المتنبي.. الشاعر الثائر

المتنبي.. الشاعر الثائر

وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرًا وغنى به من لا يغني مغرّدًا
فدع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى


هذا الشاعر لا يحق لنا أن نعبث بسيرته كيف نشاء غيرةً على هذا التراث الشعري العربي العظيم الفصيح المتدفقِ ثورةً وبلاغةً وحكمةً وشجاعةً ومروءةً عربية أصيلة، يعجز الكثيرون منا عن تذوق الكثير من شعره بسبب ما وصلنا إليه من انحطاط لغوي وأدبي.

في هذه الحياة نجد المتميزين في العطاء الإنساني يعانون العداوة وكيد الحاسدين في كل ميادين الحياة، وفي كل الحضارات، وبين كل شعوب الأرض، وهي طبيعة إنسانية لا يخلو منها جيل من أجيال البشرية قاطبة.

نسب المتنبي

ولد المتنبي في الكوفة سنة 303هـ، وقد اختُلف في اسم أبيه، فحينا هو الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي، وحينا هو الحسين بن مرة بن عبدالجابر الجعفي، وحينا هو محمد الحسين بن عبدالصمد الجعفي، وكان سقاءً يسقي للناس على جَمَل له في محلةِ «كندة» في الكوفة ويلقب بـ«عيدان أو عبدان السقاء».

وقد مُني المتنبي في حياته وبعد موته بضروب من العداوات جعلت تاريخ هذا الرجل منزلقًا لا تثبت عليه قدم، وإن مما قيل عن الغمز واللمز - وهو كثير - قول القاضي أبي علي المحسّن بن علي التنوخي القريب الصلة بالوزير المهلبي وزير عضد الدولة ونديمه، وهذا التنوخي هو الذي تجاهله المتنبي حين أراد منه أن يمدحه عند مروره ببغداد في طريقه إلى عضد الدولة بشيراز آنذاك مما أحفظه عليه، فأغرى به الشعراء وغيرهم من الكتّاب حتى قال بعض الشعراء فيه:

أي فضل لشاعرٍ يطلب الفضـ ـل من الناس بكرةً وعشيا
عاش حينا يبيع بالكوفة الما ء، وحينا يبيع ماء المحيا


قال التنوخي هذا إنه سأل المتنبي عن نسبه، فأجابه المتنبي «أنا رجل أطوي البوادي وحدي وأخبط القبائل، ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلةٍ بينها وبين القبيلة التي انتسب إليها، ومادمت غيرَ منتسب لأحد، فأنا أسلم على جميعهم ويخافون لساني». وهذا قول ملفق ضعيف أول ما ينالُ .. ينال صاحبه.

والسؤال الذي يبرز هنا هو: أهذا قول من افتخر على الملوك والأمراء وأوعدهم وجاهرهم بالعداوة في عصر كانت تذهب فيه الأرواح نهب الوشاية والدسائس والمكر السيئ؟... كلا ثم كلا.

والتنوخي هذا معروف ومشهور في أساليب الوضع المتقنة التي جرى عليها شيوخ الوضّاعين، إلا أن الحقائق كالإبر وخزُها يشد انتباه الذاهل إلى موضعها، فقوله إن المتنبي كان ابن سقاء في الكوفة، ثم ادعاؤه بأن المتنبي قال له «متى انتسبت لا آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينها وبين القبيلة التي أنتسب إليها» فهذا قول ينقض قولاً، فابن السقاء هذا الذي سقط بآبائه السواقط إلى السقاءة وغيرها من حقير المهن لا تُبغى عنده طائلة، وإن بُغيَت فأي فخر لمدركها عنده؟

والمتنبي - كما ذكرنا - ولد في الكوفة وكان يختلف إلى الكتاب وهو صبي مع أولاد أشراف الكوفة من العلويين يتعلم دروس العلوية شعرًا ولغةً وإعرابًا فنشأ في مدارسهم الخاصة التي لا يدخلها إلا أبناء العلويين، ونصُّ الأصفهاني يقول:

«فدخول أحمد بن عيدان السقاء بين أبناء العلويين في كتّاب لهم غريب عجيب». وهذا أمر يفهم منه أن هنالك نسبًا قويًا موصولاً بين جدة المتنبي وبين العلويين أرضاهم بأن يكون مع أبنائهم على مقاعد مدارسهم.

