الرحلة إلى أمريكا.. د. جابر عصفور

الرحلة إلى أمريكا.. د. جابر عصفور

يواصل الكاتب بحثه عن جذوره المعرفية، وهو ينتقل من جولاته داخل المكتبات المغلقة إلى عالم الجامعات المفتوح وخاصة رحلته إلى أمريكا.

كان السفر إلى الولايات المتحدة سنة 1977 أحد الأحداث المهمة في حياتي. وهو حدث ارتبط بمفارقة دالة، فقد كنت مرشحًا - بواسطة أحد كبار القوم الذين أحسنوا الظن بي - لكي أعمل ملحقًا ثقافيًا في سفارتنا في طهران - إيران. وقابلت وزير التعليم في ذلك الوقت، في صيف 1977. إن لم تخنّي الذاكرة، واحتفى بي الرجل، وظل يحدثني عن أهمية السفر إلى إيران، التي كانت العلاقات بينها وبين مصر في طريقها إلى التصاعد، في ضوء التقارب المتزايد بين شاه إيران والسادات. وكنت على وشك التسرع بالقبول، لكني طلبت من الوزير أن يمهلني بعض الوقت لتدبر أموري، خصوصًا أنني كنت العائل الوحيد لوالدتي. بعد وفاة أبي، ولم يكن لأمي سواي في الحياة، ولذلك كان لابد أن أفكر فيها، أو أتعلل بها، لا أدري. وقد فوجئ وزير التعليم بما رآه محاولة لتأجيل اتخاذ القرار، والتردد إزاء فرصة يتلهف مئات غيري على اقتناصها. ويبدو أنني لم أكن في أعماقي حريصًا على المضي في الطريق الذي قد يبعدني عن المشروع العلمي الذي انطويت عليه، والذي أصبح تحقيقه هدف حياتي على نحو معلن، أو غير معلن، خصوصًا أنني بدأت أسهم بمقالاتي في الحياة الثقافية، وألقى بعضًا من حسن الظن بما كنت أكتب في ذلك الزمان البعيد.

وربما كنت حريصًا على أن أتباعد عن أي عمل يربطني سياسيًا بالتوجهات الساداتية التي كنت نافرًا منها، وأهمها حرص السادات على التخلص من الإنجازات الناصرية، واستبدال علاقة التحالف الجديد بالولايات المتحدة بعلاقة التحالف القديم بالكتلة الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي، ولم يكن غريبًا، في سياق هذه التوجهات، أن يقوم السادات بإلغاء معاهدة الصداقة المصرية - السوفييتية في مارس 1976، قبل أشهر معدودة من الانفجار الذي شهدته مصر، في يناير 1977، والذي أطلق عليه السادات «انتفاضة الحرامية»، بينما أطلقت عليه المعارضة، التي كنت متعاطفًا معها اسم «ثورة الخبز» التي حدثت بسبب رفع أسعار المواد الغذائية في مصر فجأة، وهو القرار الذي فجّر مخزون الغضب الجماهيري بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، والتحول عن طريق الأحلام القومية التي ارتبطت بشعارات: الحرية والوحدة والاشتراكية.

