من وحي المعارض

من وحي المعارض

شهد هذا العام معارض فنية مهمة جدًا، سواء في مدينة برشلونة أو في باريس. أذكر هاتين المدينتين الأوربيتين لكوني قد زرت الأولى ككل سنة، ولسكني ما بين بيروت وباريس.

المعارض التي تقام في إسبانيا، تقيمها المصارف الكبرى، إذ إن أكثر هذه المصارف تملك قصورًا تاريخية محوّلة إلى متاحف وبيوت ثقافة. لا تقتصر نشاطات هذه المصارف على الفنون التشكيلية فقط، بل تتعدّاها إلى غير لون من ألوان الثقافة. لكن الفن التشكيلي يأخذ حصة كبيرة من اهتماماتها الفنية والثقافية. الجدير بالذكر، أن الأميرة إحدى بنات الملك كارلوس، ملك إسبانيا، تعمل في إدارة أحد فروع مؤسسة فنية ثقافية في أحد البنوك في برشلونة، ومعروف أنها كزميلاتها الموظفات في هذه المؤسسة، تصل إلى عملها عند التاسعة صباحًا وتباشر نشاطها اليومي.

برشلونة، ذات شهرة عالمية في الهندسة المعمارية القديمة والحديثة والمعاصرة، وعندما تذكر برشلونة يذكر معها غودي، ذاك العبقري الذي شيّد قصورًا ومباني وكاتدرائية لا مثيل لها في تاريخ الفن الهندسي، في أحد هذه القصور وفي قلب المدينة، أقيم معرض للرسام الهولندي رامبرانت، مخصص للرسوم المحفورة، ويضم المعرض أكثر من مئتي محفورة. هذا الرسام، لم تقتصر عبقريته على الرسم الزيتي، بل إن رسمه بالحبر الصيني والحفر، يعد من أجمل ما حقق في هذا الفن الكبير.

من المواضيع المعروضة، رسمه الذاتي في كل مراحل عمره، وفي تعابير مختلفة، وقبعات مختلفة، وثياب مختلفة، كل هذا ليس الأهم، المهم هو تأليفه للرسم وطريقة تعبيره بالخطوط وخلقه للنور البازغ من الظل العميق الذي يوجده بتراكم الخطوط المتوازية، التي تخلق جوًا سحريًا لا يشبع الإنسان من النظر إليها، والدخول في أسرار هذه الخطوط. وينطبق هذا على أعماله الزيتية التي تطغى عليها الظلال التي تظهر نورًا مشعًا في أماكن مختلفة من اللوحة.

في مدينة برشلونة متاحف كثيرة، أذكر منذ الستينيات، عند زيارتي الأولى لهذه المدينة، كان افتتاح متحف بيكاسو، في قصر من العصور الوسطى، قدّمته المدينة لأعمال بيكاسو، الذي قدّمها قبل رحيله إلى المدينة، حيث درس الفن أولاً مع والده، الذي كان أستاذًا للفن، ثم في مدرسة الفنون الجميلة، وكان أصغر سنًا من بين أقرانه الطلبة. ويندهش زائر المتحف عندما يرى أعماله وهو طالب وقبل الدراسة، إذ إنها في تلك الفترة كانت تعبّر عن فنان غير اعتيادي.

زيد على المتحف - القصر قصران، وهذا بعد مضي سنوات، عندما أصبح متحف بيكاسو أكثر غنى وعددًا في الأعمال التخطيطية واللونية والفخاريات مع التماثيل. وأصبح هذا الحي يعرف باسم حي «بيكاسو»، وكثرت بجواره صالات العرض الخاصة، والمكاتب المقاهي والمطاعم. ولا يبعد كثيرًا عن المقهى الذي كان بيكاسو ورفاقه يلتقون فيه. وهم مجموعة من الشعراء والرسامين والموسيقيين ومحبي الفنون. ومازال اسمه «4cats». يأتي إليه الناس لزيارته والبقاء في جوّه.

هذا العام 2006 هو عام بيكاسو في العالم، خاصة في إسبانيا، وشاهدت معرضين له في هذه المناسبة، الأول في باريس عنوانه، «بيكاسو ودورا مار» وهي إحدى عشيقاته، فنانة مصوّرة فوتوغرافية كانت مشهورة في الأجواء الفنية في باريس.

