تعليم الفهم! معـرفة ضرورية في عـالم يزداد اختلافًـا.

تعليم الفهم! معـرفة ضرورية في عـالم يزداد اختلافًـا.. د. سليمان إبراهيم العسكري

  • الديمقراطية والإنصاف والعدالة الاجتماعية والسلام، إضافة إلى التناغم مع البيئة الطبيعية، كلمات يجب أن تكون محاور لعالم اليوم والغد.
  • التربية هي «قوة المستقبل» لأنها إحدى أهم وأقوى الأدوات في إحداث التغيير، وهي الوسيلة لمواجهة تحديات متسارعة وضخمة تواجهنا دون توقف.

مع قدوم الخريف تعلن الطبيعة عن نهاية دورة من دورات الفصول، لبدء دورة جديدة في عام - مناخي - جديد، وهي آلية تتزامن مع الإعلان عن دورة منتهية في حياة البشر، وبدء دورة جديدة من نشاط الإنسان على الأرض. ولعل مؤسساتنا التعليمية التي تفتح أبوابها مع الخريف، تمثِّل النموذج الأوضح لتزامن نشاط الطبيعة مع نشاط الإنسان. وكما نعلم جميعا فإن التربية هي صنو ملازم للعملية التعليمية، إن لم تكن جوهرها الثمين. وفي إطار التربية يبرز موضوع الفهم، لكننا عندما نعيد تأمله في ضوء متغيرات عالمنا الجارفة، نكتشف أننا نريد أن نفهم «الفهم»، من جديد.

منذ سنوات قليلة، قامت اليونسكو - على زمن مديرها العام فيديريكو مايور - برعاية مداخلة عالمية، ضمن مشروع للمعارف عابر للقارات، تحت عنوان «التربية في خدمة مستقبل قابل للعيش»، وأوكلت إنجاز هذا المشروع المعرفي لواحد من أبرز علماء التربية ووحدة المعرفة، هو إدجار موران. ولأن هذا العالِم ـ ومعه أفق اليونسكو الواسع ـ أبى أن يكون هذا المشروع المعرفي التربوي بالغ الأهمية نتاج عقل واحد، أو رؤية منفردة، فقد أخضع النص الذي أنجزه لمناقشات واسعة لمختصين ذوي علاقة بجوهر المشروع، من كل أنحاء العالم تقريبا، وكان ممثل الشعوب العربية بين هؤلاء المختصين هو المغربي الدكتور ندير عزيزة، أستاذ كرسي الدراسات الأورومتوسطية. وحتى لاتكون هذه المناقشات ذات طابع هامشي، فقد كلف اليونسكو مختصا آخر هو فاليخو كوميز، بتلقي الردود والمقترحات ودمجها داخل العمل - كما قدم هو أيضا مقترحاته الخاصة - وبعد مختلف التعديلات التي اقترحت وأدخلت على النص، وضع إدجار موران موافقته النهائية ليخرج العمل - الذي نشرته دار توبقال بالاشتراك مع اليونسكو - تحت عنوان «تربية المستقبل ـ المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل». وقدم فيدريكو مايور لهذا العمل بالقول «عندما ننظر للمستقبل، فإننا نجد عددا مــن اللايقينيات فيما سيكون عليه عالم أطفالنا وأحفادنا. لكن يمكننا التيقن على الأقل من شيء واحد: إذا أردنا أن تؤمِّن الكرة الأرضية حاجات الجنس البشري الذي يعمرها، فعلى المجتمع الإنساني أن يتغير. فعالم الغد يجب أن يكون مختلفا بعمق عن عالمنا الذي نعرفه، وعلينا أن نعمل على بناء مستقبل قابل للعيش، والكلمات الأساسية: الديموقراطية والإنصاف والعدالة الاجتماعية والسلام، إضافة إلى التناغم مع البيئة الطبيعية، كلمات يجب أن تكون محاور لعالم المستقبل».