ويقول الأستاذ محمود شاكر - رحمه الله - في كتابه «المتنبي»:

«إن وضع القضية عندنا أن رجلاً من العلويين، وربما من كبارهم تزوج بنت جدة المتنبي، فحملت منه، وهذا الحسين غير عيدان السقاء، وربما كان عيدان السقاء هو جد المتنبي لأمه، ولأمر ما حمل العلويون هذا الرجل العلوي على طلاق امرأته، فطلقها وفارقها، فرجعت إلى أمها بطفلها أبي الطيب، وحزنت حزنًا أهلكها وذهب بها الموت، وبقي الطفل، فكفلته جدته وتعهدته وقامت بأمره حتى بلغ مبلغ الفتيان ودلته على الطريق بعد أن صرحت له بحقيقة أمره، وصحيح نسبته إلى العلويين، وكان من حزمها أن حذرت الفتى من عواقب التصريح بأمر نسبه، وأنه إن فعل كان فيه هلاكه وهلاكها لأنها علمت - بلا شك - أن سبب فراق أبيه لأمه هو هذه النسبة.

ورحل أبو الطيب إلى البادية ثم عاد إلى الكوفة شاعرًا فذًا في وقت صارت فيه الشوكة لغير العرب، ثم إنه لما رحل إلى الشام، ادّعى العلوية فقبض عليه فاضطر إلى الإخلاد والتسليم بعد أن رأى صواب رأي جدته وحزمها.

هذا الوضع هو الذي يفسر لنا فيما بعد طول كتمان المتنبي لنسبه وإخفائه له من أصحاب الألسنة المتنقلة بين الرجال، ويفسر لنا أيضًا قصة أبيه السقاءوحرصهم على حبكها، ويبين أيضًا السبب الذي من أجله سكت المتنبي عن مدح العلويين وعظمائهم وأصحاب الجاه والسلطان منهم في الكوفة».

أمران شديدا الوطأة على المتنبي، إخفاؤه نسبه، وما آلت إليه الدولة العربية من تمزق وفرقة أوقعتها نهب الأغراب، وآلت إلى ما سمّاها المتنبي بدولة الخدم.

دعوى النبوّة

لقد نال المتنبي من إخفاء نسبه جهد وخطر كثير، فقد كان العلويون لا ينفكون عن مراقبته خشية التصريح به بعد أن فصلوا أباه العلوي عن أمه لسبب مازال مكتومًا لم يظهر، ونسبوه إلى عيدان السقاء (جده لأمه) الذي سبق ذكره، وعندما أظهر نسبه وهو في الشام أُخذ وسجن سنة 321 ثم اتهم على ذلك بأنه ادعى النبوة. ويقول المرحوم الأستاذ محمود شاكر في كتابه «المتنبي»:

«قال أبو الحسين الناشئ الشاعر: كنت بالكوفة في سنة 325هـ وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها، والناس يكتبون عني، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم، وهو بعد لم يعرف ولم يلقب بالمتنبي. فهذا دليل على أن القبض عليه في سنة 321 هـ لم يكن بسبب ادعائه النبوّة، وإنما كان في شعره يكثر من ذكر الأنبياء، ويردد أسماءهم ويشبه نفسه بهم في شعره ويقيس أخلاق ممدوحيه إلى أخلاقهم، فمن ذلك قوله في نفسه:

ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود


ونخلص من ذلك أن النبز الذي نبز به أبو الطيب وعرف به إلى اليوم ليس مرجعه إلى أنه ادّعى النبوة فقبض عليه وأودع السجن، بل إن هذا له مساق آخر هو أقرب إلى الصدق وأولى بالاعتبار.

