من المكتبة الأجنبية: الشرق الأوسط المعاصر

من المكتبة الأجنبية: الشرق الأوسط المعاصر

عرض: أحمد حسن*

يبدو جليًا أن القيمة الجغرافية والتاريخية لمنطقة الشرق الأوسط قد أنجبت تفاعلات سياسية كبيرة خلال الألفيتين الماضيتين، حيث عرفت البشرية طيلة هذه القرون تغييرات جيوسياسية وسكانية جمة، أعادت تشكيل المنطقة وفقا لموازين القوى العالمية. في الطبعة الثانية من كتابه «الشرق الأوسط المعاصر» (422 صفحة - ويست فيو - 2010م) يقدم محرر الكتاب كارل يامبرت آراء نخبة من الأكاديميين والمؤرخين والمحللين السياسيين، الذين اختلفت رؤاهم، واتفق مسعاهم نحو الإجابة عن سؤال مهم: ما هو مستقبل الصراع في الشرق الأوسط المعاصر الذي يمثل العرب كيانه الأكبر؟

كان الهدف وراء إصدار الطبعة الأولى (2005) هو أن يجمع الكتاب بين دفتيه آراء المراقبين الموثوق بهم ـ في مجالات التأريخ على الأخص ـ ليقدموا وجهات نظرهم ضمن قضايا ثنائية مثل «إيران والعراق»، أو «حماس وحزب الله»، ولكن الهدف الأهم هو بحث جذور الصراع الذي لا يزال مشتعلا على حدود الدولة الاستيطانية المحتلة التي تم زرعها في قلب الأمة العربية؛ إسرائيل.

لكن تدافع الأحداث خلال السنوات الخمس الفاصلة بين الطبعتين دفع الناشر والمحرر إلى أن تكون الطبعة الجديدة متضمنة لقراءات جديدة (الثلثان لم ينشرا من قبل)، وكذلك مراجعة ما بقي من طبعة الكتاب الأولى، من قبل مؤلفيها الأصليين، فضلا إضافة خطاب للرئيس الأمريكي باراك أوباما وآخر لرئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو، والأهم هما فصلان أضيفا بقلمي خبيري المنطقة الدكتور آرثر جولدشميت (الذي قدم للطبعة الجديدة) وشبلي تلهامي، وقد بحث هذان الفصلان في العلاقة بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة في إطارها الحالي. فضلا عن إضافة يوميات مدونة تجدد ما حدث خلال العامين الأخيرين قبل صدور الكتاب.

بستان العرب

في مقدمته يحكي جولدشميت عن متعة نجدها في زهور البستان التي جمعها محرر الكتاب كارل يامبرت وهي الزهور التي تكشف عن اللغة الأدبية لكتابها ، مما يجعلها بمنزلة «أنطولوجيا» في موضوعها. وكلمة Anthology مشتقة من اليونانية القديمة وتعني باقة الأزهار، وهو ما يجد صداه ـ حسب جولد شميت ـ لدى الأدباء العرب الذين يستخدمون على الأغلب كلمات مثل «حديقة» و«بستان» كعناوين لمجموعاتهم الشعرية، أو مقالاتهم النقدية.

والحديث عن الشعر يقودنا مباشرة لقراءة الفصل الأول المخصص لـ«شعوب وثقافات الشرق الأوسط» وفيه جهد مبذول من كولبرت سي. هيلد (الذي قضى 30 سنة بالشرق الأوسط مسئولا في الوكالة الأمريكية للتنمية، وأحدث مؤلفاته في طبعته الخامسة تناول الموضوع ذاته) وزميله جون توماس كامينجز (الذي عمل كذلك في البنك الدولي ودرس الاقتصاد في جامعة الحكمة ببغداد وتكساس).

سنجد أن هيلد وكامينجز ينفيان اقتصار «الشرق الأوسط» على العرب والمسلمين وحسب، بل يعدانه جُمَّاعًا هائلاً من المجموعات متعددة العرقيات والثقافات، زاد من تباينها ما تزرعه اللغات والأديان من اختلافات، فهناك من الإثنيات العرقية العرب والأقباط والمارونيون والدروز والعلويون والآشوريون والترك والفرس والكرد واليهود والأرمن، وذلك عدا تخصيصهما جل البحث للحديث عن اللغات العربية والتركية والفارسية والكردية والآذرية (نسبة لأذربيجان) والعبرية وهو ما شرحه الخريطة الأولى من بين 12 خريطة أخرى تضمنتها فصول الكتاب.