قال فيديريكو مايور ذلك في نهاية القرن العشرين المنصرم، منذ سنوات قلائل، وكان يتحدث عن قرن جديد هو القرن الذي نعيش فيه الآن بالفعل. ولعله كان يتحدث عن المستقبل بما يعني مدى زمنيا مستقبليا أبعد، لكن تسارع الأحداث الكبرى في هذا القرن الواحد والعشرين الذي نعيش مطلعه المضطرب، يجعل من الكلمات الموجهة لمستقبل قريب او متوسط أو بعيد المدى، ضرورات ملحة يتوجب علينا أن ننشطها ونقوم بتفعيلها الآن، وقبل ضياع الوقت اللازم لتدارك الأمور التي لاينبغي تأجيل تداركها، خاصة في عالمنا العربي الذي يعيش لحظة انحدار مشهود، وإلا وجدنا أنفسنا في قاع العالم، بالرغم من أننا نستحق ماهو أفضل بكثير، لا بحكم العصبية والميل إلى الانتصار للذات، بل بحكم إمكانات موجودة بالفعل، تحت الأرض العربية، وفوقها، وفي داخل الإنسان العربي - خاصة من فئة الشباب - الذي يمتلك قدرات ثمينة لو أُحسن استثمارها وإدارتها، بعيدا عن الهدر الذي شغلني وأشغلتكم ببعض ملامحه الأليمة في حديثي الشهرين الفائتين. ولعل التربية تكون هي مدخل كل المداخل للخروج من هذا الإهدار.

قوة المستقبل

التربية بمعناها الواسع، وبعناصر تكوينها وتطوراتها التي تتجلى في سلوكنا وأنماط حياتنا وأدائنا لمقتضيات هذه الحياة بجوانبها العملية والمعنوية والاجتماعية والسياسية والثقافية عموما، هذه التربية هي «قوة المستقبل» لأنها أحد أهم وأقوى الأدوات في إحداث التغيير. وهي الوسيلة لمواجهة تحديات متسارعة وضخمة تواجهنا دون توقف، لأن هذه التربية هي المسئولة عن ثبات أو تطور طرق تفكيرنا في مواجهة التعقيد المتصاعد من حولنا، وفي صياغة أخرى: هي طريقتنا في إعادة تنظيم المعرفة التي اكتسبناها ونكتسبها، من إرثنا الثقافي ومن مواجهتنا لمتطلبات عالم متغير. ومن هنا كان موضوع «الفهم» لصيقًا بجوهر موضوع التربية. ولم يكن غريبًا - والأمر كذلك - أن يعهد بإنجاز هذا المشروع التربوي للعالم إدجار موران أحد المفكرين العالميين المعنيين كثيرا بموضوع «وحدة المعرفة». ولا يخفى على أحد - سواء كان متخصصا أو غير متخصص - أن الفهم لصيق الارتباط بالمعرفة، وعلى هذا النحو يتدرج موضوعنا من الفهم، لوحدة المعرفة، للإطار الأوسع، أي التربية، والتربية بمفهوم جديد هو «التربية المستديمة» اشتقاقا من مفهوم التنمية المستديمة في شئون الحفاظ على البيئة، وتماما كما في قضايا البيئة تعني الاستدامة طرقا نتحمل فيها المسئولية عن حيوية واستمرار الحياة على الأرض، كذلك التربية المستديمة ينبغي أن تعني مفاهيم تضمن إذكاء حيوية المشاركة والتواصل في الحياة. وهنا يجيء تحديد موضوع الفهم. فهل يحتاج الفهم إلى فهم؟

الفهم واللاتفاهم

ينطلق اقتراح إعادة طرح قضية الفهم من أرضية المفارقة التي باتت تحكم عالمنا الآن في مطلع هذا القرن الواحد والعشرين، فبالرغم من أن الترابطات التقنية تضاعفت، والتواصل ازدهر، إذ تم اختراق الكوكب بشبكات «الفاكس»، والهواتف النقالة، والفضائيات التلفزيونية، والإنترنت. وبالرغم من تنامي الوعي بضرورة تضامن الناس بعضهم مع البعض الآخر في حياتهم ومماتهم، فإن اللاتفاهم أصبح عملة سائدة بين الناس، ليس فقط بين أعراق مختلفة، وأقطار متباينة، بل صار اللاتفاهم سمة لافتة بين مكونات المجتمع الواحد في أكثر من مكان على ظهر كوكبنا. وليس أدل على ذلك من الصراعات الدولية المسلحة، والحروب الحدودية بين الدول المتجاورة، والحروب أو الصراعات المحلية بين الطوائف والأعراق في الوطن الواحد.

