صدام الحضارات والذاكرة التاريخية

صدام الحضارات والذاكرة التاريخية

إن التطورات الأخيرة التي فجّرها نشر الرسوم المهينة والمعادية للعرب والمسلمين، بشكل لا مثيل له منذ نهاية القرون الوسطى الأوربية، تعكس في نهاية التحليل تراكم شعور العداء الدفين لدى الدول الغربية تجاه الشرق، وله جذور خيالية قديمة أعادت إحياءها السياسات والممارسات الأمريكية والإسرائيلية في العقود الأخيرة.

غالبًا جدًا ما يفترض صانعو القرار الغربيون مسبقًا أن الرأي العام العربي يجب أن يشارك الغربيين تلقائيًا الأحاسيس والمشاعر نفسها، فيما يتعلق بالمسائل السياسية الرئيسية المطروحة على ساحة الشئون الدولية. فهم يميلون إلى نسيان أن العرب - أو بلدانًا نامية أخرى (مسلمة أو غير مسلمة) - لم يعيشوا الصدمات التاريخية الأليمة نفسها، ولم يتعرّضوا إلا بطريقة غير مباشرة للتاريخ الأوربي الداخلي. من الضروري تحديد هذه الصدمات الأليمة بوضوح، لأنها مازالت تؤثر تأثيرًا كبيرًا في وجهات النظر «الغربية» حول كيفية إدارة الشئون العالمية، وبخاصة، الشئون الشرق أوسطية.

لقد كانت الحروب الدينية الفظيعة بين الكاثوليك والبروتستانت، من أولى الصدمات الأوربية الأليمة في زمننا المعاصر. وتبعها لاحقًا تفجّر القوميات العلمانية، والحروب المختلفة التي اجتاحت أوربا حتى بلغت جميعًا ذروتها مع الحرب العالمية الأولى، ومن بعدها الحرب العالمية الثانية، فنمت القومية الضيقة جنبًا إلى جنب، مع المعاداة للسامية في الثقافة الأوربية. ولما بدأت الحركة الصهيونية نشاطاتها في نهاية القرن التاسع عشر، جاء ذلك كرد فعل على هذا التحالف الهائل، ولما خرجت فظائع الحكم النازي إلى العلن في نهاية الحرب العالمية الثانية، ساد شعور قوي بضرورة حصول اليهود على دولة خاصة بهم في فلسطين في أقرب وقت ممكن، تعويضًا لما عانته المجموعات اليهودية الأوربية في ظل السيطرة النازية.

ولكن، لم يتعرض العرب والبلدان الأخرى غير الغربية للصدمة نفسها، إذن، بطبيعة الحال، لم نتمكن من تنمية النوع نفسه من الثقافة والمشاعر السياسية تجاه معاناة اليهود في أوربا. ولهذا السبب، من المستحيل أن يبدي العرب يومًا - حيال إنشاء الكيان الصهيوني - المشاعر نفسها التي يبديها الأوربيون أو الأمريكيون. فصحيح أن باستطاعة بعض العرب أن ينمّوا - على مستوى فردي - شعورًا من التعاطف حيال معاناة اليهود في الحرب العالمية الثانية من خلال قراءات أو أفلام مختلفة تروي هذا الحدث، ولكن من غير المنطقي من قبل الدوائر الغربية الاعتقاد، كعرب أو كمسلمين، أنه يمكن أن ننمّي على المستوى الجماعي، المشاعر نفسها التي نمّاها الغربيون حيال هذه الصدمة الأوربية بالتحديد.

صدمات أوربية

في المقابل، يعاني الأوربيون سلسلة من الصدمات القديمة في علاقتهم مع جيرانهم العرب والمسلمين. وتجد إحدى هذه الصدمات منشأها في تخوّف الأوربيين من غزو وسيطرة المسلمين مجددًا، كما كانت الحال عندما فتح العرب إسبانيا، وصقليا، وجنوب إيطاليا، ولاحقًا عندما غزا الأتراك العثمانيون منطقة البلقان والمجر، وفرضوا الحصار مرتين على فيينا، عاصمة الإمبراطورية النمساوية.

