معا». ويمكن أن نضيف إلى ما قاله طه حسين أن الثقافة كالإبداع لا يمكن أن تكون إنسانية إلا بعد أن تكون وطنية، ولا يمكن أن تتصف بالعموم إلا بعد أن تتصف بالخصوص. ربما كان من الأدق أن نقول إن الوطنية الخالصة هي السبيل إلى الإنسانية الخالصة.