لقد كان أبوالطيب في أول أمره متورعًا في خُلقه لا يخرج عن حدود الوقار متزمتًا لا يلين للشهوات، مترفعًا عن سفاسف الأخلاق، متمسكًا بمعاليها، وكان لا يقرب التهم ولا يدانيها، فما كذب ولا زنا ولا أتى منكرًا يؤخذ عليه، ولا شرب الخمر، وهذا قول كثير من معاصريه والذين كتبوا عنه، واستمرت حياته كلها على ذلك مخالفًا الأدباء والشعراء من أهل عصره، وكان منصرفًا إلى العلم، قارئًا له، محققًا لدقائقه، طويل النظر والتدبّر فيما يمر به من أحداث الزمان، كثير الاهتمام بأمر أمته على خلاف أهل عصره في ذلك، وخاصة من انتسب إلى الأدب وإلى الشعر، فكانوا أهل شراب ولهو وهزل وباطل ولا يفرغون إلى الجد إلا بمقدار، فلا عجب إذا عده أهل صناعته من الأدباء والشعراء غريبًا عنهم، وحاكوا ضده التهم والدسائس.

وعند الأستاذ محمود شاكر أيضًا أن أبا الطيب لما عاد من الكوفة سنة 326هـ واتصل ببدر بن عمار ولزمه وأصاب عنده كرامة تناوشه الشعراء إذ خافوا على أرزاقهم، وطفقوا ينتقصون الرجل، ويطلبون له العيوب وأغراهم بذلك ما وجدوا من ترفعه عن مجالس لهوهم وانصرافه عن الهزل الذي يكونون فيه، فلما وقعوا على كثرة ذكر أسماء الأنبياء في شعره، وتشبيهه نفسَه بهم لقبوه بــ«المتنبي» وذلك أرادوه لقبًا ينبزونه به، ولما استفاضت شهرته صار لا يُذكر إلا به.

إذن فالنسب علوي ودعوى النبوءة ليست صحيحة، وإنما هي ادّعاء الحاسدين والمبغضين، وأنه لم يسجن بسبب ادّعاء النبوة، وإنما بسبب التصريح بنسبه إلى العلويين الذين ينكرون ذلك عليه، فأبوه هو الحسين العلوي، وليس هو الحسين الملقب بـ«عيدان السقاء» الذي يسقي للناس على جمل له بمحلة «كندة» في الكوفة، كما أن المتنبي لم يأت في كل شعره عن ذكر أبيه أو أمه ولا عن نسبه خوفًا من العلويين ولم يذكر شيئًا من ذلك إلا عن جدته في مرثيته الشعرية لها، وهذا الصمت هو الذي أغرى أعداءه به ليتقوّلوا عليه كيف يشاءون.

وأما همه العظيم الآخر فهو أمر أمته وعروبته، فقد ولد بالكوفة سنة 303 هـ، وأقام بها إلى آخر سنة 320 هـ، ثم خرج إلى الشام، وفي باديتها أظهر أنه علوي النسب، فسجن في أواخر سنة 321 هـ، إلى سنة 323هـ، ثم خرج من السجن وبقي في الشام إلى سنة 325هـ، ثم عاد إلى الكوفة مرة أخرى، ثم عاد إلى الشام في سنة 326هـ، وبقي فيها إلى سنة 336هـ.

ولهذه الحقبة من الزمن أكبرالأثر في حياة المتنبي، فقد رأى في كل بلد عربي أثر دبيب الانهيار في جسد الأمة، وهو الذي لا تستكين نفسُه الأبية للركون إلى الهدوء والاطمئنان وأمته العظيمة تسير إلى الهاوية، وما أشبه الليلة بالبارحة، فنحن نعيش إرهاصات ذلك العصر بكل صوره ومساوئه، وكــان لا يكاد يستقر في مكان حتى تناله العداوات ويطارده الأعداء والحاسدون بسبب شعره المتفتق حماسة ووطنية وغيرة عروبية صادقة.

