من نبع الشعر.. ثلاث قصص من قصائد

من نبع الشعر.. ثلاث قصص من قصائد

هذه القصص مستوحاة من عدد من قصائد الشعر الغربي، التي هزّت وترًا في قلبي، وأغرتني بصياغتها على هيئة قصص تدين للأصول الشعرية باقتباس فكرتها، أو روحها وإيقاعها الباطن، أو حتى بيت واحد فيها. هي تجربة أتمنى أن تجد لها صدى في وجدان القارئ.

الصبي الذي كان يحمل اسمي

زارني الصبي الذي كان يومًا يحمل اسمي، وقف أمامي على حين فجأة، واستند إلى جدار المكتبة صامتًا شاحب الوجه. لم أدر كيف تسلل إلى حجرة مكتبي، بينما كنت أقرأ أو أكتب بحثًا أو أترجم نصًا أو أحاول أن أعدّ كلمة أقولها في ندوة أو مؤتمر. لكنني وجدته أمامي ولم يكن هناك مفرّ من المواجهة. راح كل منا يتأمل الآخر دون أن يقوى على التلفظ بكلمة. نعم هذا هو وجهه. الوجه البريء المتعب نفسه. العينان الشاردتان التائهتان نفسهما. الانكسار والإحباط نفسهما وخيبة الأمل تكسو الملامح وتنسكب من النظرات الحزينة، كان هو أيضًا يتطلع إليّ في دهشة من لا يصدق. ربما أذهله الشعر الأبيض الذي يغمر رأسي كالثلج المتجمد. أو كلال العينين اللتين بدأ نور شمعتهما في الخفوت والخمود، أو التجاعيد التي حفرتها السنين على الوجه الذابل الذي غادرته نضارة الشباب من أمد طويل. وكان لابد أن يبدأ أحدنا الكلام، فأردت أن أحييه وأرحب به في مسكني وبين كتبي المتراكمة من حولي. لكن وهج الغضب الذي كان يتأجج من عينيه ويلهب وجنتيه وينبئ عن اتهام وشيك لم يسعفني بكلمة واحدة، وما هي إلا لحظات حتى سمعت رنين أصوات تخترق أذني كأنها تلطمها وتهزها بعنف وقسوة: - ماذا فعلت بي؟

رفعت حاجبيّ وأنا أسأل ببراءة: ماذا تقصد؟

رفع يده وهو يسدد إبهامه نحوي: كنت شاعرًا في صباي، فإلى أين وصلت بي؟

قلت وأنا أحاول أن أرسم ابتسامة على فمي: أما أنك كنت شاعرًا فهذا حق. مازلت أذكر أنك عارضت «غير مجد في ملتي واعتقادي» و«يا نائح الطلح أشباه عوادينا». ومازلت أذكر أيضًا أنك كنت تدون قصائدك الأولى في كتيبات صغيرة تضع عليها اسمك وتذكر أنها صدرت عن مطبعتك، لكنها انتهت جميعًا إلى الفرن.

قال مندهشًا: الفرن؟

قلت ضاحكًا: نعم... جمعتها أمي مع مسودات قصص أخرى سخيفة ومسرحيات ساذجة وألقتها في الفرن. كانت حجتها أنها تعطلني عن المذاكرة، وأن الفائدة الوحيدة منها هي أن تشعل بها النار، وأن تصير إلى الرماد وتتحول إلى التراب الذي جئنا منه، وإليه نعود.

سأل وهو يفتح عينيه على اتساعهما: هل معنى هذا أنك لم تواصل قول الشعر؟

قلت كأنني أحكي قصة خطيئة كبرى: أنا لم أتخلّ عنه إلا بعد أن تخلّى عني... لكن الشعر - كما تعلم - لا يغادرالعظم واللحم الذي سكنه ذات يوم. بقيت منه الشاعرية التي كانت وراء ترجماتي ودراساتي، التي لا آخر لها للشعر - لقد عجزت مع بلوغي العشرين عن كتابة قصيدة واحدة بعد أن تهت وتورطت في المتاهة.

قال وهو يقترب مني مستطلعًا: تهت؟ ومتاهة؟ ماذا تقصد؟

قلت كأني أتذكر أوكأني أعترف: نعم. شدّتني الحكمة من يدي فتهت منذ شبابي الباكر في صحراء العقل المجرد. راح الحكماء من الغرب والشرق يجذبونني إليهم واحدًا بعد الآخر، فأنساق وراءهم وأدخل بيوتهم وصوامعهم وأعيش مع أفكارهم وتجاربهم وأكتب وأكتب أو أترجم عنهم. كنت أغوص في الصحراء اللافحة، فيزداد عطشي مع كل خطوة. وكلما لاح سراب من بعيد جريت نحوه وتصورت أنه واحة أستظل بها، وأستريح من وهج القيظ ومرارة الحرمان، فأحاول أن أرجع إلى النبع المنسيّ.