هذه المفارقة تنبه إلى أن تقنيات التواصل الحديثة، لاتحمل في ذاتها خاصية الفهم، حيث لايمكن إضفاء الطابع الرقمي على الفهم، فالفهم رهين بمن يشغِّل هذه التقنيات، أي الإنسان. وامتدادا لذلك، يمكن القول إن هناك فرقا بين أن يتربى الإنسان من أجل تحصيل فهم الرياضيات أو أي مادة تعليمية أخرى، وبين أن يتربى من أجل اكتساب الفهم الإنساني، وهنا مربط الفرس - كما يقولون - فهنا تتجلى الرسالة الروحية المحض للتربية، كما يقول حوار اليونسكو، فالأمر يتعلق بتعليم الفهم بين الناس، والذي هو الشرط والضامن لتحقيق التضامن العقلي والأخلاقي للإنسانية. وامتدادا لذلك تكونت رؤية أن مشكل الفهم يتفرع إلى قطبين: أولهما كوكبي، بمعنى التفاهم بين المتباعدين، حيث تضاعفت اللقاءات والعلاقات بين الأشخاص، وبين الثقافات، وبين الشعوب المنتمية لثقافات مختلفة. لكن هذه اللقاءات والعلاقات، لم تتجاوز كونها نوعا من «المشاهدة» في كثير من الأحوال. أما القطب الثاني فهو فردي، ويرتبط بالعلاقات بين المقربين، إذ أصبحت هذه مهددة أكثر فأكثر باللاتفاهم، فالتقارب يمكن أن يغذي كل أنواع سوء الفهم، وأشكال الغيرة والعدوانية، حتى في أوساط يبدو ظاهريا أنها أكثر تطورا من الناحية العقلية. ومثال ذلك مأساة البوسنة والهرسك في أتون الاتحاد اليوغسلافى السابق.

إذن يمكننا القول ـ مع حوار اليونسكو ـ إن هناك مستويين من الفهم، أولهما الفهم العقلي، وثانيهما هو الفهم الإنساني، والأخير هو الأهم الآن، فالفهم العقلي هو معرفة لاتتطلب انفعالا ولا يترتب عليها بالضرورة اتخاذ موقف ما، أما الفهم الإنساني فهو مرتبط بالعواطف والوجدان، ويقتضي بالضرورة الانفتاح، والتعاطف، والأريحية أو التسامح، وهي أمور باتت البشرية في حاجة ماسة إليها، انطلاقا من حقيقة ملموسة مؤداها أن الحياة على كوكب الأرض لم يعد ممكنا أن تتواصل بصحة وعافية إلا عبر الشعور الفاعل بالآخرين، في المجتمع الواحد، والبلدان المختلفة، والقارات التي تشكل سفينة الحياة التي تحملنا جميعا على هذا الكوكب. فهل هذا النوع من الفهم يمكن تعلمه؟

تعليم الفهم

يقول حوار اليونسكو، وأقول معه: نعم يمكن تعليم الفهم، في الإطار المشار إليه سلفا، وأزيد على ذلك قائلا: بل يجب على مؤسساتنا التعليمية جميعا، أن تكرس تعليم الفهم الإنساني ضمن تطلعاتها التربوية، على الأقل لننجو بمجتمعاتنا العربية من كوارث اللاتفاهم في المجتمع العربي الواحد، وبين مجتمعاته المختلفة.

وكيف يكون تعلم هذا الفهم؟

يبدأ الأمر كما في زراعة أي أرض، بتطهيرها مما يعيق الغرس فيها، وهنا يكون التطهير بإزالة عوائق الفهم، والتي يمكن إجمالها في:

أولا - العوائق الخارجية، وهي: التشويش الذي تصنعه الأفكار المسبقة عن الغير، وعدم فهم الآخرين في إطار ثقافاتهم الخاصة وطقوسهم وعاداتهم اللصيقة بحياتهم، ورفض التسليم بحقيقة أن كل ثقافة تتضمن بنية عقلية مغايرة.

ثانيا - العوائق الداخلية، وهي عوائق متعددة يمكن تلخيصها في اتخاذ موقف اللامبالاة تجاه الغير، ونزعة التمركز حول الذات، والتي تتخذ صورا متعددة كالتمركز حول العرق، والتمركز الطائفي، والتمركز القبلي.