الفرصة الأفضل

ولذلك تعللت بالتفكير في موضوع السفر إلى إيران، وتحججت بأمي التي لم يكن لها سواي، كي أعطي نفسي فرصة دراسة الأمر وتقليبه على جوانبه، حالمًا بأن يبعث الله مخرجًا أفضل وسفرًا أجمل. وقد تحقق الحلم بمصادفة بهيجة، فقد كان صديق عمري الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي يعمل في الولايات المتحدة، أستاذًا في جامعة «نورث كارولينا». وكان يتركها في فترة الصيف ليعمل أستاذًا في «الكورسات» الصيفية التي تقيمها الجامعات الأمريكية الأخرى، ومنها جامعة وسكنسن - ماديسون، التي كان يذهب إليها لتدريس «الكورس» الصيفي، وهناك أقام علاقة طيبة بأعضاء هيئة التدريس، خصوصًا الدكتور داستن كاول الذي كان يتولى تدريس اللغة والأدب العربي في الجامعة. وحدث أن حصل داستن كاول على منحة دراسية لمدة عام، وكان على الجامعة أن تُعيّن بديلاً له، أستاذًا زائرًا، في فترة غيابه، وانتهز أحمد شمس الفرصة، وعرض على داستن أن أحل محله، وقدّم له بعض ما كنت قد نشرت من إنتاج علمي، ابتداء من كتابي عن «الصورة الفنية في التراث البلاغي والنقدي»، الذي نشرته سنة 1974، وانتهاء بالمقالات والدراسات التي كنت أهديها له عندما كان يزور القاهرة، فقد كانت صلتي به، ولاتزال، صلة حميمة لا تخلو من علاقة الأخ الكبير بالأخ الصغير الذي هو أنا. وقام أحمد بكتابة طلب العمل في الجامعة دون أن أعرف، وألحق به نماذج من إنتاجي العلمي، التي يبدو أنها لقيت استحسان اللجنة المشكلة لهذا الغرض، وكانت النتيجة أن أرسلت لي جامعة وسكنسن دعوة رسمية للعمل أستاذًا مساعدًا (زائرًا) للأدب العربي، عن طريق ما كان يسمى «الكابل» في ذلك الزمان الذي لم يكن يعرف الفاكس أو الــ E-Mail.

وكانت دعوة جامعة وسكنسن حلاً سعيدًا حاسمًا لترددي في اتخاذ قرار قبول السفر إلى إيران للعمل ملحقًا ثقافيًا لأربع سنوات. فقد قلت لنفسي: عام في جامعة أمريكية، أعرف فيه مستجدات النقد الأدبي الحديث والمعاصر أفضل عشرات المرات من العمل الدبلوماسي في إيران. وهو عمل ماكان يمكن أن يضيف أكاديميًا إلى تكويني، فضلاً عمّا كان يمكن أن يورطني فيه سياسيًا، ولذلك، ذهبت في الموعد الذي حدده لي وزير التعليم لأبلغه بقراري، وصُدم الرجل عندما أخبرته بقبولي دعوة جامعة وسكنسن - ماديسون، وتفضيلي الطريق الأكاديمي على غيره، وكنت أرى في نظرات عينيه ما يبدو استهجانًا أو استغرابًا لرفضي فرصة ذهبية لسنوات أربع، وقبولي العمل سنة واحدة في جامعة أمريكية لم تكن من الجامعات الشهيرة، أو ما يسمى بجامعات القمة، أمثال هارفارد وييل والـــM.I.T وبرنستون وغيرها. وتركني الرجل أخرج من مكتبه مشيعًا بنظرات الاستنكار بالقطع، وكنت قد بدأت على الفور في اتخاذ إجراءات السفر، خصوصًا بعد أن أبرقت للجامعة بموافقتي على الدعوة، وبقيت مشكلة مهمة، تحتاج إلى حل، وهي ثمن التذكرة إلى الولايات المتحدة التي كان من شروط التعاقد أن أدفعها من جيبي، وكانت الرحلة بالطيران إلى الولايات المتحدة، ولاتزال، باهظة النفقات، لا يقدر عليها أمثالي. ولكن الصديق أحمد مرسي ذلّل هذه العقبة بأن ذهب إلى رئيس جامعة القاهرة التي كنت مدرسًا فيها، وأقنعه أنني ذاهب في مهمة دراسية، فأصدر الرجل قراره بأن تتحمل جامعة القاهرة نفقات الرحلة، وذلك بسبب محبته لأحمد مرسي بالدرجة الأولى.

