مراجعات خلدونية: النثر العقلي.. تراث لم ينصفه التراث!

مراجعات خلدونية: النثر العقلي.. تراث لم ينصفه التراث!

حملت إلينا «العربي» فيما حملت - عددها 571 بتاريخ يونيو 2006م - الملاحظات اللافتة ضمن «منتدى الحوار» التي كتبها الأستاذ الكاتب عثمان الحاج حسّون (حلب - سورية) وتناول فيها ملف ابن خلدون في ذكراه المئوية السادسة التي سبقت بها «العربي» غيرها فنشرته في عددها رقم 561 الصادر في أغسطس 2005م والذي أعددته بتكليف من الأخ د.سليمان العسكري رئيس تحريرها بمشاركة زميلين كريمين في البحث هما د. تركي علي الربيعو، من سورية، ود. كمال عبداللطيف من المغرب.

غلبت على الملاحظات المخلصة للأخ الأستاذ حسون المغالاة في الحساسية الدينية تجاه قضايا الفكر، والتي أعتقد أن الإسلام، لقوة مبادئه وأفكاره، لا يحتاج إليها، فهو ليس إناء من زجاج هش نخاف عليه من الكسر، وقد تفاعلت مدارسه وحضارته منذ البدء مع مختلف أفكار الإغريق والفرس والهنود بلا خوف ولا وجل. ونتهيأ في ظله اليوم لدخول عصر العولمة بكل ما فيها من مستجدات لم تعتدها أي ديانة، وكان ابن خلدون - وهو الفقيه المسلم بالإضافة إلى كونه مفكرًا مبدعًا في علم الاجتماع وفلسفة التاريخ - يتعامل قبل قرون مع مادته المعرفية في «المقدمة» تعامل المؤمن الواثق من عقيدته بلا تحرج، فيشير مثلاً في تعريف «علم الطب» إلى أن «الأطباء يحاذون قوة الطبيعة فإنها المدبرة في حالتي الصحة والمرض»، واثقًا أن القارئ سيدرك أن الله سبحانه هو المحرك لتلك القوة الطبيعية لكنه لا يتحرج لعدم ذكر ذلك لأنها من المسلمات في ثقافة المؤمن الواثق من إيمانه.

وبشأن الطب الشعبي المتوارث والمنسوب بعضه للإرث النبوي الكريم ينبه: «أنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات» - المقدمة، ص309، نشر دار ومكتبة الهلال بيروت.

وفي هذه الإشارة ما فيها من تمييز بين شئون الآخرة المغيبة، وشئون الدنيا التي قال عنها النبي الكريم: «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، ولا تختص بعلم الطب وحده، بل تشمل «العاديات»، حسب تعبير ابن خلدون في النص الذي أوردناه، ويقصد مختلف ما اعتاده البشر في دنياهم.

وفيما يتعلق بما ذهبتُ إليه بأن مقدمة ابن خلدون لم تصبح جزءًا من تكوين العرب الثقافي، لم يكن القصد التغافل عن الأثر القرآني العميق الذي أسس للحضارة الإسلامية الجامعة وللثقافات القومية للمسلمين - من عربية وفارسية وتركية... إلخ - وإنما انحصر رأيي الذي ربما لم أوضحه تفصيلاً في النقطتين التاليتين، وذلك سؤال في محله:

1 - إن مقدمة ابن خلدون - وهي أثر مكتوب باللغة العربية ويتعلق بثقافة العرب أصلاً دون غيرهم من أقوام - جاءت في نهاية المشهد التاريخي الحضاري العربي، فمن الطبيعي ألا تدخل في تكوينهم الثقافي.

2 - إن الإحياء النهضوي العربي في مطلع العصر الحديث - وهذا هو همي الأول - كان إحياء شعريًا أدبيًا لتجاوز انحطاط الشعر العربي بالدرجة الأولى والعودة به إلى صفائه الكلاسيكي في العصر العباسي، لذلك، لم يتأسس على النثر العقلي العربي نظير «المقدمة» وسواها من نصوص فكرية لمفكري الإسلام من الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل وابن حزم... إلخ. ومازالت لغتنا العربية تعاني هذا الاختلال حيث تسودها ثقافة الشعر باعتباره «ديوان العرب» - بكل الرومانسيات المثالية - بينما النثر هو لغة العصر ولابد من إعادة تأسيسها عليه أو أقلها الموازنة بين عاطفة الشعر وعقلانية النثر إذا أريد لها أن تساير العصر وتتجاوز التحديات والمحاذير التي أصبحت تحيط بوجودها وبقائها، في الصميم، والحديث في ذلك يطول... وإذا أردنا الاختصار فلابد أن نقول إنه من أخطر المخاطر التعامل مع واقع العالم شعرًا، لأنه بمنزلة انتحار.