سأل مندهشًا: النبع المنسيّ؟.

قلت: أجل. النبع الأصلي الذي كانت تشغلني عنه المهنة، التي تورطت فيها، ولقمة العيش التي لم يكن منها مفرّ. وزحام المعرفة والثقافة الذي كنت مضطرًا للمشاركة في أسواقه الصاخبة... هل فهمت يا عزيزي الغائب الحاضر؟

هزّ رأسه آسفًا: وقال: وماذا كنت تريد من ذلك النبع؟

قلت متعجبًا: وماذا يطلب المرء من النبع الطاهر النقيّ؟ أن ينهل منه، ويغتسل من رماد العالم ويجد ذاته الضائعة.

ضحك فجأة وقال: مازلت لا أفهم... نبع ورماد وذات... ماذا تريد أن تقول؟

قلت: كنت في تلك اللحظات السرابية القليلة أجد نفسي في قصة أو مسرحية أو خاطرة أكتبها وأستمتع بها قبل أن أكتشف أن السراب هو السراب، وأن قيظ الصحراء وضياع المتاهة لن يلبثا أن يجراني كالعبد المغلول بالسلاسل والقيود... قال وعلى فمه بسمة ساخرة: وصرت قاصًا وكاتبًا مسرحيًا يتحدث عنه. قاطعته وأنا أشير بيدي ساخطًا: النقاد؟ باستثناء اثنين أو ثلاثة يذكر القصاصون فلا يذكر اسمي، ويعدّ كتاب المسرح فلا يتذكرني ناقد ولا مسرح، وإذا ذكرني أحد فأنا عنده مترجم الشعر وشارحه أو معلّم الحكمة الذي قضى شبابه على أبوابها، وهكذا تراني الآن أيها الصبي الطيب الحبيب - تراني شيخًا هدّه المرض والغدر والتجاهل وخيبة الأمل.

اقترب مني وثبت عينيه في عيني: ألست أنت الذي تجاهلت نفسك وانشغلت عن نبعك... لا تلم إذن إلا نفسك.

قلت: معك الحق، لا يصح أن ألوم إلا نفسي، ولا ينبغي عليّ إلا أن أتدارك ما فاتني، هل تتصور أن البقية الباقية.

لم أكد أقول هذه الكلمات حتى خيّل إليّ كأنّ الصبي قد كبر فجأة في السن وطالت قامته، ووقف أمامي متحديًا ومحذّرًا. مدّ يده في جنب الصديري فأخرج ساعة كبيرة مستديرة تشبه الساعة العتيقة، التي كان أبي يضعها في جيب جلبابه ويخرجها منه كلما أراد أن يعرف مواقيت الصلاة. وبدأ الرجل الطويل الشامخ القامة، الذي كان قبل قليل صبيًا غريرًا دائم الحزن والشرود، بدأ يهتف بصوت مرتفع: الحياة وقت. ولكل وقت قلب، أي له مركز ومنتصف. مَن أراد الحقيقة وصمّم عليها استجاب لنبض هذا القلب، لزم المركز ولم ينحرف عنه. ألا يقاس الوقت بالسنين والشهور والأيام واللحظات؟ الحياة سنة ومركزها وقلبها هو أجمل شهورها. لكنك ضيّعت على نفسك هذا الشهر. والحياة يوم له مركزه وقلبه ومنتصفه. لكنك ضيّعت اليوم وأنت تحلم مفتوح العينين. والحياة آن أو لحظة لها مركزها وقلبها ومنتصفها. لكنك فوّت على نفسك الفرصة فلم تعشها ولم تتذوقها ولم تغترف كما ينبغي من نبعها، لكن انس هذا الآن. انسه وامنع أسنانك أن تعض لحمك، فها هي الحياة مازالت تقدم لك قلبها ومركزها ونبعها المتدفق من أعماقها. قم ولا تضيّع هذه اللحظة كما ضيّعت غيرها.

نظرت إليه مذهولاً من هيئته وكلامه، ويبدو أن الدموع التي ملأت عينيّ منعتني من أن أنتبه لاختفائه المفاجئ كمجيئه المفاجئ، لم أجد أمامي ولا حولي إلا الكتب التي تنظر إليّ صامتة خرساء من فوق الرفوف. ومع ذلك فربما ناديت الشبح المتلاشي وأنا أسائله بصوت هامس: وهل بقيت في العمر بقية...؟!

