فيلسوف في إهاب شاعر

فيلسوف في إهاب شاعر

بعد مضي 75 عامًا على وفاة جبران خليل جبران، ثمة حاجة لقراءة تراثه الفكري من جديد لمعرفة ما بقي منه حيًا، وما موقعه في الفكر الإنساني استنادًا إلى الآية القرآنية:
... فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض... .

استطاع جبران بحدسه الروحي أن يتنبه إلى إمكان إثارة هذا السؤال في أزمنة تعقب وفاته عندما قال في خاتمة كتابه «دمعة وابتسامة» الصادر عام 1914: «جئت لأقول كلمة وسأقولها، وإذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد، فالغد لا يترك سرًا مكنونًا في كتاب اللانهاية، والذي أقوله الآن بلسان واحد يقوله الآتي بألسنة متعددة». صدق جبران في هذا الحدس، إذ ترجمت كتبه وخصوصًا «النبي» إلى معظم لغات العالم، ويقرؤها اليوم ملايين البشر بألسنتهم المتعددة. لكن صديقه ميخائيل نعيمة كان يعتقد أنه لو سئل جبران قبيل وفاته عمّا إذا قال تلك الكلمة فأجاب: «لفظت منها مقاطع، أما الكلمة الكاملة فما قلتها بعد»، وتلك هي محنة الحكماء والعباقرة في كل زمان ومكان. لم يضمّن جبران كلمته في أي من مؤلفاته الستة عشر (ثمانية بالعربية ومثلها بالإنجليزية)، بل نثرها فيما نظمه من الشعر وكتبه من النثر ورسمه من الخطوط والألوان.

كانت تسيطر عليه، كما يقول نعيمة «طبيعتان متفوقتان: طبيعة الفنان الوجداني المرهف الحس والشعور، وطبيعة المرشد والمصلح والواعظ». إلا أن دراسة شخصية جبران وفكره تقتضي إضافة طبيعة ثالثة إلى هاتين الطبيعتين، وهي طبيعته الثورية المتمردة على كل القيم والعادات والتقاليد التي تقيد حرية البشر وتمتهن كرامتهم، خصوصا مفاسد الإقطاع الديني والسياسي والعائلي الذي كان من سمات المجتمعات العربية زمن جبران والذي دفع بكثير من اللبنانيين للهجرة إلى بلاد بعيدة عبر البحار، بمن فيهم جبران وبعض أفراد أسرته الذين اختاروا أحد الأحياء الفقيرة في مدينة بوسطن الأمريكية مقرًا جديدًا لهم.

لغة الأرواح

اتحدت هذه الطباع الثلاثة في شخصية جبران لتجعل منه «شاعرًا ملهمًا» «يتكلم بلغة الأرواح» كون الشاعر «حلقة الوصل بين هذا العالم والعالم الآتي»، كما يقول في كتابه «دمعة وابتسامة» لذلك عندما نشر قصيدته المشهورة «المواكب» عام 1919، مزيّنة بطائفة من رسومه البديعة ضمنها خواطر فلسفية في أهم شئون الحياة البشرية كالخير والشر والدين والعدل والموت والحرية والحب وغيرها من الموضوعات التي كانت تعج بها أفكاره. وتمثل هذه القصيدة حوارًا بين شخصين، افترضهما خيال جبران، يمثل الأول الحياة المادية بمظاهرها القبيحة القائمة على الشرور والمفاسد، والصراع الدائم بين الخير والشر، بينما يمثل الشخص الثاني الحياة الروحية ومباهجها في الطبيعة، ممجدًا الحياة في الغاب، حيث لا خير ولا شر ولا موت ولا فناء، بل انسجام مع الطبيعة، منبع السعادة الأبدية التي لا يتطرق إليها الفساد أو أي نوع من أنواع الشرور.

كان هذا الحوار في الحقيقة صدى لنزاع عنيف في أعماق نفس جبران بين إيمانه بفطرة الإنسان الإلهية الطاهرة وبين ما كان يعيشه ويراه في واقع الحياة البشرية من قسوة وبشاعة وخساسة وتوحّش.

تبدأ القصيدة بأبيات يتحدث فيها الشخص الأول عن الخير والشر معتبرًا أن البشر لا يصنعون الخير إلا إذا أجبروا عليه لأن الشر متأصل في أعماقهم وإن أكثر الناس كالآلات لا إرادة لهم، بل تحركهم الأيام كما تشاء ثم لا تلبث أن تنكسر وتندثر:

الخير في الناس مصنوع إذا أجبروا والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا
وأكثر الناس آلات تحركها أصابع الدهر يومًا ثم تنكسرُ


بالنسبة للشخص الثاني، ليس في الغابات قطعان ولا رعاة، ولا أقوياء يستبدون بالضعفاء من الناس، بل غناء يرعى العقول وشجن ناي أبدي النغم:

ليس في الغابات راع لا ولا فيها القطيع
فالشتا يمشي ولكن لا يجاريه الربيع
خلق الناس عبيدًا للذي يأبى الخضوع


أولى الحقائق

أما الحب الصحيح فهو أولى الحقائق الإنسانية، ومنبع السعادة والمعرفة والحقيقة، والعاطفة المقدسة التي أودعها الله قلب الإنسان ليتطهر بها من كل رجس، والمحب الحقيقي كالراهب المتبتل الذي يخلع عن نفسه رداء الشهوة فتتكشف له أعماق الوجود بجمالها وبهائها.