ومنذ 1933 كان توفيق الحكيم، وهو ممن عانوا كتابة الرواية والمسرحية والمقالة وأسهموا في تبسيط الأسلوب العربي وتحديثه يتساءل: «إني لأدهش كيف أن مؤلفين مثل ابن خلدون والطبري وابن رشد والغزالي لم يعرضوا علينا قط في دراساتنا للأدب العربي بالمدارس؟!... كيف نعرف لغة دون أن نطالع فلاسفتها ومؤرخيها؟...» - كتابه «زهرة العمر»، المطبعة النموذجية، القاهرة، ص174 - 184.

التجربة التاريخية

وفيما يتعلق بالتساؤل الثاني للأستاذ حسون بشأن «مصدر» نظريات ابن خلدون، وإشارته أنها من القرآن الكريم والسنة النبوية، فهي إشارة صحيحة إجمالاً لكنها غير وافية تفصيلاً، وبالتفسير الموضوعي العلمي، فالمادة القرآنية والنبوية كانت متاحة عبر القرون لكل مفكري الإسلام وفلاسفته وعلمائه، فلماذا اختص ابن خلدون بهذه الأفكار دون غيره؟ لابد أن عبقريته الفردية هي التي ساعدته على استقائها سواء من كتاب الله أو من كتاب الكون الكبير الذي جعله الله متاحًا لكل ذي عقل وبصيرة، خاصة، وأن إبن خلدون ركز في استخلاص قوانين فلسفته على تجربة العرب التاريخية بعد الإسلام خلال القرون الثمانية التي تلت نزوله. أي أنه استقاها مما يمكن تسميته «الإسلام التاريخي» - أي تجربة المسلمين كبشر في التاريخ - وذلك بعد أن اهتدى بالمبادئ العامة الواردة في القرآن الكريم الذي هو أساس «الإسلام الإلهي» - أي الوحي - كالحث على النظر في السنن والاعتبار بها. غير أن هذا في حد ذاته ما كان سيميّزه عن غيره من مفكري الإسلام الذين أتيح لهم من قبله هذا المصدر التوجيهي تمامًا كما أتيح له هو، من بعد. إن «الانعطاف» الذي أحدثه ابن خلدون في فكرنا الاجتماعي في «المقدمة» أنه اتجه إلى العيني والمعاين في واقع العرب الاجتماعي والتاريخي ولم يكتب «مدينة فاضلة» أخرى كما فعل الفارابي من قبله.

وفي الباب الذي كتبته بعنوان «خلدونية... لاماركسية» في كتاب «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، نشر المؤسسة العربية، 1992، ص85 - 136 أشرت إلى حاجتنا إلى فكر اجتماعي تاريخي يستلهم: «السنن الكونية والتاريخية التي حدثنا عنها القرآن الكريم في العديد من آياته الحكيمة» - ص101، وكان ذلك في سياق شرح الفكر الخلدوني، وهي إشارة كتبتها في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم، وأجدني متفقًا في ذلك مع أخي الأستاذ حسّون، فأرجو ألا تخالجه أي خشية إيمانية، وكما ذكرت في بداية الإيضاح، فالإسلام ليس زجاجًا هشًا يخشى عليه من الكسر، والمهم ألا نتعامل معه من هذا المنطلق حفاظا على صلابته الفكرية وصلابتنا الإيمانية كمسلمين.

ولابد من التنبّه إلى أن عطاء ابن خلدون - كما ألمحت - كان في حقل الفلسفة الاجتماعية وفلسفة التاريخ، وإذا كانت «عقلانية» الإسلام، التي سرتني إشارة الأخ الفاضل إليها، قد دفعت العقاد وغيره إلى كتابات فكرية، فإن ذلك يدخل في أبواب أخرى، ولا صلة للخلدونية بها، ولا يمكن اعتبارها خلدونية جديدة إلا بالمجاز الواسع، فهي نظرة اجتماعية مازالت لها أسسها، لكن تطور علم الاجتماع وفلسفة التاريخ قد تجاوزها عالميًا، وإن بقي أثرها في صيرورة المجتمعات العربية، التي لم تتجاوز مكوناتها التاريخية بعد، كعصبيات الطوائف والقبائل... إلخ... وهذه «راهنية» ابن خلدون ومعاصرته فيما يتعلق بنا كمجتمعات عربية، بالإضافة إلى أبعاد «عقلية» أخرى سوف تتم الإشارة إليها.