ولم أهدأ إلا بعد أن أكملت الاستعدادات للسفر. وكان منها الفراغ من كتابي «مفهوم الشعر» الذي كنت أريد التقدم به، مع غيره، للترقية إلى درجة أستاذ مساعد التي اقترب موعد التقدم إليها. ولم يكن هناك مفر من وصل الليل بالنهار إلى أن أنهيت الفصلين الأخيرين من الكتاب، وتركته في رعاية زوجي التي أشرفت على طباعته مع بعض الأصدقاء. وبعد أن اطمأننت إلى أن إنتاج الترقية مكتمل، وجاهز عندما يحين موعد التقديم القريب، توكلت على الله، وركبت الطائرة في الرحلة الطويلة إلى الولايات المتحدة، محققًا حلمي القديم بالسفر إلى إحدى الجامعات الأجنبية والتعلم منها. ولسوء الحظ، لم أجد مَن يعينني على تحقيق هذا الحلم، فاكتفيت بالحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة، تحت إشراف سهير القلماوي، لكن بما لم يقض على جذوة الحلم الذي ظل متوهجًا، والذي تحقق أخيرًا، لكن مع فارق مهم أنني لم أكن ذاهبًا في بعثة أقضي فيها سنوات أربعًا على الأقل، كما تعود المبعوثون، ويكون لديّ الوقت فيها لتشرب أو تمثل كل شيء جديد على مهل، وإنما كنت ذاهبًا للعمل أستاذًا زائرًا لمدة عام، ما بين أول سبتمبر 1977 ونهاية أغسطس 1978، ولذلك أخذت قراري، قبل السفر، بأن ألتهم كل ماأستطيع من معارف وفنون، وأن أحصّل في عام واحد ما يحصّله غيري في أعوام. وأحمد الله أنني استطعت تنفيذ هذا القرار، ونجحت فيه بما نقلني من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدمًا وعمقًا وشمولاً في تكويني العلمي.

كلمات الشباب

ولم يتركني العزيز أحمد شمس الدين الحجاجي، فكان يتابع أوراق سفري في الولايات المتحدة، ويتولى تجهيز كل ما يمكن أن أحتاج إليه في عملي الجديد، وأوصى بي صديقًا سودانيًا، يعد درجة الدكتوراه في تاريخ الطب الشعبي الإفريقي فيما أذكر، وكان يعمل مساعد مدرس للغة العربية والأدب، إلى جانب عمله في أطروحة الدكتوراه، ونصحني أحمد شمس بأن أسافر قبل موعد بدء الدراسة بأسبوعين، أقضيهما معه في جامعة بون في ولاية «نورث كارولينا» أو «كارولينا الشمالية» لأتعرف على نظام التدريس في الجامعات الأمريكية. وأحصل على بعض الخبرة، التي يمكن أن تفيدني عندما أذهب وحيدًا إلى جامعة وسكنسن. ولذلك جعلت تذكرتي إلى ولاية «نورث كارولينا» من القاهرة، وحفّظني أحمد الطريق ومحطات الانتقال، ممارسًا دور الأخ الكبير الذي لايزال يمارسه إلى اليوم.

وجاء يوم الرحيل، وانطلقت إلى الولايات المتحدة التي كنت متلهفًا إلى معرفتها ومعرفة جامعاتها الكبرى، وبعد وقفة في إحدى العواصم الأوربية، انتقلت إلى الطائرة المتجهة إلى نيويورك، وبعد ساعات طويلة، هبطت الطائرة في مطار كيندي الذي كان يبدو لي كالتّيه في ذلك الوقت. زحام، وعشرات الطرق، وحملة حقائب من الأمريكيين السود، أو الأمريكيين الأفارقة، كما كانوا يقولون. ولم يلفت نظري - إضافة إلى الزحام والاتساع - سوى كلمات السباب، التي كنت أسمعها في كل مكان. وكانت الكلمة العامية Shit هي أولى وأكثر الكلمات، التي ظللت أسمعها في مطار كيندي، ولم أكن أعرف معناها إلا من الأفلام الأمريكية. وكانت في معانيها العامية (Slang) تدل على دلالات عدة منها: الهراء، والشيء الردئ، وفعل معيب، كما تدل على أنواع من المخدرات مثل الكاناباس والماريجوانا، والغائط، ولها استخدامات طريفة في تراكيبها المتعددة، ابتداء من Shit-hot التي تعني التميز وليس انتهاء بتراكيب تتصل بالرأس، أو بعبارات السباب الديني التي لها ما يماثلها - وإن اختلفنا عنها في مجاز الكلمات - في العامية المصرية أو الشامية.

