- أعتقد أن السينما جاءت من رحم الفن التشكيلي
- الموت حاضر بقوة في أفلامي
- أعمالي السينمائية هي «مصهر» لكل الفنون البصرية
وُلد الفنان والمخرج السينمائي طارق هاشم في بغداد عام 1960. درس
الإخراج السينمائي والمسرحي في معهد الفنون الجميلة متخصصا في «التصوير، والمونتاج،
والإخراج المسرحي، والتمثيل». ونال دبلوما فنيا في الإخراج المسرحي من المعهد ذاته
عام 1981. وحينما تلقفته عجلة المنفى واصل دراسة تخصصه الأول «الإخراج المسرحي» في
المعهد العالي للفنون المسرحية والسينمائية في بلغاريا عام 1986. أنجز طارق هاشم
منذ تخرجه وحتى الآن نحو اثني عشر فيلما من الأفلام الروائية والتسجيلية، الطويلة
والقصيرة، نذكر منها «كاظم عبد»، «كربلاء»، «نشيد الإنشاد»، «أنيوتا»، «يوم القدر»،
«بين النمل والناس»، «زينب» هذا إضافة إلى فيلمه التسجيلي ذائع الصيت «16 ساعة في
بغداد»، وقد حاز هذا الفيلم جائزة «الصقر الذهبي» في مهرجان الفيلم العربي الرابع
في روتردام عام 2004. كما نال الفيلم ذاته جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان
بغداد السينمائي لعام 2005. وقد سبق لطارق هاشم أن شارك في العديد من المهرجانات
العالمية بوصفه مخرجا يمثل العراق حينا، وبلغاريا والدنمارك في أحايين أخر. أنجز
حتى الآن «26» فيلما تلفازيا قصيرا بمُدد تتراوح من خمس إلى سبع دقائق، عالج فيها
تجارب عدد من الفنانين العراقيين والأجانب في الدنمارك وبعض البلدان الأوربية. وفي
مجال تخصصه الثاني المسرح شارك في تمثيل وإخراج العديد من الأعمال المسرحية منذ عام
1978 وحتى الآن نذكر منها «قضية رقم 1000»، «الأنشودة»، «تألق سعيد محاد ومصرعه»،
«الحصار»، «ثورة الموتى»، «الأسلحة والأطفال»، «ذوبان الجليد»، «القبر.. وأفياء
المدينة» وعمله الأخير «الضاحك الباكي» الذي أثار زوبعة من الانتقادات الحادة بسبب
جرأته الفكرية، وقد قُدِّم في « جاليري مالمو» في شهر فبراير 2006. كما انتهى من
كتابة سيناريو لفيلم روائي طويل من المؤمل أن ينجزه في الأشهر المقبلة بعنوان (كم
بدت السماء قريبة) المأخوذ عن رواية تحمل العنوان ذاته بالاشتراك مع كاتبة النص،
الروائية العراقية بتول الخضيري. وفي أثناء وجوده في مهرجان روتردام الدولي. وقد
حاوره الصحفي العراقي عدنان حسين المتخصص في النقد الفني ويعيش في مدينة روتردام
بهولندا وقد نشرت «العربي» أكثر من مقال له.
- تزخر تجربتك السينمائية بعدد من الأفلام المثيرة للانتباه. وثمة عناصر
غائبة دائما، ويجب عليك أن تستحضرها، وتحفّز المتلقي على التفكير بها بقصد المشاركة
في صناعة العمل الفني. وذات مرة قلت لي إن أستاذك طلب منك إنجاز فكرة فيلم عن جريمة
قتل، ولكن ليس هناك أداة قتل أو جثة أو شاهد عيان! كيف جسّدت هذه الفكرة، وما
الصعوبات التي واجهتك؟
- أنا أتذكر جملة لدافنشي قال فيها ما معناه «إن الفن هو شيء ذهني»
وهذا يعني أن العمل الفني يبدأ من لحظة التأمل التي تقود الفنان لاحقا إلى عمل
إبداعي ما. عندما تكتب سيناريو أنت لا تكتب الكلام في البداية أو الحوار، وإنما
تكتب الفكرة أو الإطار العام للفكرة التي تجمع العمل ككل، بعد ذلك تبني العمل
والمفردة والجانب المعماري للعمل كتكوين أو كصورة، وأين تتحرك هذه الشخصية، وبأي
فضاء، وفي أي مكان، وبعد ذلك تبدأ بدراسة الشخصيات، والبحث في عالمها الداخلي،
وعلاقاتها الأخرى مع كل تفاصيل العمل الفني.
