بارتيل بروين الأب: «سيدة وابنتها»

بارتيل بروين الأب: «سيدة وابنتها»

عندما يدرس الكثيرون تاريخ الفن في عصر النهضة، فإن أنظارهم تتجه أولاً إلى إيطاليا ثم هولندا، وفرنسا. ويتجاهل البعض الفن الألماني الذي بلغ شأواً عظيماً في القرن السادس عشر والفنانين الألمان الذين حظوا بشهرة مقبولة تاريخياً وعالمياً مثل لوكاس كراناش وهانز هولباين، ونتناول هنا رساماً لم يفه النقاد والإعلام حقه: بارتيل بروين.

ولد هذا الرسام سنة 1493م، وتوفي في كولونيا سنة 1555م، حيث عمل معظم سني حياته. تأثر إلى حد كبير بالأساتذة الهولنديين من معاصريه أمثال جوس فان كليف وجان غوسارت. ورسم الكثير من المواضيع الدينية لدور العبادة، غير أن تجديده الكبير وبراعته تجليا في الصور الشخصية.

السيدة الظاهرة في هذه الصورة وابنتها مجهولتا الهوية. ولكن يبدو أنها كانت سيدة ذات شأن، بدليل أن هناك لوحة أخرى تمثلها تحمل توقيع بارتيل بروين الابن، وهي محفوظة اليوم في متحف البيناكوتيك في ميونيخ.

أول ما يستوقفنا في هذه اللوحة هو الرسم الدقيق الذي يغوص في تفاصيل الزخارف ونوعيات المواد المختلفة كما كان الحال عند كبار الأساتذة الهولنديين. القماش الصوفي السميك، وقماش الدانتيل الأبيض الشفاف، الذهب في أشكاله العديدة، مصوغاً على شاكلة حلي، ومنسوجاً على شاكلة خيوط. الحلي وحدها يمكن أن تكون موضع بحث شامل لما كانت عليه الطرز الرائجة آنذاك، نظراً لوضوحها المدهش بأدق زخارفها.. اللؤلؤ الذي زيّن به ثوب المرأة، والمرجان في عنق الفتاة، والسفير والياقوت في أصابع السيدة.. إنها من اللوحات التي يمكن لوصفها أن يمتد لصفحات نظراً لكثرة ما تحتويه من عناصر وتفاصيل مدهشة في دقتها.

ولكن التطلع إلى ما هو أعمق من ذلك يكشف ما يتجاوز براعة «الصنعة»، ليصل إلى «نبل المزاج الفني» والمقدرة على بلورته. فإذا كانت المعالجة الفنية للملابس والمجوهرات مستمدة من المدرسة الهولندية، فإن رسم الوجوه يبدو أقرب إلى المدرسة الإيطالية في ذروة نهضتها.

فعلى وجه هذه السيدة يمكننا أن نقرأ، إضافة إلى ملامحها، مزاجها الشخصي، وهو مزاج غير حقيقي، بارد، تم اصطناعه أمام الرسام، لأنه هكذا يجب أن تبدو السيدة أمام المجتمع: مستقرة وقوية ولا تحدق بمن يتطلع إليها. وكل ذلك يشي بشيء من الشخصية المتسلطة.

والابنة هي ضحية هذا التسلط. ففي حين أن نظرتها تعكس حزناً، وإذعانا لسلطة الأم القوية، كما أن هندسة شعرها وأناقتها الفائقة تجعلانها أقرب إلى الدمية منها إلى فتاة حية في السابعة من عمرها، فإن فمها الصغير، بشفتيه المزمومتين، يوحي بتقليد الوالدة، والقبول بها مثلاً أعلى.. إنها الطفلة في سن تقليد الكبار.

هذا العمق النفسي على وجهي الأم وابنتها يشكل حالة غير شائعة عند معظم رسامي ذلك العصر في ألمانيا وهولندا. وحدهم كبار الأساتذة الإيطاليين من أمثال ليوناردو دافنشي ورافائيل قدموا لنا ما يشبه هذا الاهتمام بأعماق الشخصية، وقبل سنوات معدودة من رسم هذه اللوحة التي تعود إلى حوالي العام 1530م.

إلى ذلك، فإن وسيلة التعبير عن الأعماق النفسية عند بروين هي نفسها عند ليوناردو دافنشي: قولبة تقاسيم الوجه ورسمها من خلال الانتقال اللطيف جداً ما بين الضوء والظل. وما يؤكد اهتمام الفنان بالوصول إلى الأعماق النفسية لهاتين الشخصيتين هو اعتماده على هذه التقنية الدقيقة والمتعبة في رسم الوجهين فقط، أما الأيادي، والكثير من العناصر الأخرى، فقد بقي الانتصار فيها للخط على الأحجام. ولكن هذا الاختلاف الأسلوبي في اللوحة الواحدة، وإن كان غير مستحب بشكل عام يبقى أقل شأناً من أن يؤثر على مكانتها وجاذبيتها، كواحدة من أهم وأجمل اللوحات التي رسمت في ألمانيا خلال القرن السادس عشر.

 

عبود عطية 




جزء من اللوحة





بارتيل بروين: «سيدة وابنتها»، (5.57 × 64 سم)، زيت على خشب (نُقلت لاحقاً إلى القماش)، حوالي 1530م، متحف الإرميتاج، موسكو