توفيق الباشا (1924 - 2005) الأوركسترا.. تأليفًا وقيادة

توفيق الباشا (1924 - 2005) الأوركسترا.. تأليفًا وقيادة

فقد الوطن العربي في الشهر الأخير من العام المنصرم علمًا من رواده الحضاريين، في أحد أكثر الميادين الفنية حساسية ورقيا، ميدان الموسيقى، هو الموسيقار وقائد الأوركسترا توفيق الباشا الذي رحل عن واحد وثمانين عامًا.

بعد سنوات قليلة من ظهور الكيانات العربية بأشكالها الحديثة، بعد زلزال انهيار وتفكك الإمبراطورية العثمانية، أي في العقد الرابع من القرن العشرين (الثلاثينيات)، يبدو أن تراكم وتفاعل المكونات الموسيقية والغنائية الموروثة والمستحدثة في بلدان المشرق العربي، كانت قد وصلت إلى حالة من التخمر التاريخي الذي يشكل إرهاصات ولادات فنية جديدة، تخرج بالطبيعة من رحم التراكم والتفاعل التاريخي.

والحقيقة أن بوسع القارئ الذي يود التعرف إلى تفاصيل هذا التحول التاريخي الكبير في تطور الحياة الثقافية والفنية في بلدان المشرق العربي، أن يعود إلى الدراسات المفصلة في هذا الموضوع، ومنها (على سبيل المثال) بحث مطول في الموسوعة الفلسطينية (القسم الثاني/ المجلد الرابع/ الصفحة 713، تحت عنوان «الموسيقى والغناء في فلسطين» تأليف الياس سحّاب، وكتاب بعنوان «وديع الصافي»، لفكتور سحّاب.

لكن خلاصة هذه الظاهرة تقول إن التراكم والتفاعل الممتدين قرونًا طويلة، واللذين بدآ يتركزان بين القرنين التاسع عشر والعشرين، قد أنضجا الوعي الموسيقي والغنائي المتطور في بلدان المشرق العربي، على ثلاثة خطوط:

1 - خط الموروث عن الأجيال القديمة، المتمثل غالبًا في الإنشاد الديني (الإسلامي والمسيحي الشرقي)، إضافة إلى ما تبقى من هذا الموروث على شكل موشحات وسواها من الأشكال الأخرى.

2 - خط الغناء الريفي والبدوي، المتمركز في البوادي العربية، وفي قرى الريف، وضواحي المدن.

3 - خط الفن المحترف كما أنضجته النهضة الموسيقية والغنائية في مصر، في مرحلة النهضة الأولى في القرن التاسع عشر، ثم مرحلة النهضة الثانية في القرن العشرين، على يد سيد درويش ومن تلاه من عباقرة الموسيقى، كمحمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي. وعندما وصل هذا التراكم التاريخي والتفاعل والتداخل بين مختلف هذه الخطوط إلى ذروته، كان لابد من ظهور نهضة موسيقية - غنائية جديدة، في بلدان المشرق العربي، تكون من جهة أولى امتدادًا للإنجازات النهضوية الحديثة التي تمت في مصر، وتكون من جهة ثانية تعبيرًا عن الخصوصيات الموسيقية - الغنائية لبلدان المشرق العربي، ضمن الإطار العام الجامع للموسيقى العربية.

إرهاصات أولى

تشير الوقائع التاريخية إلى أن الإرهاصات الأولى للنهضة الموسيقية والغنائية المشرقية الحديثة، قد بدأ ظهورها ما بين عقدي الثلاثينيات والأربعينيات في فلسطين، عبر إذاعتي القدس والشرق الأدنى، وأن كون فلسطين مركزًا لهذه الإرهاصات الأولى، لم يمنع أن يكون المشاركون والمبدعون من فناني سورية والعراق ولبنان، وحتى مصر، إضافة إلى فناني فلسطين طبعًا. ولقد كان الفنان الشاب يومها توفيق الباشا بين هؤلاء الرواد الأوائل، عندما انتقل بعد العام 1948 للإشراف الموسيقي على فرقة إذاعة رام الله، التي كانت امتدادًا لإذاعة القدس، لكنها انتقلت إلى رام الله بعد قيام دولة إسرائيل، ثم انتقلت بعد ذلك بسنوات إلى عمّان، لتكون أساس الإذاعة الأردنية.

ومن الثابت أن توفيق الباشا، عندما اتجه إلى إذاعة رام الله، كان مكتمل التكوين الفني انطلاقًا من الخطوط الفنية الثلاثية الرئيسية آنفة الذكر، إضافة إلى بداية علاقة ثقافية وعلمية جادة بأصول وعلوم وفنون الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، في الجامعة الأمريكية ببيروت، استكمالاً لأثر الموسيقى الأوربية الذي تحول إلى أحد مكونات الفكر الموسيقي للفنانين المحترفين في مصر منذ إنشاء دار الأوبرا في أيام الخديو إسماعيل (1869)، وبعد انتشار اتصال الموسيقيين العرب بروائع الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، بعد انتشار الأسطوانة والفونوغراف، في البلاد العربية.