ولو كان الرجل طالبَ مال ومنصب لكان استقر في بغداد عاصمة الخلافة، مع أنه دخلها وهو شاعر طموح يريد أن يتألق، لأن عظمتها وفتنتها في ذلك الوقت تأخذ بالألباب، فلم يفكر ساعة في المقام بها يزاحم بها شعراءها الكبار الذين حازوا مجدهم بها، بل غادرها إلى الشام لا علويًا ثائرًا يطالب بإظهار نسبه فحسب، بل عربيًا ثائرًا مُنكِرًا للذي رآه في بغداد من استيلاء الأعاجم من الترك والفرس وغيرهما على سلطان الخليفة العربي وخيانتهم له حتى تركوه بلا سلطان، ولو صح ما يدّعيه البعض من أنه طالب سلطان، فهو في هذا أخلق به من هؤلاء، فقد ولد في الكوفة وعاش فيها زمنًا، وكانت الكوفة في ذلك الوقت مقر كثير من أئمة العلم والأدب والشعر، ولزم مجالسهم، فعملت هذه المجالس في تهذيب علمه الذي وقع عليه في الصغر من علوم العرب واليونان وغيرهم، ثم عملت طبيعته الشعرية في هذه العلوم كلها، وكان له من الفراغ ما يكفيه للتفكر والتأمل والنظر، ثم هو فارس مقدام تشهد له مواقعه مع سيف الدولة في حروب الروم.

ما قبل سيف الدولة

ولكنه لم ييأس في أن يجد عربيًا من أصحاب السطوة والشوكة يشفي ما في نفسه من الغيظ والغيرة على عروبته وسلطانها الضائع، قبل أن يجد ذلك في الفتى العربي الثائر سيف الدولة الذي أثار إعجابه وهو في أول نشأته، وقبل أن يُسجن سنة 321هـ، وقال في قصيدة لم ينشدها بين يديه، وإنما حفظها وأثبتها في القسم الثاني من ديوانه، ويقول فيها:

وتَعَذُّرُ الأحرارِ صيّر ظهرها إلا إليك، عليَّ ظهرَ حرام
أنتَ الغريبةُ في زمانٍ أهلُه وُلدَتْ مكارمُهم لغيرِ تمام


ومضت الأيام قبل لقاء القمتين والعلوية والعربية تحرّكان وجدانه اشتعالاً وخمودًا، فما يلقى من أحد حتى يفتشَ فيه عن هذا المأمول الذي يثير وجدانه ثم يبلغ توهجه حين يجده في الفتى العربي بدر بنعمار بن إسماعيل الأسدي والي طبريا، وقد كان لا يكاد يقر له قرار في مكان من شدة ما يلقى من العداوات من الحساد، ومن خصومه في السياسة والطامعين في الاستيلاء على الدولة العربية، وكان بإمكانه مجاراة الأوضاع والمدح والتقرّب على حساب مبادئه لكي ينال ما يريد، وهو الشاعر الموهوب والمطلوب عند كل الملوك والأمراء والولاة، ولكن الأبي النفس يأبى على نفسه ذلك، حتى قال في ذلك قولاً يدل على معاناته الشديدة، وعلى صبره واحتماله الأذى في سبيل مبادئه:

كأن الحزن مشعوفٌ بقلبي فساعة هجرها يجد الوصالا
كذا الدنيا على شغف بقلبي صُروفٌ لم يُدمنَ عليه حالا
ألفتُ ترحُّلي وجعلت أرضي قُتودي والغُريريُّ الجُلالا