وتبدو الصبغة الأكاديمية التي تحمل وجهة نظر أمريكية أكثر وضوحا في الفصل الثاني الذي كتبه ديفيد إي. لانج مؤلف «شرح الإرهاب» بعد تقاعده من وزارة الخارجية الأمريكية، وبرنارد ريتش أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن ومارك جاسيروفسكي أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية لويزيانا وله مؤلفات عديدة منها: السياسة الخارجية للولايات المتحدة وشاه إيران، ومحمد مصدق وانقلاب 1953 في إيران.

ولا يغفل كتاب هذا الفصل الإشارة إلى أهمية المنطقة التي تقع في قلب ثلاث قارات، أوربا وآسيا وإفريقيا، بما يعدها جسرا للعبور ومفترق طرق للمرور. وإذا كانت هذه البقعة ممرا تاريخيا للتجارة والحج، فإنها اليوم نقط تماس حرجة بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب. وألمح المؤلفون الثلاثة إلى أن اكتشاف النفط قد نقل منطقة الخليج إلى طفرات اقتصادية بفضل ما تملك المنطقة من طاقة تعتمد عليها الاقتصادات الصناعية الكبرى، وهو ما زاد في أرقام الموازين التجارية المتبادلة بين المنطقة وخارجها، لكي «تبقى الدول المصنِّعة والصناعية تعتمد دائمًا على مصادر الطاقة في منطقة الشرق الأوسط على المستقبل المنظور، ولا تبين الأزمات الأحدث المرتبطة بالإسلام المتطرف والإرهاب ـ على حد قولهم ـ أي إشارة لحلول نهائية».

بذور الشقاء

يتحدث آرثر جولد شميت أستاذ التاريخ الشرفي بجامعة ولاية بنسلفانيا ولورانس ديفيدسون أستاذ التاريخ في جامعة ويستر في الفصل الثالث عن جذور شقاء العرب!

يشير الكاتبان، بداية، إلى القومية العربية، التي يعتقد معتنقوها بضرورة التوحد ضد، ومقاومة أي حكم غير عربي، تبدو تيارا مؤثرا في الشرق الأوسط. فحتى الحرب العالمية الأولى كان كثير من العرب تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، وهو ما كان ينقضه عرب كثيرون رأوا ألا يحكمهم الترك، رغم أن الإسلام كان دين حكامهم. وهو ما كان يفضي إلى مشكلة أولية في هوية أبناء المنطقة، وعما إذا كانوا يرون أنفسهم عربا في المقام الأول، أو أن الأولوية لكونهم مسلمين.

وكانت تجربة العرب مع الغرب أقل من طموحاتهم، فقد تعاملوا مع القوى الغربية من أجل نيل الاستقلال عن العثمانيين، ولكن ما حدث هو أن تلك القوى تقاسمت أنصبتها في الشرق العربي. ويقول جولدشميت وديفيدسون إن كثيرا من العرب (أعتقد أن كلهم) يعتقدون أن تأسيس إسرائيل في فلسطين سنة 1948 يعد جرمًا لصيقا بتلك القوى الغربية، وهو الجرم الذي دفع الفلسطينيين إلى الشتات بلا منازل وممتلكات ووطن. وقد خصص الكاتبان باقي الفصل للحديث عن التقسيمات التي وزعتها القوى الغربية كغنائم حرب، وفقا لاتفاقات فيما بينها. وهي ما أدت إلى «تمزيق الحلم العربي» على حد قولهما، ودشن عمرًا من الشقاء يمتد لنحو قرن مضى.

وعد بلفور المشئوم

ليس متوقعا أن تكون الأسماء التي اختارها المحرر للكتابة عن فصوله كلها من الغرب، فمصداقية مثل هذا الكتاب تكمن في اعتماده كل الأصوات، وقد كان من الممكن استفتاء الأصوات العربية، هذا هو الانطباع الأول. وهو ما رصدناه في مشاركة سميح ك. فارصون ونصير هـ. العروري بحديث عن الهوية الفلسطينية، لكن العنوان الفرعي للكتاب يقول «قراءة غربية»، لذلك يخصص الحديث عن «الفلسطينيين» في الفصل الرابع لباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنا في بيركلي، وهو جلين إي. روبنسون، مؤلف كتاب: بناء الدولة الفلسطينية: الثورة غير الكاملة (1997م).