قرطبتي وحيدة وبعيدة..

سمعت وقرأت عنها في صباي. عرفت أن سماءها زرقاء، والقمر الذي يطلع فيها أخضر وكبير، وأن أبراجها العالية تطل على أهلها في صمت وحنان، وناسها طيبون وسعداء وحكماء، والطريق إليها خطر وطويل، سمعت وقرأت أيضًا أن فيها قبابًا ومآذن وبقايا جوامع وأعمدة وحدائق ونوافير، وكم كان اسمها المنغم يطربني، وتاريخها المفعم بالبطولات والأحزان والأشجان يشجيني.

عندما كبرت قليلاً حلمت أن أرتدي ملابس الفرسان وأعتلي صهوة فرس أسود صغير، وأنطلق إليها وأسأل كل من ألقاه عن قرطبته الوحيدة البعيدة ، لكنني كنت مجرد حالم بائس لا يملك فرسًا ولا يستطيع أن يحصل على ملابس الفرسان ولا يعرف طريق البرّ ولا طريق البحر إليها. مع ذلك لم أيأس من الوصول إليها، وإن بقيت عزيمتي وإيماني مجرد أحلام تراودني في الصحو وفي المنام. ثم كبرت أكثر ورحت أقرأ عن المدن المثالية الفاضلة، التي يقال كذبًا إنها لا توجد إلا في الأحلام والأوهام. وبدأت أكتب وأكتب وقرطبة الوحيدة البعيدة تتجلى كوجه محبوبة جميلة ومستحيلة وراء أقنعة الحروف والكلمات والعبارات. أراها في قصائد الشعراء، وأحس ريحها المعطرة بالذكريات والأشواق تلفح وجهي أثناء انكبابي على قراءة الفلاسفة، ومن بين السطور والصفحات الطويلة التي أسودها عنهم.

وأبلغ صحراء الكهولة ثم أوغل في متاهة الشيخوخة، والحلم بقرطبتي الوحيدة والبعيدة لايزال يلحّ عليّ، كأنه الملاك الذي ينقذني في المحن الكثيرة وينتشلني من مستنقع البلادة والملل والخسّة والغدر والظلم والتجاهل والمرارة، الذي طالما أوشكت أن أغرق فيه. ومن بعيد تتخايل أمامي قرطبتي الحبيبة الغامضة البعيدة، أتجول بين ناسها الطيبين السعداء، أبتهج بالمشي في حدائقها الغناء والتطلع لأبراجها الشماء، أفرح بالجمال والنظافة، والانسجام والوئام الذي تكاد تنطق به الأحجار الصمّاء، وكم يبهرني ويدهشني أن تطل شمسها الربيعية الدافئة في النهار، وقمرها الأخضر كالكرمة المتوهجة في الليل على شوارع وميادين وقصور وبيوت تغمرها السعادة والسكينة والسلام، ويعمرها العدل والتراحم والحنان.

أحيانًا ينتابني الإحساس بأن الموت يحدّق فيّ من أبراج قرطبة، وأنه سيخطفني حتمًا قبل أن أبلغ قرطبة. لكنني أعزي نفسي بأن أناسًا غيري ربما بلغوها وعاشوا فيها وتنعموا بخيراتها وثمارها وأنوارها، وكنوز الحكمة والسعادة والحقيقة التي ستصبح في متناول أجيال أخرى تأتي من بعيد، أو أبناء أو أحفاد أو أحفاد أحفاد، ربما يساعدهم الحظ والتاريخ وحكمة العقل والبصيرة أن يصلوا إليها ويحققا حلمي وحلمهم بالعيش فيها.

وأظل أحلم بقرطبة الحرة العادلة الجميلة.

وتظل قرطبتي وحيدة وغامضة وبعيدة.