وظللت أنتقل بين المواضع التي أسمع فيها هذه الكلمة في مطار كيندي إلى أن خرجت منه، وذهبت إلى مطار لاجوارديا، وهو المطار الخاص بالطيران داخل الولايات المتحدة. وانتظرت طائرة شركة طيران «النورث وسترن» التي كانت في ذلك الوقت من أشهر وأكبر شركات الطيران الداخلي. وظللت في المطار لساعات في انتظار الطائرة التي سوف تحملني إلى مدينة «شارلوت» في ولاية «كارولينا الشمالية». وأخيرًا، جاءت الطائرة التي ظلت تحلق لأكثر من ساعة، أو ساعتين، لا أذكر تمامًا، إلى أن هبطت في مطار شارلوت مع أول المساء، وبحثت عن أحمد شمس الذي كان من المفترض أن يقابلني في المطار، فلم أجده، وظللت واقفًا أنتظر في مدخل المطار، إلى جوار حقيبتي، وطال الانتظار لأن صديقي سرح في بعض ما يشغله، فاتجه إلى الجنوب، بدل الشمال، ولم يكتشف ذلك إلا متأخرًا، فعاد في الطريق المعاكس إلى أن وصل إلى مطار شارلوت، ولكن بعد موعده بساعات وساعات، وبعد أن ملأني الرعب، فقد كنت أسمع عن جرائم السرقة والقتل المجاني المصاحب لها. ومدينة شارلوت تقع في الجنوب الذي يتميز بالعنف، تميزه بالتعصب ضد السود في ذلك الوقت. وركبت مع أحمد سيارته في الطريق إلى مدينة بون، التي تقع فيها جامعة شمال كارولينا. وكان يسكن في الضواحي في منزل يقع على قمة تل أخضر مترامي الأطراف، فتحت عليه عينيّ في الصباح، فشعرت بالبهجة والهدوء، وذهبنا إلى الجامعة، وحضرت محاضرات صديقي الذي قدّمني إلى زملائه وزميلاته، وبدأت أتعرف على النظام الجامعي الأمريكي للمرة الأولى. وكانت تجربة مفيدة، مهدتني نفسيًا للانتقال إلى جامعة وسكنسن - ماديسون، التي سافرت إليها بعد أن قضيت أيامًا عامرة بالثراء والمحبة ومعرفة طبيعة الحياة في الجنوب الأمريكي. وقد أتاحت لي زيارتي القصيرة لجامعة «كارولينا الشمالية» أن أستكمل ما يلزمني من معرفة ما ينفعني عن ولاية وسكنسن، وجامعتها في مدينة ماديسون. وسرعان ما انتهت هذه الزيارة البهيجة بفضل أحمد شمس الذي لم يتركني إلا بعد أن أوصلني إلى المطار، وأوصى أصدقاءه في ماديسون كي يكونوا في استقبالي.

وقد حدث ذلك بالفعل، فقد وجدت إسماعيل الشاب السوداني الذي سوف يعمل مدرسًا مساعدًا لي، في استقبالي، وكان شديد العذوبة والشهامة، اصطحبني من المطار إلى الفندق القريب من الجامعة، بعد أن اعتذر لي عن ارتفاع ثمن الغرفة، وكان ثلاثين دولاراً (يعد مبلغًا كبيرًا في ذلك الوقت). وأوصلني بسيارته إلى الفندق الذي كان في دائرة الحرم الجامعي. وبعد أن استرحت قليلاً اصطحبني معه إلى السكن الجامعي. حيث المنزل الذي كانت تملكه الجامعة، ويعيش فيه مع زوجه بيف (اختصار بيفرلي) الودود المضيافة إلى أبعد حد. وبفضل هذين الاثنين فارقني سريعًا الإحساس بالوحدة والغربة، واندمجت شيئًا فشيئًا في الحياة الجامعية الجديدة. وفي مجتمع ماديسون، المدينة الثانية في ولاية وسكنسن، وعاصمتها ميلووكي، المدينة التي نشأت فيها جولدامائير، التي لايزال تمثالها الشمعي موجودًا في أحد متاحفها، بوصفها إحدى الشخصيات التي تفخر بها المدينة. أما ماديسون فهي المدينة الثانية الكبرى في ولاية وسكنسن، بعد ميلووكي العاصمة، ويرجع تاريخ إنشائها إلى سنة 1936، وأصبحت ولاية سنة 1848 ولايزال يطلق عليها اسم مدينة البحيرات الأربع، التي تحيط بها المدينة، وهي: ميندوتا، ومولونا، وكيجنوسا، وإبيسا. وكلها أسماء هندية الأصل، مثل اسم وسكنسن نفسه الذي هو التسمية الإنجليزية المأخوذة عن الفرنسية المأخوذة، بدورها عن التسمية التي أطلقها الهنود الحمر على المنطقة، وهي تبعد حوالي 77 ميلاً من ميلووكي.