وفيما يتعلق بالفكر المستقبلي الذي يلحقه الأخ الفاضل بالغيب، فلاداعي لوضع غمامة على عقولنا وإفهامنا بهذا الشأن. إن عالم الغيب هو من أمر الله، وهذا لا خلاف عليه، وهو من الأمور المغيبة عن علم الإنسان، أما عالم الشهادة، فيمكن أن نبني على قوانينه مما نراه من سنن الله. وإذا كانت سنن الله - بنص القرآن - لن نجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، فهي باقية إلى أبد الآبدين، أي على امتداد المستقبل، فلماذا هذا التخوف، الذي لا مبرر له، من الفكر المستقبلي الذي نستقيه من طبيعة سنن الله في خلقه، التي لن تتبدل ولن تتحول؟! فإذا أكّد القرآن الكريم، زمن الوحي، بأن الترف مهلك للعمران والأمم، أليس ذلك صحيحًا في الحاضر والمستقبل أيضًا؟

نظرات علمية

أما بخصوص إشارتي إلى «المقدمة» بأنها كتاب لمحو «أميتنا التاريخية والحضارية»، فكان عليّ أن أوضّح بأنها تتعلق بأمية العرب المعاصرين بحقيقة وطبيعة تاريخهم. ولا تشمل العرب جميعًا، بطبيعة الحال. فالعرب المعاصرون بحكم حالتهم الراهنة تسيطر عليهم النظرة الرومانسية المثالية لتاريخهم الذي لا يتضمن حسب تصورهم غير «الأمجاد»، كرد فعل للمناخ النفسي السائد عربيًا اليوم في ظل أوضاع التراجع. ومرد هذه الأوضاع طبيعة التحوّلات التاريخية، التي تحتاج إلى نظرات علمية هادئة لا تتيحها طبيعة الأحداث المدلهمة التي تدفع الكثيرين دفعًا إلى الانفعال، وما هو أكثر منه. ولا أعتقد أن أي مشروع عربي إسلامي للمواجهة سيحقق الهدف، إذا بقي تحت هذه الوطأة الانفعالية النفسية - وهي حال مفهومة - ولم يستطع تجاوزها إلى رؤية أكثر توازنًا.

بينما تاريخ جميع الأمم بلا استثناء يشمل الإيجاب والسلب، فتلك أمم سلفت: «لها ما كسبت وعليها مااكتسبت». وأعتقد بإخلاص إن ابن خلدون قد امتلك في «المقدمة» من البصيرة الواقعية الصائبة في نظرته للتاريخ ما يتميز به عن أكثر مفكري ومؤرخي العرب المعاصرين في أيامنا، الذين ينبغي أن يتعلموا منه إن أرادوا الاقتراب من حقيقة تاريخهم الذي لا تختلف قوانين حركته عن حركة العالم في عصرنا. هكذا فمن خلال العودة إلى ابن خلدون، يتم لقاء التاريخ بالعصر، لأن القوانين المحركة لهما من نسيج واحد، هي سنن الله في خلقه وفي كونه. و«لقاء التاريخ بالعصر» هو العنوان الذي وجدته الأكثر تعبيرًا عن فكر ابن خلدون الذي أفردت له كتابًا جديدًا.

أما بشأن الملاحظة الأخيرة في تعقيب الأستاذ عثمان الحاج حسّون، والمتعلقة باعتراضه على استخدام الألفاظ الأجنبية في لغتنا العربية، فنود أن نسأله ما قوله في الألفاظ الأعجمية الواردة في القرآن الكريم، أي في صميم النص القرآني، فقد ورد في محكم التنزيل من مادة «برق» الفارسية المعربة كما يذكر لسان العرب: «أباريق»، و«إستبرق» أي الديباج الغليظ، لذا فإن تعريب اللفظ الأجنبي (الأعجمي) مسألة مقبولة في العربية، إذا تمت حسب تقنين لغوي توافقي منضبط. ولعل فوضى الاقتباسات في البلاد العربية هي ما تقلق الأخ الكريم.

وختامًا، فلابد أن نشكر الأخ المعقّب على تعقيبه، فله الفضل في دفعنا إلى مزيد من هذا التفكير... والله الموفق إلى سواء السبيل.

 

محمد جابر الأنصاري