وقد عادت هذه الصدمات القديمة إلى الذاكرة، وزادت حدّتها عندما اضطرت القوة الاستعمارية الأوربية إلى التخلي عن ممتلكاتها الاستعمارية في العالم العربي والإسلامي تحت ضربات حركات المقاومة المسلحة في وجه احتلالها. وفي هذا المضمار، لابد أن يتساءل المرء أيضًا إن كان الدعم الغربي الضمني أو الصريح لسياسات الاستيطان التوسّعية التي تطبّقها إسرائيل فيما تبقى من الأراضي الفلسطينية، لا ينبع سببه الأساسي من ذكريات الحملات الصليبية، التي فشلت في ضمان استيطان دائم للمسيحيين والأوربيين في المشرق العربي، فضلاً عن ذكريات ما خسره الاستعماران السابقان الفرنسي والبريطاني من هيمنة مطلقة على الأراضي العربية فيما مضى.

إن هذه الخلفية التاريخية، القديمة مازالت تشكّل عاملاً فاعلاً، ولو كان من غير وعي، في تحديد السياسات الغربية في المشرق العربي. وهذا لا ينفي وجود عوامل جيوسياسية أخرى دفعت الرئيس بوش إلى دخول العراق بمساندة دول أوربية عدة (التحكم بالنفط، أمن إسرائيل، تطويق الصين، وغيرها)، إلا أنه قد يساعد في فهم سبب حصول هذا الغزو، بالرغم من المعارضة الشعبية الهائلة في معظم الدول الغربية، ومن إدانة البابا الصريحة له. فالسيطرة على المشرق العربي والسيطرة على «الإسلام» هما حلمان قديمان جدًا يرقدان في لاوعي النفسية التاريخية التي أعطت الهوية الغربية الكبرى، الشكل الذي عرّفناها به أعلاه.

وصدمات عربية

في الجانب الآخر، عانى العرب من صدماتهم التاريخية الخاصة بهم، والمختلفة تمامًا عن الصدمات الأوربية. فقد عاش العرب قرونًا وقرونًا في حال سلام تام كجزء من الإمبراطوريات المتنوعة غير العربية (المماليك ومن ثم العثمانيون) . ولم يكن لهم وصول إلى الهيمنة السياسية التي خسروها في بداية القرن العاشر، ولكن لم تعد مقاطعاتهم معرّضة للغزوات والحروب منذ انتهاء الحملات الصليبية وغزوات المغول. وبالرغم من وجود توترات بين المذاهب الإسلامية المختلفة آنذاك، بقي السلام يعمّ الأراضي العربية بشكل عام، فيما عدا الحروب الداخلية الصغيرة بين الولاة وكبار الإقطاعيين المحليين، فقد كانت العلاقات بين الأكراد والبربر والعرب، قائمة على التعدّدية والتعايش العميق فيما بينهم، ولم تكن تطرح مشاكل محددة. أما العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين - وتحديدًا المسيحيين واليهود من أصل عربي أو بربري أو إسباني - فلم تتميّز بالعنف، إلا في حالات متفرقة جدًا ومحلية. فلم يحصل أي تهجير قصري للسكان، ولا أي إبادة جماعية، ولا أي قمع منظوم، كما كانت الحال في أوربا منذ بداية الحروب الدينية والذي بلغ ذروته في الحربين العالميتين.

في الواقع، يعود منشأ الصدمة التي عاشها العرب إلى السياسات الاستعمارية الأوربية (غزو الجزائر الذي بدأ في العام 1830، وغزو مصر في العام 1882، والاضطرابات بين الموارنة والدروز في جبل لبنان بين 1840 و 1861 بسبب تواجه الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي) . وقد رأى العرب السلطنة العثمانية التي أدّت دور حاميهم الفعّال جدًا طوال أربعة قرون، تبدأ بالانهيار تحت وطأة جشع القوى الاستعمارية، وفي ظل سياساتها المتباينة والتصادمية، بهدف تفرقة المقاطعات العربية فيما بينها، وكسب النفوذ على جماعات دينية وإثنية مختلفة.