إن بقاء تلك العوائق، تماما كما في الزراعة، لايعد إلا بغرس مريض، وربما نباتات سامة، فعدم فهم وتقدير الآخرين، لأي من عوائق الفهم السالف ذكرها، لايؤدي إلا إلى التفكير الاختزالي، والذي يحول الآخرين إلى أجسام غريبة، ومرفوضة، وهذا يقود بالتبعية إلى نتائج أخلاقية وخيمة، بل جرائم في حق الإنسانية نشهد الكثير من تجلياتها المريرة في عالمنا الذي نعيشه.

إزالة عوائق الفهم هي البداية، ومن ثم يأتي تعليم «الفهم» الصحيح، والذي هو بالتأكيد ليس اكتشافا جديدا، بل هو نوع من إعادة الاكتشاف لمثل عليا في جوهر الأديان السماوية، وتألقات الثقافة والأعراف الإنسانية، وهي أمور جرى تشويهها، أو طمرها تحت تراب أزمنة اللامبالاة والأنانية البشرية في مجتمعات الاستهلاك، وتقزيم الوعي وطمس العواطف النبيلة بين البشر.

باختصار، مطلوب إعادة الفهم إلى دائرة الأخلاق، فأي أخلاق نعني؟

أخلاق الفهم

إن أخلاق الفهم المقصودة هي عبارة عن فن العيش مع الآخرين، وتتطلب الفهم بشكل نزيه، فهم أنفسنا وفهم الآخرين، وتقدير الاختلاف، بدلا من عزل الآخرين ولعنهم، لأن هذه الآلية لاتقود إلا إلى تضليلنا عن فهم عيوبنا وتضخيم عيوب الآخرين، وربما اختلاقها. أخلاق الفهم تقود إلى «أنسنة العلاقات الإنسانية»، لا إلى توحشها، وهذه الأنسنة هي طريق «التفكير الجيد»، الذي يسمح لنا بفهم الشروط الموضوعية والذاتية للسلوك الإنساني، سواء في الجانب السلبي أو الجانب الإيجابي، وبالتالي إتاحة الفرصة لإزالة السلبي وتأكيد الإيجابي، في أنفسنا وفي الآخرين. وهو شيء ضروري أن نلجأ جميعا إلى هذه الممارسة الذهنية المتجلية في الفحص الذاتي، لأن فهم نقاط ضعفنا الخاصة، أو نواقصنا هو السبيل نحو فهم نقاط ضعف ونواقص الآخرين، أو بمعنى أدق تفهمنا لضعف ونواقص الغير، في إطار أننا جميعا كائنات معرضة للخطأ، هشة وغير مكتفية بذاتها، وحينئذ يمكننا أن نكتشف حاجتنا المتبادلة للفهم. وحاجتنا المتبادلة للتعاون والتراحم. فهل تعلم مؤسساتنا التعليمية ذلك؟ وألا يكون مفيدا أن يتعلم أبناؤنا ذلك، عبر تأهيل هيئات التدريس ـ من روضة الأطفال حتى الجامعة ـ لنشر هذا النوع من الفهم -تربويا - أثناء تعلم المواد العقلية. إنه أمر مفيد بكل تأكيد، ومحصلته في حدها الأدنى تثمر في المستقبل القريب والبعيد أجيالا لاتنقاد إلى أنماط التمركز الذاتي المتعصب، ولا تنصاع لغوايات التطرف والعنف الأعمى.

إن فهم الغير يتطلب منا الوعي بالطابع المركب للإنسان، وعدم اختزال الإنسان في لحظة مجتزأة من كيانه كله، أو توصيفه بأسوأ لحظة في ماضيه، وما يسري على تقييم الأفراد يجوز على الشعوب والأمم، وبعبارة موجزة من أدبيات ديننا الحنيف، فإن هذا يمثل منهج الرحمة والتراحم، الذي ينبغي أن نلتفت إليه كثيرا في العملية التربوية، إضافة لما يقدمه الأدب والفن في هذا الاتجاه من أعمال تعلمنا الشفقة على معاناة كل المهانين، وبالتالي يرى حوار اليونسكو - ونرى معه، وإن من خلال ثقافتنا وقيمنا الروحية - أن ذلك يكون في صلب «تعلُّم الفهم».