وبالطبع سيبدأ جلين إي. روبنسون بذكر وعد بلفور المشئوم، وكيف شعر العرب بالخديعة بعد أن سمحت بريطانيا ـ بعد انتصارها على العثمانيين والسيطرة على فلسطين ـ بإقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي، رغم كل أشكال المقاومة التي أبداها الفلسطينيون ومنها الإضرابات العامة التي استمر أحدها عام 1936 ستة اشهر، وثورة ريفية لمدة عامين، وهو ما نال من عزيمة الفلسطينيين أنفسهم بسبب البطالة والديون والفقر، رغم دعم التجار والموظفين للانتفاضة، وتشكيل النخبة للجنة العربية العليا التي قدمت مطالب العرب للإدارة البريطانية، دونما نتيجة.

ويحكي جلين إي. روبنسون كيف أن 85% من السكان العرب تم تهجيرهم تاركين مدنهم وديارهم وقراهم ومزارعهم أثناء الحرب ما بين عامي 1947 و1949مما جعل منهم لاجئين دائمين منذ قرار دولة الاحتلال في 16 يونيو 1948م بعدم السماح لهم بالعودة أبدًا، ويزيد من بؤس الشعب الفلسطيني الشتات الفلسطيني منذ حرب 1967م التي أدت إلى اغتصاب مزيد من الأراضي الفلسطينية لتضاعف إسرائيل من حجم ما يخصها في القدس وما حولها ثلاث مرات، وتعلن أراضيها ملكا لدولتها من أجل إقامة مستوطنات لليهود.

ويقف روبنسون عند فشل اتفاقيات أوسلو والحروب الأخيرة ما بين 2006 و2009، وصولا إلى حكم حماس في غزة، وهو يرى أن المستقبل غير مبشر للفلسطينيين الذين لا يملكون قدرهم ولا يتحكمون بمصيرهم. فمصيرهم في قطاع غزة والضفة الغربية معلق بنوايا ورغبة وإرادة سواهم. وصوتهم غير موحد (حتى 2010م)، من أجل تقرير المصير.

صعود حماس

الفصول التالية مخصصة للعلاقات الإسرائيلية - العربية (روبرت أو. فريدمان)، وبناء دولة الاحتلال (كالفين جولد شيردر)، والعلاقات الفلسطينية مع عدوهم في مرحلة ما بعد اتفاقات أوسلو (ويليام إل. كليفلاند ومارتين بونتون)، و(بارري روبن)، الذي تحدث عن ياسر عرفات مثلما تحدثت إديث زيرتال وآكيفا إلدار عن شارون، وتحدث مارك ماتيوز عن حماس والسلطة الفلسطينية.

ويرصد هذا الأخير (وهو صحفي في بالتيمور صن) صعود حماس منذ فوزها في انتخابات 2006م، على منظمة فتح، وهو ما مثل صدمة للجميع ـ حسب تعبير مارك ماتيوز ـ أولا للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الذي حرص على إقامة الانتخابات كعلامة على تكريس الديمقراطية في الشرق الأوسطـ وثانيا للرئيس الفلسطيني محمود عباس، وثالثا للإسرائيليين أنفسهم، الذين أرادوا ألا تشترك حماس في تلك الانتخابات، وهي الانتخابات التي صدمت العرب لاحقا بعد الانقسام الداخلي للفلسطينيين أنفسهم.

ويرصد ماتيوز عدة مفارقات مؤسية، فالبنك العربي الذي دعم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية طويلا، وكانت تلك ضد حماس، كان قد موَّل الكثير من المشروعات التنموية التي خلقت فرصا للعمل، في قطاع غزة والضفة الغربية، وهو ربما ما أدى إلى تقليص نزعات العنف، ولكن قطع التمويل من البنك العربي ومصادر عديدة، دفع الفلسطينيين إلى مأساة جديدة وأزمات متكررة ونقص في الطعام ومياه الشرب والأدوية، ومع تنامي الفقر واليأس، انخرطت غزة برمتها في العنف مرة أخرى، وهكذا أدت محاولات عزل حماس إلى تصويب النار إلى صدور المواطنين الفلسطينيين.