وكانت سَورة نفسه سورةَ رجل سياسي عربي غيور يرقب ما يحيط به وحين يجد ما في نفسه متمثلاً في رجل يأمل سطوته وشوكته فكأنه وجد صنو نفسه، على أن هنالك فرقًا واضحًا جدًا بين عهدين، عهد ما قبل سيف الدولة، وعهد سيف الدولة، فشعره في سيف الدولة لم يكن مقصورًا على هذا وحده بل يتجاوزه إلى الإحساس الكامن فيه بالملحمة القديمة التي بدأت منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعده والتي ظلت تتصاعد على ثغور الشام بين النصرانية الرومية والإسلام شيئًا فشيئًا حتى كان زمنُ سيف الدولة، فظهرت ظهورًا بيننا خلد المتنبي سيفَ الدولة في شعره الذي قال فيه في عشر سنوات من سنة 337 هـ إلى سنة 346هـ.

وسيف الدولة هو أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان العدوي التغلبي الذي استولى على أكثر الشام من الإخشيد ومن والاهم، ووقف للروم يرد غاراتهم على أطراف بلاده ويوقع بهم إيقاعًا شديدًا وقد غلبت مقدرته العسكرية كل من كان في عصره من القواد ورءوس الفتن التي عملت على انتكاس الدولة العربية وتمزُّقِها. وكان سيف الدولة يُؤمّل أن يتسع ملكُه اتساعًا عظيمًا لولا تلك الأحداث العظيمة وما شاع من دسائس الشعوبية التي فرقت القلوب فلم تدع أمة من الناس إلا دخلت بينهم فمزقتهم شر ممزق وجعلت بعضهم حربًا وفسادًا على بعض، وكذلك ما كان من دعوة العلويين لقلب الخلافة في العراق وما كان من الدعوة الفاطمية السرية الجارفة، وكانت هذه أشد البلايا التي ابتلي بها العالم العربي كله. وكان بنو حمدان من شيعة العلويين إلا أنهم كانوا عربًا يدعون إلى العلوية العربية، فلما وجدوا غلبة الأغراب وما دخل في العلويين من فساد الغرباء ومن الدعوة الفاطمية الجارفة وكانوا لا يقرون هذه العداوة، ولا يسلّمون لأصحابها بالنسبة للفاطمية، رجعوا فانحازوا إلى الخلافة العباسية ينصرونها مع إكرامهم للعلويين، وقد أبدى بنو حمدان من الدهاء وسعة الحيلة وحسن السياسة في التوفيق بين عقائدهم العلوية وسياستهم العباسية، ما لا قِبَلَ لأحد من أهل ذلك العصر في الإتيان بمثله أو أقَلِّ منه، وقد أثبت بنو حمدان بسياستهم تلك أنهم يريدون إنقاذ الدولة العربية والإسلامية من الفتن التي فعلت أفاعيلها في تضييع السلطان العربي وانتقال السلطة إلى الحكم الشعوبي الغريب الفاسد الطوية.

لقد كان سيف الدولة خاصة من بين أكثر بني حمدان دهاء وأوسعهم حيلة وأشدهم حبًا للعرب ودينهم وأكثرهم سعيًا في رد السلطان إلى العرب وكان من أكرمهم خُلُقًا وكان شاعرًا بطبيعته ومحبًا للعلم والأدب.

إن أول تغير عظيم في شعر أبي الطيب هو إلقاؤه كبر نفسه وتعظيمَه لها إلى شخص سيف الدولة، فقال له في أول قصيدة فيه:

وفاؤكما كالربع أشجاه طاسُمِه بأن تَسعُدا والدمع أشفاه ساجمه
سلكتُ صروف الدهر حتى لقيتهُ على ظهر عزم مؤيداتٌ قوائمه
مهالك لم تَصحب بها الذئبَ نفسُه ولا حمَلت فيها الغرابَ قوادمه
فأبصرت بدرا لم ير البدرُ مثلَه وخاطبت بحرًا لا يرى العَبَر عائمه


وقد احتفلت نفس الشاعر الثائر بهذا اللقاء ونسي نفسه وما كان يذكرها به من القوة والفتوة وما كان يذكرها به من الرجولة والكمال ووجد كل ذلك في شخص سيف الدولة ورمى بين يديه الدرة الأولى في تاج بني حمدان وهي القصيدة التي ذكرنا منها أبياتًا سابقة.