في بعض الأفلام هناك حكايات متوازية داخل العمل، فأسعى وبشكل قصدي ألا
أستعمل الحوار حتى يصعب العمل، وهذا الأمر يحرضني على الخيال وعلى خلق شيء ليس
جديدا، ولكن له علاقه بالجانب البصري. وهذا ما دفعني ربما في العمل الروائي الذي
أنجزته مع الكاتبة بتول الخضيري على الرغم من أنه روائي، وهناك شخصيات تتحرك، ولكن
الحوار جاء بتكثيف عالٍ، أي جاء الحوار في اللحظة المناسبة فقط، وما عداها فليس
هناك حوار. أنا أرى العمل السينمائي مثل القصيدة. والهدف من كتابة القصيدة هو تكثيف
الفكرة لأنها ليست مثل العمل الروائي أو القصصي الذي يتوافر على صور كثيرة تحاول أن
تقدمها في بضع جمل، وحتى هذه العملية فإنها تحتاج إلى خبرة. إن السعي للعمل
السينمائي بهذه الأسلوبية جعلني أقترب كثيرا من الفن التشكيلي.
أنا أعتقد شخصيا أن السينما جاءت من رحم الفن التشكيلي، وهذا
الاستنتاج ليس استنتاجي أنا، وإنما هو خلاصة لدراسات فنية عميقة. قبل أن أدرس
السينما، درست الفن التشكيلي أولا، وتعرفت إلى مراحل تطوره الفنية.
تحريض المخيّلة
- تميل إلى إنجاز أفلام قصيرة مُلغزة، فيها تحديات كبيرة للمخرج مثل فيلم
«كاظم عبد» هل لك أن تتوقف عند هذا النمط من الأفلام التي تحرض المخيلة، وتستفز
الذهن، وتجعل المتلقي مشاركا في صنع الحدث؟
- طبعا هذه تجربة خاصة واستثنائية، فعندما كنت طالبا كان يدرّسني
بروفيسور مشاكس، ومتمكن في فنه.
ذات مرّة طلب منا هذا الأستاذ أن ننجز فيلما وثائقيا عن شخصية مألوفة
نعرفها، ولكن يجب ألا نعّرفها! كأن نقول ماذا تعمل هذه الشخصية، وما هو مصيرها؟ وما
إلى ذلك، وعليك أن تقدمها من خلال الصورة، ومن خلال مفرداتك التي تستعملها بحيث
يستطيع المشاهد أن يتعرف على هذه الشخصية، وما هو أصلها، أو ماذا تعمل، وما هو
مصيرها؟ أنا أشتغلت على لاعب كرة قَدم عراقي اسمه «كاظم عبد» وحتى عنوان الفيلم
أعطيته اسم «كاظم عبد» ولكن هل يعرف المتلقي الأوربي منْ هو «كاظم عبد»؟، بالطبع،
كلا. وكان شرط الأستاذ الأساسي في هذا الفيلم هو انعدام الحوار، كتلك الحوارات
الموجودة في الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن شخصية ما نتعرف عليها من خلال سيرتها
الذاتية أو منجزاتها الفنية أو الفكرية أو العلمية. لقد اخترت «كاظم عبد» وهو لاعب
كرة قدم مشهور في العراق، غير أنه لاعب غير محظوظ بسبب الأوضاع السياسية في العراق،
لذلك قرر الهروب من العراق، وفي المنفى أصبح مربيا للخنازيز، بينما أصبح ملعب الكرة
القديم زريبة للخنازير، وهذه الزريبة هي ملعبه الجديد على الصعيد المجازي. وفي لحظة
من لحظــات إعــداد هذا الفيلم سألته عن المشكلات الشخصية التي تواجهه وما طبيعة
معاناته في تربية الخنازير، وللخنزير صفات ودلالات كثيرة يمكن توظيفها والإفادة
منها. فقال: إذا هرب الخنزير من الزريبة فلا يستطيع أحد أن يرجعه إلى هذا المكان.
وأضاف، أنا منشغل يوميا بسلوكيات هذا الخنزير، لأنني أخشى مثلا أن يعبر على مزرعة
الجيران، ويدمرها بالكامل.