وكان بيكاسو نجمًا في تلك الأجواء وفي ذلك الوقت. وكأنهما تقاربا من بعضهما البعض، ودامت العشرة بينهما عشرة أعوام، ثم افترقا. لكن هذه المرحلة كانت خصبة لبيكاسو إنتاجيًا وفنيًا، وهي مرحلة الحرب الأهلية الإسبانية، التي رسم فيها بيكاسو «غرنيكا» اللوحة الكبيرة، الموجودة الآن بمفردها مع الدّراسات المرافقة لها في متحف في مدريد خُصص لعرضها، وهو قريب من متحف «البرادو» المشهور، الذي أعدّه شخصيًا من أغنى متاحف العالم.

رسم تخطيطي

أما المعرض فيمثل بيكاسو وأعماله في الرسم التخطيطي والحبر الصيني والصور الفوتوغرافية من دورا - مار. فنشاهد في هذا المعرض لوحات عدة تظهر هي فيها، ولوحات ورسمات كثيرة موضوعها «المرأة الباكية»، التي كان يهيئ هذا الموضوع للوحته المشهورة «غرنيكا»، ثم عمله على الأشرطة الفوتوغرافية. ثم سلسلة لوحات فوتوغرافية ضخمة تمثل بيكاسو، وهو يرسم «غرنيكا» من مرحلة إلى مرحلة.

في هذا المعرض نرى تأثّر بيكاسو بالكلاسيكية ثم بالفنون الإفريقية، ثم بالتماثيل الإيطالية، وهو دائمًا ظاهر بشخصيته الفريدة، وبخطه وبلونه الخاص، وهذه هي ميزة هذا الفنان الأندلسي الذي أثر بدوره في كل القرن العشرين ثم رحل تاركًا ظله يهيمن على التاريخ الحديث والمعاصر.

أما المعرض الثاني المخصص لذكرى بيكاسو هذه السنة، فهو في متحف ميرو في برشلونة، وهو معرض مخصص للرسوم بالأسود والأبيض وبعض اللوحات فيها لطخات لونية إن في الأقلام الملونة أو الألوان المائية. وهي تمثله في كل مراحله، وأكاد أقول إن بيكاسو لم تكن عنده المراحل الفنية المشهورة بالمرحلة الزرقاء والوردية والتكعيبية وغيرها، بل هي مراحل نسائية، مثلا نستطيع أن نسمّي مرحلة جاكلين ومرحلة دورامار ومرحلة فرنسواز، إذ إن بيكاسو في أعماله كلها، كانت المرأة هي الموضوع، أو المنطلق إلى موضوع ما. فهو عاشق دائم ومدمن، يستغل الحب لفنه أو لإغناء فنه، فلا يستطيع الإنسان أن يذكر بيكاسو دون أن يذكر معه شيئين: الفن والمرأة.

فنانو المرأة

المعرض الكبير المقام في متحف «اللوفر» لإنغر منذ أشهر في باريس يعد من المعارض المهمة في هذه السنوات، لتأثيره في كثيرين من الفنانين المعاصرين ولكون إنغر «النيوكلاسيكي» يعتبر من المجددين في فن الرسم. ويكاد يكون أكثر الرسامين الذين رسموا المرأة، ورسومه التخطيطية، كانت ومازالت نموذجًا لجمال الخط المعبّر ببساطته عمّا أراد إنغر رسمه من مواضيع كلاسيكية أو مواضيع شرقية، أذكر منها لوحة «الحمام التركي» التي تعتبر من الثروات الفنية في متحف اللوفر.

نبقى في باريس، فمتحف «الفن الحديث» يعرض لمجموعة كبيرة من لوحات ورسوم ودفاتر الرسام بونار. المعرض الاستعادي ابتداء منذ أشهر، ومازال الناس يقفون في صفوف طويلة للدخول إلى صالات المتحف، والتمتّع برؤية لوحات بونار. هي متعة للعين وللعقل أن يقف الإنسان قرب عمل فني كبير. يشتهر بونار بألوانه وبمواضيعه. كأنه كان يدخل في أعماق اللون ليستخرج منه سرّه، يتطوّر عنده الأزرق ويتعدد ويصير في فرشاته، ثم على لوحته مجموعة من الزرقة، الأزرق «البارد» والأزرق «الساخن» تظهر بينهما ألوان تقترب من الاحمرار والمشتقات، هذا مثل صغير لا يستطيع الإنسان أن يعبّر عن اللون بالكتابة. لوحات بونار أو تأليفه يمثل الداخل والخارج معًا، أي أن لوحته تبدأ - مثلاً - في داخل غرفة لها نافذة أو باب يسرح النظر في النظرة نفسها إلى اللوحة من الداخل، حيث المرأة إلى الطبيعة الطالّة من نوافذ الغرفة، وكأن لوحاته هي عرس دائم للألوان.