ومازاد من حجم الصدمة هو إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948، فلم يستطع صانعو القرار العرب، ولا الرأي العام العربي، أن يفهموا لماذا طرد الفلسطينيون من أرض أجدادهم من أجل التعويض عن معاناة اليهود في أوربا، مع العلم أنه لم يكن لهم أي ضلع في هذه المعاناة. ففي نظرهم، إن كان لابد من تعويض على شكل أرض تصبح يهودية حصرًا، فيجب أن يحصل هذا التعوض في أوربا لا في مكان مثل فلسطين، ففلسطين هي مركز الأماكن المقدسة للديانات التوحيدية الثلاث، والموطن الذي لطالما عاشت فيه الجماعات اليهودية المحلية بسلام مع جيرانها من المسلمين والمسيحيين.

وفيما يتعلق بموضوع فلسطين، وبما أن العرب كانوا قد استوعبوا أنواعًا كثيرة ومختلفة من المهاجرين من جنسيات مختلفة على مرّ العصور، لربما كان الرأي العام العربي ليقبل بهجرة يهودية فردية، خاصة أن المرجعية التاريخية عندما لم تكن تتمثل بدولة قومية متجانسة على غرار المثال الألماني، أو الفرنسي، بل إلى نموذج المجتمع التعددي المنظم على أساس النظام التقليدي لتعايش المجموعات الدينية أو الإثنية المختلفة في ظل نظام «الملة» العثماني القديم. في مثل هذا النظام، تحتفظ كل جماعة دينية باستقلالها في إدارة شئونها المدنية الخاصة (التربية، الزواج، الإرث، الوقف) . وقد أعطى لبنان كمثل تمّ فيه تحديث نظام الملة ليصبح نظامًا برلمانيًا على غرار الديمقراطية النموذجية الليبرالية الأوربية. وعلى العكس، بدت فكرة إنشاء دولة قائمة حصريًا على دين واحد في فلسطين، فكرة بعيدة كل البعد عن المنطق، ولا تتماشى مع التجربة التاريخية، الاجتماعية والثقافية، التي عشناها كعرب على مر العصور في مجال التعددية الدينية والإثنية.

فمنطق تهجير الشعب الفلسطيني لتحقيق الوطن اليهودي في فلسطين، كان ومازال، يُعتبر منطقًا غير منصف وغير عادل وغير مقبول إنسانيًا وسياسيًا.

ولم تكن نتيجة الاجتياح الأخير الذي قامت به الولايات المتحدة وحلفاؤها للعراق، أن أعاد فحسب إحياء صدمة احتلال الأراضي العربية، من قبل القوى الاستعمارية الأوربية طوال قرن كامل، بل أن أعاد أيضًا إنعاش صدمات تاريخية أخرى أقدم عهدًا، مثل الحملات الصليبية ضد المشرق العربي أو طرد العرب من الأندلس وجنوب أوربا. فقد عزّز هذا الحدث الدرامي والأليم الجديد، الشعور بأن الشرخ بين المشرق العربي والغرب مازال قائمًا، كما كان في زمن الحروب الصليبية. وأصبح الرأي العام العربي ينظر إلى الغربيين على أنهم عدائيون في الجوهر، يسعون إلى التحكّم بهم والسيطرة عليهم.

أضف إلى ذلك، ما نشعر به كعرب، ونحن على حق هنا أيضًا بأن الغرب يريد السيطرة التامة على النفط العربي لمصالحه الاستراتيجية الخاصة.

هل نحن معادون للسامية؟

يسيء الغرب فهم موقف العرب حيال إسرائيل، فصانعو القرار وجزء من الرأي العام، يتأثرون بتجربتهم الصدامية الخاصة مع المعاداة للسامية، فيميلون إلى الاعتقاد الراسخ أن رفض العرب المزعوم لإسرائيل، قد يكون نتيجة لموقف محلي معاد للسامية وجذوره ضاربة في الأعماق، على غرار الموقف الأوربي القديم، وأنه ينبغي قمع هذا الموقف وإلغاؤه بشتى الطرق، بما فيها الحروب التي، إما شنتها دولة إسرائيل كما في الأعوام 1948 و1956 و1967، أو في العام 1982 مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، أو مع إعادة احتلال أجزاء كبيرة من الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 2001، وإما شنتها الولايات المتحدة عندما اجتاحت العراق.