اخترت هذه اللحظة، لأنني أردت أن أعيد يوما من أيامه من خلال إشارة
تحتاج إلى شيء من الانتباه. لقد ربطت بين معلق رياضي يعلق على مباراة لكرة القدم
وهو يستمع من خلال الراديو إلى التعليق الرياضي، بينما تتوزع صوره الرياضية الملصقة
على جدران غرفته، تلك الصور التي يعتز بها لأن هذه اللعبة الرياضية هي التي تهيمن
على حياته. لقد ربطت بين لاعب كرة قدم شاب، قوي، وحيوي، وبين هروب الخنزير، ولكن
بطريقة فنية مثيرة، فصوت المعلّق الرياضي في المذياع يرتبط مع هروب الخنزير من جهة،
وصوت المذياع يرتبط ثانية معه في مكانه الجديد وهو يحاول أن يعيد الخنزير الهارب
إلى الزريبة، كما يذكّره صوت المعلق الرياضي بجمهوره السابق، بينما يتألف جمهوره
الجديد من الحيوانات المؤلفة من ديكة، ودجاج، وخراف، وماعز، وكلاب. هذه المقارنة
وحدها لا تكفي، فلا بد من لعبة فنية تلفت الانتباه إلى سياق العمل الفني المركّب.
فعندما ينجح في إعادة الخنزير إلى الزريبة يصرخ المعلق الرياضي «كوووول» وكأنه حقق
هدفا جميلا لا يمكن للمشاهدين أن ينسوه. ومن خلال هذه المفارقة لا بد أن يعرف
المشاهد بأن الشخص الذي أتحدث عنه هو لاعب كرة قدم، وليس سائسا في الزريبة كما هو
حاله الآن. هذه المفارقة فيها مرارة، ولكن فيها نوع من التحدي الذي أريد من خلاله
أن أكشف شيئا غائبا قد لا يخطر على البال من خلال التركيز على شيء آخر بعيد تماما،
لكن شبكة الدلالات الداخلية هي التي توصلك إلى اللغز إن صح التعبير. هذا البناء
الدلالي المعقد هو الذي مرّنني منذ البداية على ألا أعتمد على السرد أوالتقريرية.
المدقق لهذا العمل سيكتشف أن هذه التفاصيل التي اعتمدت عليها في الفيلم موجودة في
الواقع، ولكن الجانب الفني يكمن في الصياغة، وطريقة عرض المشكلة بآلية بصرية مرهفة
تضع العمل كله في إطار الدراما السينمائية المتواشجة مع فن الصورة. فمادة فيلم
«كاظم عبد» مأخوذة من الواقع، وقد تحولت إلى واقع إبداعي مختلف، لكنها في الأصل
واقعية، وقد حولتها اللعبة الفنية إلى عمل فني شديد الجمال. العمل الآخر الذي طلبه
مني هذا البروفيسور أن أنجزه كان فيلما قصيرا عن عملية انتحار، ولكن من دون وجود
ممثل ينتحر، ومن دون حوار. وقد فرض عليّ من خلال هذه الشروط التي تبدو تعجيزية أن
أعرّف المشاهد بثلاثة أشياء أو ثلاثة معطيات. الأول: من هو المنتحر، وهل هو رجل أم
امرأة؟ وما طريقة الانتحار؟ وما سبب الانتحار؟ وقد أتاح لنا البروفيسور أن نعتمد
على عناصر الإنارة والضوء والمكان والديكور من دون حضور الممثل. وهنا تكمن الورطة
الصعبة. إن الوصول إلى نتائج محددة تأتي من خلال التفكير المتواصل، والتأمل الدقيق،
والمشاهدة التي لاتنقطع، والخبرة المتراكمة، وتحريك الذهن والمخيلة. وهذه الخبرة لا
تأتي بشكل عفوي، وإنما تحتاج إلى تراكم وإطلاع واسع على إنجازات فنية كثيرة سواء في
الفن التشكيلي، أو الموسيقى، أو الرقص، أو المسرح، أو العلوم الإنسانية بما فيها
الجانب النفسي والاجتماعي والسياسي وما إلى ذلك مقترنة بالتجربة الذاتية للفنان
نفسه. ومن دون هذه التجربة الذاتية لا يستطيع الإنسان أن يقدّم شيئا ذا بال. في
عالمنا الشرقي يطلبون منك أشياء غير مستحيلة، هم يريدون منك عملا سينمائيا فيه قصة
وحوار، بينما المثقف الشرقي أو الغربي يريد منك فيلما فيه هذا التحدي الذي أشرنا
إليه آنفا. في الشرق تستطيع أن تنجز المئات من الأفلام التي لا تنطوي على تعجيز
وتحدٍ كبيرين، بينما العالم الغربي، وأنا أعيش بين ظهرانيه، يطالبك بالأشياء
المستحيلة التي لا تنجز بين ليلة وضحاها. في الغرب هناك حوار يومي، وهناك جدل غير
عقيم، وهناك بحوث متواصلة هي التي تدفعك لخلق شيء جديد دائما أو لم يسبق التفكير
فيه. وفي أوربا يوجد شيء أساسي ومهم، نحن نفتقد أجزاء كثيرة في عالمنا العربي، وهي
الروافد الكثيرة الفنية والفكرية والتقنية للعمل الفني، ومن بين هذه الروافد:
المكتبات، ويمكنك أن تصل إلى كل ما تحتاج إليه من معلومات ومصادر أنجزتها البشرية
في هذه المكتبات، والتي أصبح الكثير منها إلكترونياً.