ويختم جبران قصيدته بالحديث عن الموت، الذي هو نهاية كل الأحياء، لكنه بالنسبة للأثيري بداية لحياة جديدة تملؤها الغبطة لأنه يحرر الروح من قبضة الجسد. أما الغابات فلا موت فيها ولا قبور، بل حياة مع الطبيعة البريئة ومع الحرية بأجلى معانيها، حيث لا ماضي يؤرق صفاء الفكر، ولا مستقبل يعكر صفو الحياة:

هل فرشت العشب ليلاً وتلحفت الفضا
زاهدًا في ما سيأتي ناسيًا ما قد مضى
أعطني الناي وغنّ وانس داءً ودواء
إنما الناس سطور كتبت لكن بماء


ويمثل البيت الأخير انعطافًا حادًا عن الفكر الجبراني الذي يعتبر الإنسان جذوة إلهية لاتنطفئ، وينتهي به طوافه البعيد في شئون الحياة إلى حال من التشاؤم واليأس والاستسلام تمثلها الأبيات الأخيرة من قصيدته بعد أن عرفناه ثائرًا ومتمردًا في كتاب «الأرواح المتمردة»:

العيش في الغاب والأيام لو نُظمت في قبضتي لغدت في الغاب تنتثر
لكن هو الدهر في نفسي له أرب فكلما رمت غابًا قام يعتذر
وللتقادير سبل لا تغيرها والناس في عجزهم عن قصدهم قصروا


الواقع أننا في هذه القصيدة لا نقرأ جبران وحده، بل نقرأ معه أفكار طاغور وابن الفارض والمعري، ووليم بليك وولت ويتمان وايمرسون الذين يعتبرون جمال الطبيعة تجسيدًا مرئيًا للجمال الإلهي وللحضور الإلهي في الوجود، وهو تيار فلسفي منتشر بين معظم المتصوفين. وجبران في قرارة نفسه لم يكن سوى واحد من هؤلاء، وكتابه «النبي» الذي تقوم عليه شهرته العالمية ليس سوى صدى لهذه الفلسفة، ومنه هذا القول: «إن شئتم أن تعرفوا ربكم فلا تعنوا بحل الأحاجي والألغاز، بل تأملوا ما حولكم تجدوه لاعبًا مع أولادكم، وارفعوا أنظاركم إلى الفضاء الوسيع تبصروه يمشي في السحاب ويبسط ذراعيه في البرق، وينزل إلى الأرض مع المطر».

ثمة ملاحظة أخرى على هذه القداسة التي يضفيها جبران على السكن في الغاب والتي تنبع في حقيقتها من تمرده على مدنية الغرب المادية التي عاش في كنفها وشاهد مفاتنها ومآسيها، والتي جعلت من الإنسان آلة صمّاء تجذبها رتابة العيش الهنيء، فتعطل عقله وعواطفه عن العمل. ويظهر جبران حزنه على الخراب الذي أحدثته المدنية الحديثة في الطبيعة فيتساءل: «لماذا يهدم الإنسان ما تبنيه الطبيعة؟ ولماذا لا يستعيد الإنسان مجد براءته الأولى وفطرته الخلاقة ليتحرر من القيود المأساوية التي وضعته فيها هذه المدنية؟ يقول في كتابه «النبي»: «أود لو كانت الأودية شوارع لكم ومسالك التلال الخضراء أزقة تطرقها أقدامكم عوضًا عن أزقتكم وشوارعكم القذرة. لذلك ضعوا نصب أعينكم أن الأرض تبتهج بملامسة أرجلكم العارية، والرياح تتوق إلى ملاعبة شعوركم المسترسلة...».

إرادة القوة

وإلى جانب هذا التيار الذي يمجد الطبيعة، نجد في القصيدة تيارًا آخر يشبه ما يدعوه نيتشه «إرادة القوة»، الذي ينظر إلى الحياة على أنها الوجود الحقيقي ولا وجود بعدها، وأن الوجود من قوى الحياة، والحياة إرادة تسيّرها القوة، وغاية القيم الإنسانية ليست تحقيق أهداف سهلة كالسعادة واللذة والمنفعة، وإنما خلق الإنسان الأعلى (السوبرمان)، وإن أول خطوة لوضع هذه القيم موضع التنفيذ هي تحرير الإنسان من قيود كل القيم الأخلاقية والدينية والفلسفية والاجتماعية التي صاغها الأقدمون واجترها اللاحقون اجترارًا.