الملاك الجريح

كنت جالسًا على الأريكة تحت المظلة، أنتظر الترام الذي يقلني إلى بيتي. كنا بعد منتصف الليل، في ليلة خريفية نسماتها باردة ومنعشة. وكنت قد تأخرت عند الأصدقاء بعد أن طال بنا الحديث والجدل الذي لا ينتهي حول أزمة الثقافة والأدب والشعر والفن في مجتمع مأزوم من كل ناحية. وعندما تنبهت إلى الساعة، استأذنت وجريت إلى محطة الترام لعلي أدركه قبل أن يتوقف. يبدو أن جلستي طالت أكثر مما كنت أتوقع وأنني أغفيت قليلاً، فحدث ما حدث. فقد وقعت عيني في منتصف الشارع تمامًا على شيء ارتطم بالأسفلت بلا صوت، وتمدد على الأرض كطائر كبير أبيض. لم أدر هل هبط من السماء في غفلة من العالم، أو خرج من باطن الأرض. وما جعلني أتحرك وأنتفض من مكاني كأن زلزالاً رجّني فجأة هو سماع صوت أنين خافت ينتهي إليّ من وسط الشارع، واستمرار حركة المركبات والناس حول الجسد كأن أحدًا لا يراه. أيقنت أنني أنا وحدي الذي رأيته، وعبرت شريط الترام وانحنيت عليه. كان وجهه الناعم الوسيم كوجه رضيع يبتسم ويبكي في وقت واحد، وكان شعره الأشقر الطويل يتهدل على كتفيه اللتين كان من الواضح أنهما جريحتان، ويتدلى منهما جناحان كبيران ملوثان بالدم والتراب، وممددان على الأرض كجناحي نسر عملاق يحتضر من شدة الألم.

قلت له: من أنت؟ يبدو أنك غريب عن هذه المدينة. ألا تخشى أن تدوسك عربة أو تنتبه إليك الشرطة أو يتزاحم حولك الناس؟

تأوّه وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه وقال: لا تنزعج واسمعني، فأنا ملاك جريح لا يراني أحد. لا النور يراني ولا الريح، ولا زجاج النوافد، نعم ولا زجاج النوافذ، أسير كالميت في الشوارع بلا صوت ولا ظل. قلت أطل على مدينتكم التي تصاعدت منها الضوضاء والروائح الكريهة وصرخات الجياع والمحرومين والضائعين. اخترقت الأبواب والجدران دون أن يحسّ بي أحد. حتى المرايا نفذت منها ولم يرتسم وجهي على إحداها ولم يرني صاح ولا نائم، لا رجل ولا امرأة، ولا طفل ولا شيخ. تجولت في مدينتكم العتيقة العريقة. دخلت أحياء كان من المفروض أن تندثر من زمن طويل كما اندثرت مدن قديمة وانقرضت حيوانات لم تصلح للحياة، طفت بالمدارس والمستشفيات والأحياء العشوائية، ومسحت يدي على حياة المتعبين والنائمين على الأرصفة والمشردين العاطلين في الشوارع، وعلى شاطئ النهر. رحت أقول لنفسي: يا إلهي! كل هذا العدد من المظلومين - وكل هذا العدد من الظالمين! يا إلهي... كل هذا القبح. هذه الضوضاء. هذا الفقر... أنا ملاك الفقراء لا أملك أن أطعم جائعًا أو أكسو عاريًا أو أخفف بؤس أسرة مستورة وراء الجدران. ومع أني ملاك كما ترى فقد أغمى عليّ بعد كل ما رأيت وسمعت ولمست بنفسي، ووقعت على الأرض مغشيًا عليّ فانكسر جناحاي. لا مفر من أن أرجع مرة أخرى على رأس جيش من ملائكة الفقراء. ربما نستطيع أن نشفي جرحًا أو نجفف دمعة أو نعيد البسمة إلى فم يتيم أو شيخ مطحون.

أما أنت يا صديقي الذي رآني وسمعني دون بقية الناس والكائنات، فلا تحزن عليّ. بعد قليل سيحضر من يأخذني بين ذراعيه أو على جناحيه إلى الملأ الأعلى. بعد قليل تبلغ شكوى المظلومين والمنسيين الضائعين في مدينتكم العجوز البائسة إلى آذان الملائكة والقديسين والخالدين، وربما تحوم أصداؤها حول العرش العظيم.

انتبهت على يد تهزني من كتفي. فتحت عيني فوجدت رجلا في مثل سني يضحك بصوت عال: كلانا فاته الترام... ألا تنتظر مثلي الخط رقم ثلاثة عشر؟ فات آخر ترام يا صاحبي. يبدو عليك أنك تسكن في الحي نفسه الذي أسكنه. هيا بنا نتسلى بالمشي معًا إلى الحي الذي تطوي أرضه الكنوز وتحتفظ بأعجب آثار أبي الهول والأهرام ومراكب الشمس... هيا بنا يا صاحبي... هيا بنا..

في فؤادي الرحيبْ معبدٌ للجمالْ
شيَّدتْه الحياهْ الرُّؤى والخيالْ
فتلوْتُ الصلاهْ في خشوع الظلالْ..
وحرقت البخورْ.. وأضأتُ الشموعْ...


 

عبدالغفار مكاوي