حنكة سياسية

وبقي سيف الدولة أشهرا في أنطاكية وأبو الطيب في جواره في مجلسه وفي ركابه، واستصفاه سيف الدولة لما وجد فيه من الحنكة والدهاء، ومنحه قُربه وبِشرَه، وكان ذلك عَجَبًا لما عُرف من صرامة سيف الدولة وتحرِزه وتشدده حتى على الكثير من أهل بيته، فلم تُقرِّب أبا فراس الحمداني قرابته لسيف الدولة على الرغم من أنه كان متفانيًا في خدمته وطاعته ومرضيته، مفدّيًا له في حروبه بنفسه وما له، ممجدًا له في شعره، مع أن أبا فراس أولى بالتقديم والتكريم من أبي الطيب، ولكن دهاء سيف الدولة وواقعيته وخبرته ما كان تعطي المتنبي كل هذا التكريم لو أن هم المتنبي الأول هو المال والسيادة ولكن ذلك كان لما لمسه في أبي الطيب من فروسية وآراء وأفكار في الأمور السياسية التي كان يسعى لتحقيقها.

وبالنسبة لأبي الطيب فلابد أن تكون له مطامح كما لغيره من الناس خاصة وأنه بهذا الصيت العريض، وهذه الشجاعة، وهذا الذكاء المتوقد، فإذا كان للمتنبي من طمع بالولاية أو النفوذ، فهو بلا شك أحق بذلك من شاخاذ أو شيريل ابني عضد الدولة أو ابن كيغلغ أو ابن طغج وغيرهم من الأغراب الذين أصبحوا أمراء وولاة أو ذوي نفوذ في الدولة العربية التي مزقوها شر ممزق، ولكن يبدو من أول شعر المتنبي في سيف الدولة أن هذه المطامح لم تكن من أولوياته.

وقد عَرف سيف الدولة كما عرف الذين من قبله بأن شعر المتنبي ليس كالذي تلوكه الألسن فهذا لا يخرج إلا من قلب صادق، وكان حبه لسيف الدولة صادقًا حتى بعد فراقه، فقلما قال قصيدة لكافور، لم يذكر فيها سيف الدولة وحنينه إليه، قال:

رأيت بقربي منك عينًا قريرة وإن كان قربًا بالبعاد يُشاب


وقال:

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب


إن شعر أبي الطيب في سيف الدولة كثير ومثير، ولا يتسع لنا الوقت كي نذكره ولكن يكفينا منه بعض القليل:

أين أزمعت أيهذا الهمام نحن نبت الربى وأنت الغمام
في سبيل العلى قتالك والسلمُ وهذا المقامُ والإجذام
ليت أنا إذا ارتحلت لك الخيل وأنّا إذا حللتَ الخيام
كلَّ يوم لك احتمال جديد ومسير للمجد فيه مقام
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام


وكان ما كان من أمر الحساد والوشاة الذين كانوا له بالمرصاد حيثما ذهب، فأكثروا من السعاية في حقه حتى ظن يقينًا أن قلب سيف الدولة قد تغير عليه وخاصة عند سكوته عمن أهانوه في مجلسه فقال رائعته الجريئة التي نقتطف منها بعض هذه الأبيات:

واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم
وجاهلٍ مده في جهله ضحكي حتى أتته يد فراسة وفم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم


وفي هذه القصيدة كما تعلمون الكثير من الفخر والتعظيم لنفسه وفيها ما فيها من الاستهانة بسيف الدولة ومجلسه ويكفي هذا دليلا على شجاعة المتنبي وترفعه عن المطامع التي يقصدها غيره من الشعراء.