حضور الموت
- تحدثتُ أنا في مقال سابق من مقالاتي عن تقنية الصدمة في أفلامك، وقد
اتخذت من فيلم «يوم القدر» أنموذجا لهذه الصدمة. هل تستطيع أن تتوقف عند أبرز
الأفلام التي عالجتها، وكان فيها موضوع الموت حاضراً دائما بقوة؟ وهل هناك سبب
منطقي يفسّر الحضور القوي للموت في أفلامك؟
- حينما أراجع تجربتي السينمائية المتواضعة أكتشف أن معظم أعمالي التي
أنجزتها كان فيها الموت حاضرا أو ضيفا ثقيلا عليها. وحينما تأملت في الموضوع مليا،
توصلت إلى قناعة خاصة مفادها أنني منحدر من عائلة كان الموت ضيفها الدائم.
وشعرت في وقت من الأوقات بأن العائلة قد أوشكت على الانقراض. والغريب
أن الموت كان يأتي بطرق وحشية كالقتل العمد أو نتيجة لتداعيات اجتماعية لا شأن لنا
بحدوثها. المفارقة الأخرى اللافتة للانتباه وهي أنني كنت أنفذ عملا سينمائيا في
الشارع الذي أعيش فيه فاكتشفت أنني أسكن أمام مقبرة! وعندما اشتغلت العمل عن
المقبرة في فيلم آخر كان الموت حاضرا أيضا، وعندما دخلت إلى المقبرة اكتشفت التناقض
الذي تنطوي عليه، فثمة أناس يتحركون فوق التراب، وآخرون يرقدون تحته، علما أن
مصيرنا واحد في النهاية وهو الراحة الأبدية تحت التراب. أما موضوع الصدمة في فيلم
«يوم القدر» فأنا حقيقة كان عندي رغبة شديدة وهي ألا يكون العمل سهل الفهم، ربما
لأنني أريد فضاء غامضا أصرخ فيه، لأنني في أعماقي كنت أشعر بأن هذا الرجل هو ذكر
قاسٍ ارتكب حماقات كثيرة، لذلك كنت أريده أن يقتل بهذه الطريقة الصادمة. لقد اعتمدت
على هذا العنصر الأساسي الذي أسميته بتقنية الصدمة، وهذا توصيف نقدي دقيق، لأن
الصدمة لم تكن شيئا عشوائيا طارئا، وإنما جاءت نتيجة عن قصد مسبق له علاقة وطيدة
بعمق العمل الفني. هناك معادلة معروفة مفادها أن لكل فعل رد فعل، معاكساً له في
الاتجاه ومساوياً له في المقدار، فالقوة تولّد القوة، هذه مسلّمة لا يعترض عليها
أحد. كما اعتمدت على تقنية الصدمة اعتمدت لأن الفيلم قصير و يحتاج إلى هذه الضربة
الفنية، ولا يهم أين تأتي سواء في البداية أو في وسط العمل أو في نهايته.