حس راديكالي

وكان تعداد سكان المدينة يوم زرتها، أكثر من عشرة آلاف نسمة، لكنها ظلت تواصل نموها وزيادة عدد سكانها - إلى أن وصلت إلى أكثر من مائتي ألف نسمة في تعداد سنة 2000، فاختفت المدينة الهادئة، التي سعدت بالحياة فيها ما بين أغسطس 1977 ومطلع سبتمبر 1978. وكانت الاتجاهات الراديكالية ذات تاريخ ملموس في المدينة، شعرت بآثارها بعد معرفتي لها، خصوصًا الاضطرابات العديدة التي احتجّ فيها الطلاب على الشركات المستغلة للعمال والملوثة للبيئة، سنة 1967، مثل شركة داو للكيميائيات، وأسفر الاحتجاج عن جرحى عديدين من الطلاب في الاشتباكات العنيفة، وتصاعد الاحتجاج، سنة 1969، مصحوبًا بالإضراب للدفاع عن حقوق الطلاب في حرية التعبير، وضرورة إسهامهم في التغيير، فضلاً عن الحقوق المدنية العادلة للطلاب الأمريكان الأفارقة وأعضاء هيئة التدريس، واستمرت المظاهرات التي واجهها الأمن بعنف سنة 1970.

وكان ذلك ضمن سياق الموجة العالمية من ثورة الطلاب التي اقترنت بصعود تأثيرهم. وحركاتهم الثورية التي قام علماء الاجتماع من أمثال هربرت ماركيوز وألان تورين بإلقاء الضوء عليها، مؤكدين اقترانها بالاحتجاج الذي أسقط حكومة ديجول في فرنسا، وأدى إلى تغيير نظام التعليم، وإنشاء جامعة فانسان المتحررة، واقترن هذا أيضًا بمواصلة الاحتجاج العنيف على استمرار الحرب الأمريكية في فيتنام، إلى أن اضطرت الحكومة الأمريكية إلى التخلي عن هذه الحرب الاستعمارية. وطبيعي - والأمر كذلك - أن يتصدر الحياة السياسية في ولاية وسكنسن النشطاء الليبراليون وذوو الأيديولوجيات التقدمية، وأن يكون تأثيرهم ملحوظًا في الجامعة التي تميزت بعدد طلابها وارتفاع مستواها العلمي بالقياس إلى غيرها من الجامعات الحكومية.

وظلت ماديسون تتميز بهدوئها وحيويتها في مدى إدراكي لها في تلك السنوات البعيدة، ومدى حبي للتجول في شوارعها، واستمتاعي بحدائقها، وقت الفراغ، خصوصًا في الأمسيات الصيفية، التي تزدان بأوركسترا المدينة الذي كان يقدم موسيقاه مجانًا للسكان، وكانت هذه الأمسيات تمثل الجوانب الفنية التي تضيف إليها أوبرا المدينة ومسرحها، ومتحفها للفن المعاصر، فضلاً عن دور السينما التي رأيت فيها الأفلام من كل نوع بلا رقابة أو حساسية أو منع، للمرة الأولى، وذلك في مناخ من الانفتاح الكامل والحرية، التي لا حدود لها سياسيًا، وثقافيًا، واجتماعيًا، يضاف إلى ذلك المكتبات المتعددة لبيع الكتب في المدينة، فضلاً عن مكتبة الجامعة الضخمة، وقد أسعدني - في المكتبات - ما أسعدني في الفنون من طلاقة حرية التعبير والانفتاح على كل الاتجاهات، ابتداء من الليبرالية وليس انتهاء بالماركسية بكل أطيافها.