بعد ذلك، قدر لتوفيق الباشا، أن يدعى لقيادة الأوركسترا في فرقة باليه إيرانية، كانت تقوم بجولات فنية في جميع بلدان العالم، مما أكسب الباشا خبرة عملية وفنية واسعة، زادته تعمقًا في فنون وعلوم الموسيقى الكلاسيكية الأوربية.

هذا هو الزاد الفعلي والعلمي الكبير والواسع والشامل الذي تكونت الشخصية الفنية لتوفيق الباشا في أرضه الخصبة، وتصلبت وتوسعت آفاق خبرته العملية، عندما قدم إلى نقطة البداية في انطلاقته الكبرى، في مكتب إذاعة الشرق الأدنى في بيروت، ثم دار الإذاعة اللبنانية الحديثة، ثم مهرجانات بعلبك وفرقة الأنوار.

وتجدر الإشارة قبل استكمال رحلة توفيق الباشا الإبداعية، إلى أثر البيئة العائلية في تكوينه الفني، فقد كان خاله، خليل مكنية، فنانًا متعدد المواهب، في الموسيقى (عازف كمان) وفي الفنون التشكيلية، وكان له أثر بالغ في تكوين الشخصية الفنية لنجلي شقيقته، فأخذ عنه توفيق الباشا فن الموسيقى، وأمين الباشا فن الرسم. كما أن خليل مكنية كان واسطة العقد المهمة بين ابن شقيقته توفيق، وصديقه الموسيقار الكبير زكي ناصيف، الذي كان أول أستاذ لتوفيق الباشا على آلة الفيونسيل (تشيلو)، والذي ستفتح رفقتهما الفنية بعد ذلك، أوسع الآفاق الموسيقية أمامهما، كما سنرى.

ثورة الأوركسترا

يصح القول إن أبرز الفوارق بين جماليات النهضة الموسيقية العربية في القرن التاسع عشر، ونهضة القرن العشرين، هو دخول الأوركسترا في القرن العشرين بديلاً للتخت الموسيقي. ولم يكن هذا التطور مجرد تبدل شكلي في حجم الفرقة الموسيقية، بل كان تبدلاً عميقًا في جوهر التأليف الموسيقي والتلحين بين النهضتين الأولى والثانية.

تأسيسًا على هذه القاعدة، يمكن القول، وقد دخلنا الآن رحاب القرن الحادي والعشرين، أن الفنان اللبناني البيروتي توفيق الباشا، كان من أبرز رجال الأوركسترا العربية المتطورة في القرن العشرين، تأليفًا وقيادة، ليس فقط في لبنان والمشرق العربي، بل على مدى الوطن العربي من محيطه إلى خليجه.

وفي وقائع التطور التاريخي لرجل الأوركسترا المصاحبة لفرقة البالية الإيرانية التي عمل معها بعد ذلك، التحق بمكتب الإنتاج الموسيقي والغنائي لإذاعة الشرق الأدنى في بيروت، وهو البؤرة الموسيقية الهائلة النشاط التي أدارها باقتدار المخرج الفلسطيني صبري الشريف، سنوات ست، حتى إقفالها في ظروف العدوان البريطاني على مصر، إبان أزمة حرب السويس.

في هذه البؤرة، أكمل صبري الشريف، مشروعه النهضوي، الذي كان قد بدأه في إذاعة الشرق الأدنى بيافا، مع الفنانين المصريين مدحت عاصم وعبدالحليم نويرة، فأطلق مبادرته التاريخية الكبرى بتحويل مكتب الشرق الأدنى في بيروت إلى خلية عمل هائلة، جمع فيها كل أصحاب المواهب الموسيقية اللبنانية والفلسطينية والسورية، وبينهم الأخوان رحباني (عاصي ومنصور) وزكي ناصيف توفيق الباشا.وما إن أدت الظروف إلى إغلاق مكاتب الشرق الأدنى، بعد انسحاب موظفيها العرب منها احتجاجًا على الدور البريطاني في غزو مصر في العام 1956، حتى كان رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق كميل شمعون قد أطلق مهرجانات بعلبك الدولية، التي كانت في سنتها الأولى مقتصرة على العروض الموسيقية الأوربية، ثم دشن في السنة الثانية (1957) مهرجانًا سنويًا تحت اسم «الليالي اللبنانية».