حاولت أن أكون مُحايدا
- لديك تركيز كبير على تثوير المخيلة، وقد ينجح هذا التثوير في حالة
الفيلم الروائي أو التجريبي. ما حدود استعمال هذه المخيلة في فيلمك التسجيلي
المعنون «16 ساعة في بغداد». هل هناك مساحة للمخيلة أم أن النتوء الذي انطلقت منه
كان واقعيا بالتمام والكمال؟
- أنا لم أزر بغداد منذ 25 سنة، وخلال ربع قرن من الزمان تكوّنت غشاوة
على ذاكرتي، وحينما وصلت إلى بغداد أول مرة بعد غياب طويل أردت أن أتساءل: هل شخصية
هذا الكائن المغترب الذي اسمه طارق هاشم مألوفة في بغداد، وهل المدينة مألوفة هي
الأخرى بالنسبة له، أم أنه يجب أن يتعرف عليها من جديد؟ هذا هو السؤال الذهني الذي
كنت أحمله بين تلافيف ذاكرتي. هناك عالم تتهيأ له ذهنيا، ولكن عندي أسئلة كثيرة
أحملها له، بعضها أسئلة ذاتية، وأخرى موضوعية. وكنت أريد أجوبة عن هذه الأسئلة التي
تقلقني، من بينها: أين أنا من هذه المدينة الحميمة التي تركتها مُجبرا، ومُضطرا؟
ولماذا أريد الوصول إليها الآن؟ لقد صوّرت المدينة مثلما هي من دون تزويق، وقد حدثت
أشياء لم أكن أتوقعها داخل المدينة التي ذهبت إليها مندفعا، ومتلهفا، ومشتاقا،
وصورتها على حقيقتها، ومن دون أن أتفادى المفاجآت التي تحدث هنا وهناك. التصوير كان
نتيجة طبيعية لحركتي المتواصلة داخل المدينة التي أحبها. أنا لم أبق ساكنا في زاوية
واحدة، بل ذهبت إلى أمكنة عديدة، وكلها حميمة بالنسبة لي. فعندما أجريت لقاء صحفيا
سمعت صافرة إنذار تدلل على وجود مخاطر قادمة، وعندما ذهبت إلى الأعظمية حدث إطلاق
رصاص بشكل مفاجئ لم أتهيأ له، فصورت الهرج والمرج الذي أحاطني من كل جانب، وكانت
عيني الحاضرة هي الشاهد الوحيد الذي كان يوثق، وعين الكاميرا المحايد الذي لا
يُخطئ، ولا يمالئ أحدا. صحيح كانت بعض الأشياء تحدث بالمصادفة، ولكنني في الوقت
ذاته كنت أعد سيناريو الرحلة في مخيلتي. لقد أزعجني حقا أحد الصحفيين الذي كتب عن
الأفلام الوثائقية التي أنجزت بعد سقوط النظام أنها متشابهة أو مستنسخة عن بعضها
البعض، وأن كل من «هب ودب» أمسك بكاميرته الديجيتال وصور عودته إلى أهله في بغداد
بعد سنوات من الغربة. طيب، أنا ليس لديّ أهل في بغداد، وحينما عدت إلى العراق لم
أبحث عن الأهل، بل عدت لكي أبحث عن المدينة، وعن الأصدقاء، وعن الأمكنة الحميمة
التي أحبها، وعن الذكريات التي لم تتلاشَ حتى الآن. ياترى، هل ذهب جميع المخرجين
لتصوير الاشياء التي انشغلت بها أنا شخصيا؟ الجواب: كلا، طبعا.
أنا ضد أن تتشابه طريقة معالجة المخرجين العراقيين لموضوعات العودة
إلى العراق، وهناك مخرجون ذهبوا إلى العراق ولا يعرفون شيئا عن معالجتي للموضوع
الذي انشغلت به. لذلك أعتقد جازما أن كل مخرج قد عاد بشيء معين حتى وإن تشابهت بعض
الأفكار، لكنني حاولت من خلال تقديم العمل المسرحي هناك، أن أضع الحلول والخيط الذي
يربط كل هذه الوقائع والأحداث التي صارت في بغداد، وحاولت أن أكون إلى حد ما محايدا
من دون أن أعلق على المشاهد، ومن دون أن أضع للمشاهد وجهة معينة. ثمة مسألة تقنية
شديدة الأهمية.