ثم اتخذ الليل مركبًا، فقد أصيب في الرجل الذي لا يجد له شبيهًا أنى تلفتت خبرته بالرجال والأعمال وداخله اليأس وتمنى الهلاك ومات اللهيب في نفسه فرمته البوادي والفلوات إلى أرض مصر وإلى كافور بعد أن تقلصت آماله، وكان كل يوم يمضي بقطعة من نفسه وآماله، ذهب أبو الطيب الأول وجاء أبو الطيب الثاني فأين الشباب وأين الزمان، وحين لقي كافور ألقى عليه أول نفثة من نفثات قلبه المصدوع الذي أعياه أن يجد الصديق الصدوق أو حتى إلى عدو لا تستفزه عداوته إلى الأذى لأهون سبب:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنيتَها لما تمنيتَ أن ترى صديقًا فأعيى أو عدوا مداجيا


كان ابن ملك اليهودي من قبل كافور في دمشق يكره المتنبي لاحتقار المتنبي له وامتناعه عن مدحه وكتب إلى كافور بأن المتنبي قد ذمه واحتقره فأعمل كافور جهده وحيلته لاستقدام المتنبي إلى مصر حتى قدم إليه، يريد بذلك أن يمحو المتنبي بمدحه له كل ذمه الأول، وكان كافور من علماء عصره وأدبائهم فما كان يفوته شيء من سخرية أبي الطيب والتعريض به من خلال مادة مدحه له ولعله كان يرصد له الوقت المناسب للانتقام، والمتنبي بذكائه يدرك قصد كافور من استقدامه له وقصده في أذاه ولذلك فوت فرصة كافور في مدحه وأخذ يعد العدة بدوره للنجاة.

في قبضة كافور

وبقي حبيسًا في قبضة كافور من سنة 346هـ إلى سنة 350 هـ وهو يكظم همًا يذيب القلوب، وفي هذه المدة صار شعره نمطًا آخر فقد صار شاعرًا محنكًا معقّد المهارة في معانيه وألفاظه، يحتاج تذوقه إلى خبرة بأساليب صياغته، لقد كان فتى جادًا قليل الإغضاء والتجويد، ثم شابًا كتومًا يزلزله ما يكتمه، وأغنانا المتنبي عن ذلك بقوله في كافور الذي يلقبه بالكركدن حين قال:

وشعرٍ مدحت به الكركدن بين القريض وبين الرُقىَ
وما كان ذلك مدحًا له ولكنه كان يهجو الورىَ


وما كان ليخفى على كافور الذي أرصد له الرقباء وبث عليه العيون أن المتنبي الذي يئس من بقائه في مصر قد أعد للهرب في دهاء قبل أن يدركه كافور في انتقامه فاستغل غفلة كافور في يوم عيد الأضحى وانشغاله بالهدايا لرابطة جنده وأعوانه والاحتفاء بهم وفرَّ ليلا بعد أن نظم قصيدته التي قالها يوم خروجه من مصر:

عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبةُ فالبيداء دونهم يا ليت دونك بيد دونها بيد


والأحبة هنا هم سيف الدولة.

وسار إلى الكوفة ودخلها وكان ذلك سنة 153 ثم إلى بغداد، ثم قصد أبو الفضل ابن العميد محمد ابن الحسين في أرّجان وهو الملقب بالجاحظ الثاني لفصاحته وبيانه وكان معجبًا بالمتنبي وشعره فأكرمه أيما إكرام وأغراه في المسير إلى عضد الدولة في شيراز بعد أن ورده كتابه بدعوة المتنبي إليه ولم يوافق أبو الطيب إلاّ بعد إلحاح ابن العميد عليه فسار إلى شيراز فاستقبله عمر الصباغ من قِبَل عضد الدولة فاستنشده، وشعر المتنبي وكأنه يختبر شعره وعرف أن ذلك من أمر عضد الدولة فأنشده المتنبي قصيدته التي قال فيها عند دخوله الأخير إلى الكوفة التي مطلعها:

فلما أنخنا ركزنا الرما ح بين مكارمنا والعلى
وبتنا نقبل أسيافنا ونمسحُها من دماء العدى


فلما رجع ابن الصباغ إلى عضد الدولة وأنشده الأبيات، قال عضد الدولة: «هونًا.. يهددنا المتنبي» وظاهرٌ من ذلك أن المتنبي يحقر بني بويه للأسباب التي ذكرناها سابقًا ولأنهم أيضًا أعداء صاحبه سيف الدولة.