أيضًا، تميل الحكومات الغربية إلى ممارسة الضغوطات على الحكومات العربية المحلية، وعلى المفكرين العرب ومنظمات المجتمع المدني، كي يحاربوا هذا النوع «المحلي» من المعاداة للسامية، وبالرغم من أن إسرائيل مازالت تحتلّ أراضي عربية وفلسطينية - مخالفة بذلك قرارات الأمم المتحدة - يستمر صانعو القرار الغربيون والإعلام الغربي في ممارسة الضغوطات على الحكومات العربية حتى تقيم علاقات دبلوماسية واقتصادية مع دولة إسرائيل.

كذلك، فإن صانعي القرار الغربيين - أمريكيين كانوا أم أوربيين - قد وقعوا أسرى حكم مسبق ضمني أو لا واع ضد الرأي العام العربي والفلسطيني. فهم يستندون إلى تجاربهم التاريخية الخاصة، التي نتج عنها أكثر من مرة، تهجيرٌ قسري للسكان في أوربا والأمريكتين. وبالتالي، هم لا يفهمون السبب وراء تشبّث الفلسطينيين الحازم بأرضهم وإصرارهم على حق العودة. في النهاية، لقد اعتُمد تهجير السكان حلاً للمشاكل الشائكة التي عرفتها أوربا على مدى عصور عدة. فقد كانت هذه الحال خلال الحروب الدينية التي انبثق عنها المبدأ الشهير «دين البلاد من دين الملك»، ومن ثم خلال الحروب القومية المتنوعة من أجل التوسّع الجغرافي في القرن التاسع عشر، حروب توّجتها الحربان العالميتان الأولى والثانية. فترسيم الحدود الوطنية الجديدة بعد العام 1945 أدى إلى تهجير ملايين الأوربيين. أما بالنسبة إلى أمريكا الشمالية والجنوبية فقد شكّل تهجيرُ السكان الهنود الأصليين على نطاق واسع وتقليصُ أعدادهم، أساسَ التاريخ الحديث في هذه القارة. ولهذا السبب، نعتقد أن الإسرائيليين - كما أجزاء من الرأي العام الغربي، لا يستطيعون أن يفهموا لماذا لا يقبل الفلسطينيون والعرب جميعًا بالهجرة إلى بلدان عربية مجاورة والاستقرار فيها، حتى يعيش الشرق الأوسط أخيرًا بسلام.

وفي المقابل، يستغرب الكثير من العرب والفلسطينيين، الضغوطات النفسية الغربية التي تمارَس عليهم. فصانعو القرار يودّون أن يروا العرب ينظرون إلى إسرائيل على أنها بلد مسالم وعادي، عليه أن يعالج المسائل الأمنية والإرهاب، كما لو أن هذا الاحتلال للأراضي الفلسطينية غير واقع. وفي الطرف الآخر، ما يراه العرب هو احتلال يدوم ومعاناة تستمر، بالنسبة إلى العرب الذين يسكنون الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. وما يراه العرب أيضًا هو توسّع استيطاني مستمر في الأراضي المحتلة، ناهيك عن اجتياحين إسرائيليين للأراضي اللبنانية، دام أحدهما 22 عامًا. فالعرب لا يمكنهم بطبيعة الحال أن يقبلوا بالمنطق وراء حرمانهم من الأرض التي عاشوا عليها على مرّ الأجيال، منذ أيام الكنعانيين القدماء، ولا وراء حرمان هؤلاء الفلسطينيين الذين هجّروا من أرضهم في السنوات الأربعين الماضية، من أي حق في العودة، في حين يستطيع أي مواطن من أي بلد في العالم أن يهاجر إلى الأراضي نفسها ويستوطن فيها، شرط أن يتمكن من إثبات أصله اليهودي.