تأثر جبران تأثرًا واضحًا بفلسفة فردريك نيتشه سيد المتمردين في الفكر الحديث على كل القيم والمعتقدات التي يدين بها البشر. وعندما قرأ جبران نيتشه «هكذا تكلم زرادشت»، اعتبره من أعظم الكتب في كل العصور، حتى أن ميخائيل نعيمة اعتبر قصيدة المواكب «نتيجة لتلك الحالة القلقة التي أحسها جبران ما بين قوتين تتجاذبانه: قوة إيمان بحكمة الحياة وعدلها، وقوة النقمة التي أثارها فيه نيتشه من جديد على ضعف الناس وخنوعهم وتواكلهم، وكل ما في حياتهم الباطنية والخارجية من قذارة وبشاعة». أما تلك المسحة التشاؤمية، التي سادت في نهاية القصيدة فمردها إلى الصدمات المادية والعاطفية والجسدية، التي تعرض لها جبران عندما كان يشاهد المجاعات والأوبئة والحروب التي تفتك بأرواح الناس سواء في لبنان موطنه الأصلي أو في أمريكا والغرب، وخصوصًا أثناء الحرب العالمية الأولى التي دمرت الأمل في نفوس الناس بالسلام والأخوّة والإنسانية.

ولجبران قصائد أخرى سكب فيها بعضًا من تفكيره الفلسفي أشهرها قصيدة بعنوان: «يا نفس»، ضمّنها اعتقاده بالتقمص الذي يعتبره قانونًا من قوانين الخلق. ولجبران قصيدة أخرى عنوانها «البلاد المحجوبة» يتحدث فيها عن بلاد حجبت منذ الأزل ويبغي الوصول إليها دون أن يدري أي سبيل يسلك لأنها موطن الذين عبدوا الحق وصلّوا للجمال، لا هي في الشرق ولا هي في الغرب، ولا في الجنوب ولا في الشمال، ولا في الجو أو الأرض ولا تحت مياه البحر، بل هي في الأرواح أنوار تختلج في الصدور والأفئدة.

الأرض... وطني

كان جبران في جل كتبه يتكلم كأنه واعظ روحي باسم الديانات كلها، وعواطف البشر كلها وآمال الناس كلها مدافعًا عن كل المظلومين والضعفاء في العالم كله. نقرأ ذلك في فصل من كتاب «دمعة وابتسامة» عنوانه «صوت الشاعر»: «البشر ينقسمون إلى طوائف وعشائر وينتمون إلى بلاد وأصقاع، وأنا أرى ذاتي غريبًا في بلد واحد، وخارجًا عن أمة واحدة. فالأرض كلها وطني، والعائلة البشرية عشيرتي.. والأرض ضيقة، ومن الجهل أن تتجزأ إلى ممالك وإمارات». «فالإنسانية المقدسة روح الألوهية على الأرض». وفي مكان آخر تبدو طهارته الإنسانية حين يقول: «أنت أخي وأنا أحبك»، أحبك ساجدًا في جامعك وراكعًا في هيكلك، أو مصليًا في كنيستك. فأنت وأنا أبناء دين واحد هو الروح، وزعماء فروع هذا الدين أصابع ملتصقة في يد الألوهية المشيرة إلى كمال النفس» «أحبك لأني رأيتك ضعيفًا أمام الأقوياء، وفقيرًا محتاجًا أمام صروح الأغنياء الطامعين. لذلك بكيت من أجلك، ومن وراء دموعي رأيتك بين ذراعي العدل وهو يبتسم لك ويستهزئ بمضطهديك... أنت أخي وأنا أحبك».

هذه هي عولمة الثقافة كما تصورها جبران منذ حوالي تسعين عامًا بحسها الإنساني العميق الذي يسمو فوق أي اعتبار للجنس أو اللون أو الدين في عالم يعاني مجاعة روحية قاتلة جعلت من الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان. وهذه الأفكار إلى جانب الأفكار التي عرضناها في قصيدة «المواكب» عيّنة لما بقي حيًا من تراث جبران الفكري الذي يستحق منّا قراءات متجددة بتجدد الأجيال والأزمنة.

يقولون: صوت المستذَلِّين خافتٌ وسمع طغاة الأرض أطرش أصَمُّ
وفي صيْحة الشعب المسخَّر زعزعٌ تَخِرُّ لها شمُّ العروشِ، وتُهْـدَمُ
ولَعْلَعـةُ الحق الغضوبِ لها صدى ودمدمةُ الحربِ الضروسِ لها فَمُ
إذ التفّ حول الحقّ قومٌ فإنَّـه يصرِّمُ أحداثَ الزَّمان ويُـبْرمُ


 

محمد كامل ضاهر 




ماري هاسكال في مقدمة الصورة صديقة جبران ومستشارته ومدققة لغته الإنجليزية