مجتمع مفتوح

هكذا، وجدت نفسي - أنا القادم من مجتمع مغلق نسبيًا - أعيش في مجتمع مفتوح، لا يعرف الانغلاق في أي مجال أو اتجاه، مباهج المعرفة والفنون متاحة فيه بلا قيد أو شرط، أو تحيز، أو رقابة أو وصاية، ولم يكن عليّ سوى أن أنهل قدر استطاعتي مما هو مبذول، متاح، ابتداء من السياسة والفكر، وليس انتهاء بمناهج الدرس الأدبي. ولم يدهشني - والأمر كذلك - أن أجد تمثيلاً للحزب الشيوعي الأمريكي (CPUSA) في الولايات المتحدة، وهو واحد من الجامعات الماركسية اللينينية العديدة في هذه البلاد. وقد ظل أكثر الجماعات الشيوعية وأوسعها نفوذًا، خلال النصف الأول من القرن العشرين. ولعب دورًا مؤثرًا في المرحلة الأولى من صعود الحركة العمالية، ونظم وقاد الاتحادات الصناعية الرئيسية، ودافع عن حقوق الأمريكيين الأفارقة خلال هذه الحقبة، ولكن قوته السياسية تم قمعها والقضاء عليها بالقوة خلال صعود المكارثية ثم خلال حقبة الحرب الباردة، غير أنه عاود وجوده بعد ذلك، ولايزال محتفظًا بمقره الرئيسي في مدينة نيويورك، يصدر صحيفته الأسبوعية «عالم الشعب» ومجلته الشهرية «شئون سياسية» ويجاوز أعضاؤه الآلاف، وينمو نموًا بطيئًا حقًا، لكن في اطّراد، مع زوال معوقات التعصب في ذلك الوقت، وقبل أن تأتي الحقبة الريجانية (نسبة إلى الرئيس ريجان) بنزعاتها المحافظة التي لم تكف عن التصاعد القمعي إلى اليوم. وقد نفر الحزب الشيوعي الأمريكي، في نهاية الثمانينيات، من زعامة ميخائيل جورباتشوف، وانتقد سياسة البروسترويكا (الإصلاحية) التي تبناها، غير عابئ بما ترتب على ذلك من قطع صلته بالاتحاد السوفييتي الذي أنكر موقف الحزب سنة 1989. ولم أكتشف وجود حزب شيوعي في الولايات المتحدة فقط، بل وجود غيره من الأحزاب.

ولم يكن وجود الحزب الشيوعي وحده ما لفت نظري إلى مدى الحرية السياسية في الولايات، فقد سمعت عن وجود حزب أمريكي نازي، وذلك في البلد الذي مات الآلاف المؤلفة من أبنائه في الحرب ضد النازية. وقد عرفت، أخيرًا، وجود مايسمى «المجموعات النازية الجديدة في الولايات المتحدة»، وذلك بسبب ما ينص عليه الدستور الأمريكي من ضمان حرية التعبير، التي تسمح للتنظيمات السياسية بأعظم مدى من التعبير، حتى لو كان التعبير عن الأيديولوجيات النازية أو العرقية أو المعادية للسامية، وكلها أيديولوجيات تأخذ صف هتلر، مؤمنة بمعتقداته وأفعاله إيمانها بالرايخ الثالث، ولا يتم القبض على أحد من هذه المجموعات إلا في حال ممارسة العنف أو الكراهية، التي تنعكس في سلوك يجاوز معتقد صاحبه إلى إيذاء الآخرين. ولذلك يوجد إلى جانب هذه المجموعات أخرى غيرها، تقوم على التمييز العرقي، وتفضيل الجنس الآري، جنبًا إلى جنب «الفاشية الجديدة»، وهي تسمية موازية لتيار بدأ في العشرينيات، وانتشر في أوربا، خلال فترة مابين الحربين العظميين.

 

جابر عصفور