في قسم كبير من كتاب «الشرق الأوسط المعاصر» سيتطرق المؤلفون إلى العراق. حديث بيبي مار، عضو هيئة تحرير دورية ميدل إيست جورنال، عن العراق الحديث؛ أرضه وناسه، وكيف نشأت مملكة العراق كمحمية بريطانية في 1920م، والذي استقل في العام 1932 كأول محمية بريطانية عربية تنال استقلالها. ويعزو مار الصراعات العراقية الداخلية والخارجية إلى قضايا الحدود الجغرافية من جهة، والمجموعات العرقية، والأقليات من جهة أخرى. كما أن العلاقات العراقية مع الجيران كانت دائمًا سببا في نشوء الكثير من المآسي، ولكن التأثير الذي امتد أثره إلى العراق كان اندلاع الثورة الإيرانية، وهي الثورة التي عادت الولايات المتحدة وحلفاءها بأكثر من وجه، وخاصة أثناء أزمة رهائن الولايات المتحدة في إيران، وفشل عملية الصحراء رقم واحد في تحريرهم (1980م) وهو الفشل الذي أطاح بإدارة جيمي كارتر، وجاء بالرئيس رونالد ريجان، الذي أعلن بعد دقائق من انتخابه رئيسا تحرير الرهائن الأمريكيين بعد 444 يوما من الأزمة (20 يناير 1981م).

وكانت الحرب الإيرانية - العراقية (1980 ـ 1988م) وهي الحرب التي بدأت بغزو عراقي أمر به صدام حسين للأراضي الإيرانية وانتهت بقرار وقف إطلاق النار من الأمم المتحدة في أغسطس 1988م.

وحول أهمية إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية يرى الكاتب أن هذا التحول أفرز على المدى الطويل قيام هيئات ومنظمات إقليمية في العالم العربي، بعد ما أصبحت الجامعة العربية غير قادرة على إدارة كل الشئون العربية، وخاصة بعد الانقسام العربي عقب اتفاقية كامب ديفيد.

وأشير هنا إلى فصل كتبه، شبلي تلهامي، أستاذ السلام والتنمية في جامعة ماريلاند، ومؤلف العديد من الدراسات المهمة عن الشرق الأوسط، ويتحدث عن الدور الفارسي في منطقة الخليج. وهو يؤرخ للاهتمام الأمريكي بالمنطقة منذ ستينيات القرن الماضي، أثناء وجود القطبين الإقليميين، إيران والعراق، وهي سياسة جعلتها ترسل مساعدات عسكرية لكلا الطرفين خلال الحرب العراقية -ـ الإيرانية 1980 ـ 1988م. وقد تحدث جيمس دي فرونزو (أستاذ شرف علم الاجتماع بجامعة كوننكتيكت وهو مختص بالثورات في مؤلفات) عن تأثير الحرب العراقية على العراقيين وبلادهم وعلاقاتهم بجيرانهم، وكيف تنامت الأحداث حتى انتهت إلى الغزو الأمريكي في 2003م.

دورك قادم

أختتم هذا العرض بالإشارة إلى واحد من أهم فصول الكتاب بعنوان «أنت التالي»، أو «دورك قادم»، وهو بحث لفارناز فصيحي (نائبة رئيس مكتب الشرق الأوسط وأفريقيا في وول ستريت جورنال) فالصحفية الأمريكية الإيرانية نشأت في بغداد بحي سني - شيعي، وهي تحذر من أن الضربة التي يوجهها فريق للآخر ترتد عليه، وهو سر الصراع في العراق كما تقول، لكنه كما أعتقد سبب أي صراع ينشأ لمجرد السعي إلى فرض وجهة نظر أحادية بالقوة.

هذا الكتاب، ومثله كثير في المكتبة الغربية، يحتاج منا إلى مراجعات، خاصة وأن صفحاته تقدم كمرجعيات تؤسس لوجهات نظر الدارسين للمنطقة، وصناع القرار في الولايات المتحدة، وكذلك للمواطنين الذين يشكلون أحيانا قوى ضاغطة. وكذلك نحتاج إلى أن تتابع مشروعات الترجمة العربية إصدار وجهات نظر عربية تتبنى القضايا الخلافية وتضعها بلغات غير عربية في مقابل تلك الإصدارات، خاصة أن الخريطة المستقبلية للذهنية الغربية قد اختلفت تماما بعد ثورات الربيع العربي.
----------------------------------
* كاتب من مصر.

 

المحرر: كارل يامبرت