الأماكن الملتهبة
- ولكن بعض اللقاءات كانت مع القاص شوقي كريم، والشاعر والناقد مالك
المطلبي.. هل كانت هذه اللقاءات كلها مصادفات، أم أنك أردت أن تلتقي الأصدقاء
الأحبة، والأمكنة الحميمة إلى نفسك مثل شارع المتنبي، سوق السراي، والمكتبات
المستقرة في عيون المثقفين العراقيين؟ هل ذهبت من دون وعي إلى هذه الأمكنة الثقافية
القريبة إلى نفسك، أم أن المصادفة هي التي أخذتك إلى هناك. وإذا كانت هناك مصادفات
فهل أمسكت بها، وطوّعتها للفيلم السينمائي التسجيلي؟
عندما زرت بغداد كانت مكانا ملتهبا، ولم يكن الوضع فيها مسترخيا،
ويختلف الأمر عندما تذهب للسياحة أو للراحة والاستجمام لكي ترى مدينة كبيرة واسعة،
وزاخرة بالتراث والحضارة والشواخص المدنية. إن الذهاب إلى مكان ملتهب قد يلغي في
ذهنك كل المشاريع التي خططت لها مسبقا. وهنا تلعب المصادفات دورا كبيرا، إذ قد
تنفجر إلى جوارك سيارة مفخخة، وقد يتراشق بعض الناس قربك بالرصاص، وقد تدهسك هامر
أمريكية. كل هذه المصادفات لا يعرف الإنسان كيف يرد عليها في الحال. فما حدث في
شارع المتنبي، واللقاءات المفاجئة بشخصيات عراقية مثقفة أعرفها منذ سنوات طوال،
أصابتني حقا بالقشعريرة، بل إنني الآن وأنا أتحدث معك يقشعر بدني من جديد لأنك
تعيدني إلى تلك المصادفات الجميلة. يبدو أنني من الشخصيات المحظوظة لأنني عندما عدت
إلى بغداد وجدت أن الناس يعرفونني هناك، وأن لدي تاريخًا طيبًا من العلاقات
الإنسانية المتجذرة بحيث بقيت هذه المعرفة طوال ربع قرن ولم تتلاش أو تموت! أنت
الآن تحدثني عن زميلة في الكلية، وهي التي التقيتها في أول الفيلم وبدأت تبكي، ثم
انتقلت إليَّ عدوى البكاء الأمر الذي زاد العمل وجدانية، وعمق حدّة المشاعر
الإنسانية التي يزخر بها الفيلم، بحيث أنت كمشاهد لم تنسَ هذا اللقاء الوجداني بيني
وبين زميلتي التي تركتها منذ ربع قرن. إذن هناك شيء مهم جدا بالنسبة للعائد إلى
العراق يمكن أن نصوغه بالسؤال الآتي: هل أن الشخصية التي عادت إلى وطنها الأصلي
غريبة أم لا؟ هل هي طارئة، أم معروفة ومألوفة ومتجذرة؟ من هذا الجانب أقول إنني كنت
محظوظا لأن العديد من الأصدقاء وخاصة المثقفين منهم يعرفونني، ويتذكرونني، وأنا
أراهن على هذه المعرفة التي يمكن أن تعكس لك بإنني قد خلّفت أثرا ما حتى وإن كان
بسيطا.
أعترف بأنني أخطأت
- مادمنا بصدد الحديث عن الحيادية في الفيلم التسجيلي.. أنت صورت فيلم
«16 ساعة في بغداد» برؤيتك الخاصة، أو أوحيت للمتلقي على الأقل، وخاطبت الجمهور
بشاعرية عالية متسائلا: ترجع بغداد مثل قبل؟ وأجبت: نعم، ترجع. ألا تلاحظ أن هناك
تهيئة للمتلقي أو إرشاده إلى طريق أو نافذة للأمل. ألا تعتقد أن هناك نوعا من
المصادرة لمخيلة المتلقي؟
أنا أقر بأنني ارتكبت خطأ، ولكن عزائي أنه لايوجد عمل مكتمل، والمبدع
الحقيقي يجب أن يعيد مشاهدة أي عمل من أعماله السابقة، ولا يهملها، بل يعيد النظر
فيها من أجل أن يقدّم الفنان دائما تجربة جديدة ومختلفة ومتطورة عن التجارب
السابقة. يجب أن أشاهد، وأراقب، وأصغي إلى الآخر من أجل أن تكون تجربتي شبه مكتملة
أو خالية من النواقص والعيوب. وهذه المتابعة المهمة والصادقة هي التي تساهم في
تطوير التجربة، وليس في تخريبها. أنا أومن بأن الفيلم الوثائقي يجب أن يخلو من أي
تعليق، سواء أكان هذا التعليق من مخرج أو مصور أو صحفي، لأن العمل سيتحول إلى شيء
أقرب إلى الريبورتاج، أي كأنك تريد أن تعلّم به الناس شيئا ما. وهذه ليست مهمة
الفيلم الوثائقي، بل هي مهمة الريبورتاج أو التحقيق الخاص الذي يقدّم في التلفاز.