في هذا الإطار، يستند الرأي العام العربي بطبيعة الحال إلى صدمتيه التاريخيتين الأخيرتين - الحملات الصليبية، ومن ثم الاستعمار الأوربي بعد قرون - في محاولة فهم انحياز الغرب لصالح إسرائيل. بالتالي، بالنسبة إلى الغالبية العظمى من العرب الذين لا يعرفون بالتفصيل تاريخ أوربا وصدماتها، لا يمكن تفسير نشوء دولة إسرائيل وتفسير الدعم الذي تلقاه من العالم «الغربي»، إلا باعتبارهما شكلاً جديدًا من أشكال الحملات الصليبية الاستعمارية والدينية الحديثة ضدهم.

ويعزّز وجهة النظر العربية هذه، واقعُ أن القوى الغربية لا تطبّق القيم والمبادئ العالمية الملحوظة في القانون الدولي تطبيقًا عادلاً في المنطقة.

المعايير المزدوجة

هذه هي النقطة الثانية التي لا يستطيع أن يلتقي عندها الرأي العام العربي بالرأي العام الغربي. فتطبيق القانون الدولي بمعايير مزدوجة، يطرح سؤالاً من المهم مناقشته في حال أردنا التوصّل إلى تفاهم. نظرًا إلى الخلفية التاريخية الخاصة بصانعي القرار الغربيين، لا يستطيع معظم هولاء أن يدركوا إلى أي مدى يتزعزع الوضع نتيجة لسوء استعمال القانون الدولي والأمم المتحدة في إدارة النزاعات في الشرق الأوسط بالنسبة إلى الرأي العام العربي، هذه مسألة أساسية وجوهرية أخرى ينبغي مناقشتها بجدية في أي محاولة لإقامة حوار بنّاء. وفي هذا الإطار، يمكن إيجاد المعايير المزدوجة التالية في تطبيق القانون الدولي. ولا حاجة هنا إلى سرد سياسة المعايير المزدوجة التي تتبعها الأمم المتحدة والدول الغربية الكبرى في تطبيق قرارات مجلس الأمن بقسوة وبشدة على الدول العربية، وإقفال جميع القرارات المتعلقة بإسرائيل وضرورة انسحابها من الأراضي العربية المحتلة.

ومع نشر الرسوم المسيئة إلى النبي الأكرم والدفاع عن هذا النشر بحجة حرية الصحافة والتعبير، فقد ظهر نوع آخر من ازدواجية المعايير في الغرب تجاه العرب والمسلمين، إذ إن التهكّم بالديانة اليهودية أو إبداء الشك حول أعداد ضحايا اليهود في الحرب العالمية الثانية من الأعمال التي تقمع بشدة في الدول الغربية وتعرّض صاحبها إلى أنواع شتى من الاضطهاد والازدراء والتنديد.

وتروّج الحكومة الأمريكية بشكل ناشط، للإصلاحات في المنطقة العربية ضمن إطار «الشرق الأوسط الكبير» . والبرنامج الأمريكي لا يختلف كثيرًا عن جهود الاتحاد الأوربي من خلال عملية برشلونة من أجل خلق منطقة يسود فيها السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان في منطقة حوض المتوسط. فالبرنامج يتضمّن تعزيز القيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والحكم والمحاسبة، والحقوق الجندرية، واحترام حقوق الأقليات، وتطبيق اقتصاد السوق والتجارة الحرة، وكلها مسائل تم تطبيقها بشكل ناجح في العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. وقد توسّع نشر هذه المبادئ إلى أنحاء كثيرة من العالم بعد سقوط الإمبراطورية السوفييتية، وخصوصًا إلى أوربا وبعض البلدان الآسيوية. وها هو العالم العربي الذي يبدو أنه يتباطأ فلا يلحق بهذا التطوّر الإيجابي العالمي.