على طريق القتل

وضعت هذه المقابلة بين عضد الدولة والمتنبي أسباب الحذر والاحتراس ولكن المتنبي ألقى بين يدي عضد الدولة عند لقائه، هجاءه لفارس وأهلها وهي التي كانت المعين الأول على قتله، مغاني الشّعب:

مغاني الشعب طيبا بالمغاني بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جِنَّة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان


إن سليمان عليه السلام الذي علمه الله منطق الحيوان، استثنى لغتهم من الوجود وأن المتنبي كونه عربيًا فهو غريب بينهم بكل الصفات العربية، وكان من دهاء عضد الدولة، وهو الذي وصل بدهائه وسياسته إلى الملك، أنه أكرم المتنبي أيما إكرام على هذه القصيدة وأعطاه من الهدايا والخلع ما لم ينله المتنبي من قبل وبقي في شيراز إلى أول شعبان من سنة 453 هـ وكل من الاثنين يكنُّ العداء للآخر ولكن عضد الدولة لم يكن يريد أن يضع يده في دم المتنبي، فأغرى بعض أتباعه في أن يوقع الرعب في نفس المتنبي فيرحل عن شيراز ويموت في مكان آخر.. وهكذا كان، فاستأذنه المتنبي في المسير عن شيراز على أن يعود إليه فزاده عضدُ الدولة إكرامًا وخلع عليه الخلع الخاصة ليظهر له أنه يصدّقه ولم ينطلِ ذلك على المتنبي الداهية، فأشار إلى ذلك إشارات كثيرة منها:

ومن يَظَّنُّ نثر الحَب جودًا وينصب تحت ما نثر الشباكا
وأيًا شئت يا طرقي فكوني أذاةً أو نجاةً أو هـــلاكــا


ولما انصرف من شيراز جهز إليه عضد الدولة قومًا من بني ضبة وأغراهم به بما وهبه للمتنبي من هبات ليسلبوها منه، وزاد في إغراء بني ضبةَ في قتل المتنبي، هجاؤه لهم عندما أوقع بهم سيف الدولة فهجاهم المتنبي بقصيدته التي يقول فيها:

مهلاً ألا لله ما صنع القنا في «عمرو حاب» و«ضبةَ الأغتامٍ»


فقتلوه وقتلوا معه إبنه المُحَسِّد وغلامه مفلح وسلبوه ما أعطاه عضدُ الدولة تلك العطايا والهبات وكان موته في 27 رمضان سنة 354هـ.

وهكذا أسدل التاريخ ستاره على حياة شاعر العربية الأول بلا منازع وبقي لنا من تراثه الخالد ما يعد درسًا بليغًا في المبادئ والثبات.

سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ كالنَّسرِ فوق القِمَّةِ الشمَّاءِ
أرنو إلى الشمسِ المضيئةِ.. هازئًا بالسُّحْبِ، والأمطارِ، والأنواءِ..
لا أرمقُ الظلّ الكئيبَ.. ولا أرى ما في قرارِ الهُوّةِ السوداءِ..
وأسيرُ في دنيا المشاعرِ حالمًا غرِدًا - وتلك سعادةُ الشعراءِ
أُصغي لموسيقى الحياةِ، ووحْيِها وأذيب روحَ الكونِ في إنشائي
وأصيخُ للصوت الإلهي الذي يُحيي بقلبي ميّتَ الأصداءِ

 

خالد الشايجي