أما العمل الوثائقي فهو يعني من اسمه أن يكون وثيقة ضمن أرشيف البشرية، ضمن أرشيف
المجتمع الذي يعيش فيه المخرج، ويجب أن يكون خاليا من أية تعبئة أو تغليف أو زخرفة
بحيث عندما يعوزنا شيء نذهب إلى «صندوق الذاكرة المرئية» كما اسميته، ونشاهد هذه
الوثيقة. من المؤكد أن هذه مهمة عسيرة، ولكنني سأسعى إلى تحقيقها في الأعمال
المقبلة.
التلاقح الكرنفالي
- في فيلم «16 ساعة في بغداد» زاوجتَ بين المسرح والسينما فقط، ولا نريد
أن نتحدث عن أجناس فنية أخرى. هل تفيد هذه المزاوجة في العمل السينمائي، وهل هذا
التلاقح مقصود، خصوصا أن لديك اهتماما بالفن التشكيلي الذي يحضر في بعض أعمالك
السينمائية آخذين بعين الاعتبار أن تجربتك الأخيرة قد تركزت على توثيق عدد من
التجارب التشكيلية لفنانين عراقيين وأجانب؟
- يبدو لي أن الشكل المعماري لمعهد الفنون الجميلة خلق عندي فضولا لأن
أتعرف على مجالات فنية أخرى، وهي مهمة جدا، خصوصا في الفن السينمائي، هذا المجال
الواسع الذي يستطيع أن يحتوي على أغلب المجالات الفنية، ويتفاعل معها بنجاح كبير.
فالشكل المعماري للمعهد يبدأ كالآتي: قسم الموسيقى، ثم المسرح، ثم التشكيل. وهذا
يعني عندما تخرج من المسرح لكي تمر على صديقك بالتشكيل، ثم نذهب معا إلى صديق مشترك
في قسم الموسيقى. وغير مرة كنت أنام في الإتيليه وعندما أشم رائحة اللون في المرسم
تخلق عندي فضولا لكي أرسم، فأقول في نفسي: لماذا لا أمسك الفرشاة وأرسم؟ وهكذا صرت
فنانا تشكيليا، ليس بمعنى الهواية، كلا، لقد أصبحت محترفا، وكنت أرسم ديكوراتي
بنفسي. وفي الموسيقى لم يكن اهتمامي عابرا، ففي قسم الموسيقى كانت هناك العديد من
البيانوهات وكنا نتمرن عليها كلما دخلنا إلى هذا القسم، حتى صارت الموسيقى جزءا من
اهتماماتي الرئيسية. فهذا هو السبب الحقيقي الذي جعلني أزاوج بين السينما والتشكيل
والموسيقى والغناء أيضا. في كل أعمالي أهتم بشكل عام بالمسرح والموسيقى والتشكيل
فكل هذه العناصر تدخل في العمل السينمائي وأسعى جاهدا لأن أحقق هذه الأشياء التي
تضيف للعمل الفني عناصر قوة وجاذبية.