ومن طريق آخر يمكننا أن نصل إلى هذا «الفهم» بما يسمَّى «استدخال التسامح»، فالتسامح الحقيقي، والذي لابد أنه المعني في حديثنا، ليس أبدًا نوعًا من اللامبالاة تجاه الأفكار المختلفة، بل يعني الاقتناع والاختيار الحقيقي لتقبل وجود الأفكار المختلفة، وفي هذا يقتضي التسامح الحقيقي قدرا من المعاناة في تحمل حق الآخرين في التعبير عن أفكار مخالفة لأفكارنا، وقد تبدو لنا سيئة، وهذا يقودنا إلى مستوى آخر هو صلب الديمقراطية التي تستـوعب، أو ينبغي أن تستوعب، وجود آراء مختلفة ومتناقضـة يلتزم الجميع باحترام حق التعبير عنها. ثم يأتي المستوى الأعمق للتسامح، والذي عبر عنه نيلز بوهر بالقول: «إن نقيض فكرة ما عميقة هو فكرة أخرى عميقة، وبصيغة أخرى الاعتراف بثمة حقيقة، أو على الأقل حقيقة محتملة، في الفكرة المناقضة لفكرتنا».

عولمة الفهم

بالرغم من أن المطامح والمطامع السياسية قد ابتذلت كثيرا تعبير «العولمة»، فإنني أجد له مقاصد خيرة تبعا للإطار الذي توضع فيه الكلمة، فتقرير اليونسكو يتحدث - ضمن مداخلة «تعليم الفهم» - عن «كوكبية الفهم والأخلاق»، ولا أجد ضيرا في استبدال هذا التعبير بما هو أوجز منه، وربما أوقع، أي: «عولمة الفهم». فمادمنا نتحدث عن الفهم الإنساني، المتسامح، والمتراحم، والمتقبل للآخر المختلف، فنحن نبتعد عن عمليات التمركز حول الذوات المتعصبة، الفردية والجماعية، بأشكالها وألوانها المتعددة، ونكون على هذه الخلفية بشرا متساوين في حق الوجود على هذه الكرة الأرضية، ومن ثم يكون توجهنا الجامع هو عولمة الفهم الإنساني، بل التفاهم الإنساني. وللحقيقة فإن البشرية لم تحظ بمثل هذه الفرصة لتيسير التعارف المتبادل من قبل، فتعبير القرية الكونية حقيقة يجعلنا نرى الحدث أو نعلم به في لحظة وقوعه، أو في لحظة تالية قريبة منه. وصحيح أن انفعالاتنا بأحداث غيرنا تبدو وكأنها تبلدت لفرط ما تحولنا إلى متفرجين، إلا أن هذه المعرفة لابد سيتبعها التعبير عن الانفعال في لحظة ما قادمة، وقدومها مرهون باتساع رقعة الديموقراطية التي تتحرك عليها الشعوب، فالفهم المتبادل بين المجتمعات، يفترض مجتمعات ديمقراطية متفتحة، وهذا يعني أن الطريق نحو الفهم المتبادل بين الثقافات، والشعوب، والأمم، يمر عبر تعميم المجتمعات الديمقراطية المتفتحة. وأوضح برهان على ذلك هو فعاليات التجمعات المضادة للعولمة بمعانيها الاقتصادية والسياسية المتوحشة. فهؤلاء الشبان الذين نراهم يعبرون عن توجهات مناهضة لهذه العولمة المتوحشة في سياتل ودافوس وغيرهما، هم أساسا، وربما جميعا، أبناء مجتمعات وديمقراطيات متطورة، ولعلهم في رفضهم يعبرون عن مصالح أبناء العالم النامي والفقير في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، أكثر مما يعبرون عن مصالحهم هم في مجتمعاتهم الأكثر تقدما اقتصاديا وغِنى في الغرب.

بالنسبة لنا هذا النمط من الفهم العولمي محل ترحيب، مادام احتجاجا سلميا على نهم المصالح الذاتية للسبع أو الثماني الكبار في الشمال، واستشعارا لمحنة بقية دول العالم في الجنوب، لكننا نحلم لأبنائنا - في حدود ظروفنا - بما هو غير ذلك، نطمح لهم بتسامح إنساني رحب، وابتعاد عن التمركز المتعصب حول الذات، نحلم لهم بحسن تقدير ميزاتهم لتعظيمها، والوعي بعيوبهم لتجاوزها، ومن ثم نحلم لهم بحسن تقدير الآخرين، والتسامح مع اختلافهم في إطار الترحيب بالتنوع الخلاق للبشر.

نحلم في توجـهاتــنا التربوية بأن نعيد اكتشاف الفهم الصحيح، الذي هو الفهم، بل التفاهم الإنساني.

 

سليمان إبراهيم العسكري