لقد سمحت لي الظروف بحضور التمارين الموسيقية لمهرجانات السنة اللبنانية الأولى في بعلبك، فاطلعت مباشرة على الدور الريادي الذي كان توفيق الباشا يؤديه بجلد وجدية وحماسة لانظير لها، واضعًا كل مواهبه وخبرته في إيصال الإبداع الموسيقي لزملائه الرحابنة وزكي ناصيف. (وبعد ذلك فيلمون وهبي وسامي الصيداوي وعفيف رضوان، إضافة إلى ألحانه الخاصة) في ذروة التنفيذ الأوركسترالي المتقن، بل المدهش.بعد ذلك، انتقل توفيق الباشا في محطته اللبنانية الكبرى، عندما تم تعيينه قائدًا لأوركسترا دار الإذاعة اللبنانية، بعد أن أعاد تأسيسها على أسس حديثة، الموسيقار الفلسطيني المنتقل إلى لبنان، حليم الرومي.

في دار الإذاعة اللبنانية الجديدة، كانت المحطة الفنية الكبرى لتوفيق الباشا، حيث عمل على تطوير قدرات أوركسترا الإذاعة وكورال الإذاعة، من منشدين ومنشدات،في هذه الأثناء، انفرط عقد فريق العمل الجماعي في الليالي اللبنانية ضمن مهرجانات بعلبك، فشكل توفيق الباشا ثنائيًا موسيقيًا كبيرًا مع رفيق عمره الموسيقار الكبير زكي ناصيف، حيث كانت مؤلفاتهما في الموسيقى الآلية والأغنيات اللبنانية المبنية على النسق الفولكلوري الشرقي، عماد هذه الفرقة، وبقي توفيق الباشا، كعادته، هو المؤتمن الدائم على التنفيذ الأوركسترالي المتقن، لأعماله وأعمال زملائه.

موشحات وسيمفونيات

ومع الامتداد الزمني لخبرة توفيق الباشا العملية، ونضج مواهبه التأليفية في أكثر من اتجاه فني، وسّع توفيق الباشا آفاق مؤلفاته الموسيقية، فبذل جهدًا خارقًا في تلحين القصائد، التي كان يتذوقها في دواوين الشعراء العرب القدماء والمحدثين، كما تخصص في تلحين الموشحات ذات التركيبة التراثية الأصيلة، مع انطلاق إلى آفاق الأوركسترا الحديثة، وأنتج في هذا المجال، أكثر من برنامج تلفزيوني وإذاعي، مبني على الموشحات والقصائد، من خلال عدد من أكبر الحناجر الرجالية والنسائية، مثل محمد غازي (فلسطيني الأصل) وسعاد محمد ونور الهدى وسعاد هاشم. كما أبدع في إعادة صياغة حديثة لأعمال كثيرة من التراث الدنيوي والديني. وعلى الرغم من هذا التجذر في صنعة الأشكال الموسيقية العربية الأكثر أصالة، كان اتصال توفيق الباشا بالموسيقى الأوربية الكبيرة يشكل له إغراء دائمًا، دفعه إلى كتابة مؤلفات ذات نكهة سيمفونية، وإنشاديات دينية عربية المحتوى، سيمفونية الديباجة. حتى أن إحدى سيمفونياته، قدمتها أوركسترا سيمفونية بلجيكية في كبريات المسارح البلجيكية. ولا ننسى طبعًا الإشارة إلى عدد وافر من المؤلفات الآلية (المعزوفات) ذات المضمون العربي الواضح التنفيذ الأوركسترالي الكبير، التي أغنى توفيق الباشا بها المكتبة الموسيقية العربية، وهي على مستوى رفيع من الجمال اللحني والبنية التأليفية المتينة.

ظل توفيق الباشا، مع كل هذا التطور الفني الكبير، شديد الاعتزاز بفنه كقيمة حضارية وثقافية عربية، كما كان شديد الاعتزاز بعروبته. وعلينا أن نشير أيضًا إلى اعتزازه ببيروتيته. فقد كان يتفاخر دائمًا بأن «الموال البغدادي» الشهير إنما هو ابتكار حيّ المصيطبة/ المزرعة البيروتي، عكس ما توحي به التسمية, مع الإشارة إلى النجمين اللامعين لهذا الموال، وهما المطربان الراحلان إيليا بيضا وإلياس ربينر. وقد ظل أيضًا شديد التواضع إزاء الأجيال التي سبقته على طريق الموسيقى العربية الرفيعة، حتى أني استمعت إليه في مقابلة تلفزيونية متأخرة، يعترف بأنه تتلمذ على محمد عبدالوهاب، وأنه يفخر بالاعتراف بذلك، غامزًا من قناة زملائه الذين يتنكرون لما تعلموه من عباقرة الجيل السابق.

لقد رحل توفيق الباشا، وفي قلبه غصات من تدهور القيمة الحضارية للموسيقى، والغناء العربيين المتداولين، وفضل في سنواته الأخيرة الانزواء الإبداعي، مع المحافظة على نشاطه في مجمع الموسيقى العربية، ومهرجانات الموسيقى العربية، شيخًا وقورًا وافر الحيوية، حتى آخر لحظة من عمره.

 

إلياس سحّاب




 





لعب توفيق الباشا دورا أساسيا في تطوير الموسيقي بالإذاعة اللبنانية