- كيف انبثقت في ذهنك فكرة فيلمك الجديد المعنوّن «www.gelgamish.21»،
وما مراحل تطورها خصوصا أن هناك شخصيتين أحدهما وهو الفنان باسم الحجّار يعمل
ويصوّر في العراق، والثاني هو أنت تعمل وتصوّر في الدنمارك. هل لك أن تحيطنا علما
بثيمة الفيلم، وما الصعوبات التي واجهتكما، ومتى ستضع لمساتك الأخيرة على هذا
الفيلم؟
- أنا في الحقيقة من خلال تواصلي عبر الماسينجر مع أحد الفنانين
الشباب وهو باسم الحجار استطعت أن أقنعه بفكرة العمل. ذات مرة عبّر لي بمرارة بالغة
عن الوحدة التي بات يعانيها في بغداد، إذ تصوّر أنه هو الفنان الوحيد الذي سوف يبقى
في بغداد بعد أن غادرها الكثير من المثقفين والفنانين العراقيين، وأن البقية
الباقية منهم لديهم الرغبة الجامحة لأن يتركوا بغداد بسبب المعاناة الطويلة التي
ليس لها حد، وقد وصل الحال ببعضهم إلى الإحساس باليأس، والقرف، والخراب، أما هو
فعلى الرغم من المرارة يريد أن يبقى في هذه المدينة لكي يكون شاهدا على خرابها. لقد
تركت هذه الكلمة في نفسي نوعا من الأسى والحزن ودفعني هذا التوصيف الحاد لمشاعره
الداخلية إلى أن أقترح عليه أن ننجز شيئا ما أنا وهو. طبعا من الصعب القول إنني
أريد أن أتعاطف معه، بل دعني أقل أريد أن أتضامن معه لانه في مكان صعب، ومعقد،
ومأساوي. فلكي أتواصل معه، وأخلق شيئا مشتركا بيني وبينه، كأن يكون حلما مشتركا
مثلا. فكلانا عنده أحلام يسعى إلى تحقيقها في مجال الفن سواء في بغداد أو في
كوبنهاجن. كما طلبت منه أن نتحدث عن علاقتنا مع المكان، فهو يتحدث عن مدينة الموت
«بغداد» وهي فعلا مدينة موت الآن، أو أصبحت خطيرة جدا على الإنسان الذي لا يدري متى
يلقى مصيره المحتوم.
وأنا أتحدث عن كوبنهاجن، مدينة الوحشة والبرد والضباب. كانت تصوِّر
هذه الحوارات كاميرتان، واحدة موجودة إلى جانب باسم الحجار في بغداد، والثانية
موجودة إلى جانبي في كوبنهاجن. وقد وزعت الأدوار كالآتي: أنا أسندت لنفسي دور
جلجامش الذي يسعى إلى التأبد وامتلاك الحياة، ويصل إلى أقاصي الدنيا بحثا عن نبتة
الخلود، أما دور أنكيدو فقد أسندته إلى باسم الحجار، وأغلب حواراته تدور حول الموت
خصوصا وأنه يعيش في مدينة الموت الآن. وذات مرة قلت لباسم أن يتلبس شخصية أنكيدو
ويسمي نفسه أنكيدو الحجار مثلا، ويبدأ في التجوال في شوارع بغداد وأسواقها وهي تئن
تحت دوّي الطائرات وهديرها المرعب. لقد أردت منه أن يقدّم المدينة من داخلها على
الرغم من قساوة الحياة اليومية هناك. جلجامش أو طارق هاشم في كوبنهاجن الذي تبتلعه
العتمة والأنفاق والبرد والوحشة المحيطة به من الجهات الأربع. واقترحت أن يكون
الحوار بيننا متوازيا، بالإضافة إلى خط متوازٍ آخر بين مدينتين حاضرتين في الوقت
نفسه، وهما بغداد وكوبنهاجن. وأردت أن تكون هذه الحوارات ذات طابع وجداني، تتناول
الحياة اليومية بكل إشكالاتها العويصة، وتتطرق إلى أحلامنا الضائعة أو المبتورة
التي نحاول أن نحققها في هذا العمل. طبعا أنهيت هذا الفيلم بموت أنكيدو. لقد
تمرَّنا على تأدية دور جلجامش وأنكيدو كثيرا عبر الماسينجر، وأحيانا كنت أعطيه
ملاحظات قد تبدو غريبة لأهله وذويه الذين يرونه وهو يخلع ملابسه، ويتعرّى تنفيذا
لأوامر تأتيه في عز الليل من مخرج يعيش في الطرف الآخر من العالم، كنا كأننا نتمرن
على عمل مسرحي قادم سنقدمه ذات يوم في كوبنهاجن، أو في بغداد. وقد وظفت عنصر المسرح
في السينما، والذي لا يمكن أن أهمله في موضوع ينطوي على القدر الكبير من التصعيد
الدرامي، كما أننا، نحن الاثنين، متورطان بحب المسرح، ونعشق الأداء الملحمي، لكن
هذا الأداء المسرحي لن يطغى على حساب السينما.