ويبدو أن الكثير من صانعي القرار الغربيين يعتقدون أن الإرهاب يجد منبعه حصرًا في المنطقة العربية، بسبب تردّد هذه المنطقة في اعتماد المبادئ الديمقراطية المعاصرة ومبادئ اقتصاد السوق، وغالبًا ما يشار إلى الأسباب الأنثروبولوجية ذات الطابع الديني أو الإثني، كما دلّت على ذلك أخيرًا الرسوم الكاريكاتورية الشائنة ضد النبي الأكرم التي تعمم نشرها في الصحافة الأوربية، خلافًا لكل مبادئ احترام الآخر ومعتقداته، وذلك لمحاولة تفسير هذا التباطؤ في اعتماد عملية تحديث ديمقراطية في العالم العربي. ويميل الرأي العام الغربي إلى التقليل من أهمية وقع الصراع العربي الإسرائيلي على المجتمعات والأنظمة السياسية العربية. فالاعتقاد الأساسي السائد يقول إن هذا الصراع ليس سوى عذر تستعمله الحكومات العربية أو بعض المفكرين القوميين العرب المحافظين، من أجل تفادي الديمقراطية وسيادة القانون.

في الواقع، إن الوضع الحالي يحاكي الوضع الذي كان سائدًا في القرن التاسع عشر، عندما كانت القوى الاستعمارية الأوربية تطلب من السلطنة العثمانية اعتماد الإصلاحات الداخلية، ومنح حقوق الأقليات للمجموعات الإثنية أو الدينية المختلفة الموجودة فيها، في حين كانت هذه القوى نفسها تحتل أجزاء مختلفة كثيرة من السلطنة. بالتالي، فلم يكن صدق القوى الاستعمارية الأوربية ذا درجة عالية، وانقسمت الآراء داخل السلطنة، وخصوصًا فيما بين العرب، بقدر ما هي مقسومة اليوم حول موضوع آخر: هل الحكومة الأمريكية صادقة في دعمها الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أم أن هذه أداة جديدة تستعملها لتفكيك البلدان العربية المختلفة التي تضم مجتمعات تعددية؟

ليس من السهل إصدار حكم متوازن حول دور كل من العوامل الداخلية المنشأ والخارجية المنشأ في المسار البطيء الذي تسلكه البلدان العربية في اعتماد القيم الديمقراطية وتطبيقها بجدية. فكل تحليل لهذا التباطؤ الخطير يتجاهل نوعًا من نوعي العوامل هذين، سيفوّت تمامًا الطابع المعقد للتوترات التي يعيشها العالم العربي منذ سقوط السلطنة العثمانية. ويجب أن نتذكّر ههنا أنه قبل تفجّر المسألة الفلسطينية في العام 1948، كانت بلدان عربية كثيرة كمصر وسورية والعراق ولبنان، تحقق تقدمًا هائلاً في إرساء الأنظمة الديمقراطية في حكوماتها. ولا يجدر بنا أن نضع جانبًا عامل النفط في المنطقة، ومصلحة القوى الغربية الكبرى في السيطرة عليه. كذلك، ضمن العالم العربي نفسه، كانت الثروة النفطية السبب وراء الزعزعة الكبيرة التي ضربت الكثير من التوازنات الاجتماعية والسياسية إن بين البلدان المختلفة، أو بين الطبقات الاجتماعية المختلفة داخل البلد العربي الواحد. بالتالي، إن لم نأخذ العوامل الخارجية في الاعتبار أثناء التحليل، وإن لم ننتبه إلى الصدمات التاريخية المذكورة سابقًا، لن يكون النجاح في تعزيز الإصلاحات مهمة سهلة كما قد يبدو ظاهريًا، خصوصًا في ظل احتلال أجزاء كبيرة من الوطن العربي، أو جعل هذه الأجزاء مكانًا لتمركز القوات الأجنبية. لقد آن الأوان لرفع مستوى طبيعة الحوار العربي - الغربي، وللقبول بإدخال العوامل الخارجية والمنظار التاريخي الدولي في التعقيدات والتوترات، التي تميّز معظم المجتمعات العربية. 

جورج قرم