معالم الفن الحديث

وفي باريس أيضًا، معرض سيزان وبيسارو، هذا المعرض المقام في متحف «Musee d'Orsay» يضم أعمال هذين الكبيرين اللذين قد أثّر فنهما في الكثير من الفنانين في العالم، خاصة سيزان الذي يعد معلّمًا للفن الحديث «art moderne». لكن بول سيزان أوجد في وقته حالة مبلبلة للنقاد، أكاد أقول لكل النقاد وكثيرين من الهاوين للفن. لوحته رفضت دائمًا في الصالونات الرسمية، وهو بدوره رفض المجتمع الباريسي البرجوازي، وارتاح دائمًا في الطبيعة، التي كانت هي مكان تنفّسه، والمكان الذي يعبّر فيه بكل حرية عن شعوره وإحساسه، وعن نظرته للون وللشكل اللذين بهما يعبّر عن كل إنسانيته.

سيزان رفض كشخص وكرسام من كثيرين، لكنه اعتبر أيضًا أهم رسّامي عصره. مثلاً «فان جوخ» طلب منه أن يعطي رأيه بأعماله - كذلك الكثيرون من الرسامين الذين رفضوا أعمال سيزان كانوا يعتبرونه ضعيفًا، وأن لوحته خالية من الرسم، وأنه يلوّن دون أن يرسم، وأن ألوانه هي «خربشة أطفال»، وأن لوحته تبقى ناقصة دائمًا وغير منتهية إلى آخره من نقد لاذع يطاله شخصيًا في كل الأوقات، بينما بول سيزان هو الباحث في الطبيعة عن نورها بإحساسه وذكاء بصره وإنسانيته العميقة.

أنا أعلم جيدًا أنه عندما نتكلم أو نكتب عن الفن، فإننا نضيع وندخل في الأدب والشعر. يلاحظ الناظر الجيد للأعمال الفنية لسيزان وبيسارو، أنهما رسما معًا المنظر ذاته. فبيسارو - مثلا - ترى في لوحته التأليف شبه الكلاسيكي، والألوان المتزنة المرهفة المثالية لتكون مثالاً للانطباعيين، وهو انطباعي مثالي. لكن ما ينقص لوحته تجده في لوحة سيزان، إذ ترى في عمله لونًا ونورًا خاصّين به، وهذا الشيء الذي لا اسم له، والذي يخيّم على لوحات سيزان، أكاد أقول «روح العمل الفني»، أو ما شابه، هو الذي يعطي للوحة سيزان ميزة ودروسًا جعلته معلمًا للجميع. بينما صديق طفولته الذي صار نجمًا في الأدب، ونجمًا اجتماعيًا باريسيًا، حيث يحيطه الكتّاب والشعراء والرسامون والسياسيون والنقاد في ذلك العصر، هذا الصديق الذي اختلطت أحلامه مع أحلام سيزان منذ الطفولة، حيث أتيا إلى باريس من ريف فرنسا معًا، حبًا في الرسم والشعر والأدب. اختلفا في رأيهما حول الفن، واعتبر الصديق سيزان «فنانًا فاشلاً». وصديق العمر هو الكاتب الروائي إميل زولا. لكن الأيام برهنت أن الجمهور الباريسي كان خاطئًا، وأن نور بول سيزان قد بقي كمنارة للفنانين الذين أتوا من بعده.

 

أمين الباشا 




دورا مار .. إحدى زوجات بيكاسو





بابلو بيكاسو في مرسمه





 





جبل سان فكتوار الذي رسمه سيزان طوال عمره





حوار الخطوط بين رمبرانت وأمين الباشا