فرعون حقيقي.. بسبعة جنيهات

فرعون حقيقي.. بسبعة جنيهات

عندما يعاند الزمان البشر، «فليس هناك مفر من الاستسلام لحكم القدر حتى ولو كان الضحية عظيما من أعظم ملوك وفراعنة التاريخ». هذه حكاية ملك ملوك مصر.. فرعون عاندته الأقدار منذ أن خرج إلى الدنيا.. ولكنها أنصفته في نهاية الزمان.. بعد آلاف السنين من رحلة حياته الطويلة على ضفاف نهر النيل.

البداية كانت وسط الصمت الذي يطبق على المكان وينشر أجنحته في أرجاء المتحف الأمريكي العريق «نياجرافون» عندما انطلقت أصوات فزعة مذهولة هزّت أركان المتحف العريق، كانت صاحبة الأصوات المذهولة عالمة وباحثة آثار ألمانية جاءت من آخر الدنيا لزيارة القسم الخاص بآثار مصر الفرعونية.. والتف الزائرون والمسئولون عن أمن المتحف حول الباحثة في محاولة لفهم صرخاتها الألمانية.

كانت الباحثة تقف أمام مومياء مصرية.. وكانت الكلمات الصارخة التي أطلقتها في صباح ذلك اليوم داخل المتحف تقول: «إن هذه المومياء لملك مصر وفرعونها العظيم إن كل شيء فيها ينطق بأنه لملك... إن طريقة وضع الذراعين متقاطعين وفتحات التحنيط وطريقة التحنيط كل ذلك يؤكد أنها لملك من ملوك مصر العظماء».

كانت هذه الكلمات الصارخة بداية لسلسلة من الإجراءات والاجتماعات والأبحاث شهدتها أروقة المتحف وانتقل الخبر إلى أجهزة الإعلام وأصبح أمام المتحف العريق وعلماء الآثار التزام شرفي ببحث حقيقة هذه الكلمات.

وخضعت المومياء لدراسات وأبحاث بأمريكا ومصر أكدت كما صرح د.زاهي حواس الأمين العام للآثار المصرية أن المومياء لأسباب تحنيطية وفنية وتاريخية هي مومياء ملكية وأنها للملك رمسيس الأول فرعون مصر.

وبدأت التساؤلات تطرح نفسها بشدة..

لصوص الآثار

من هو رمسيس الأول؟ وما حكايته؟ كيف عاش وكيف مات؟ وماذا جاء به من أعماق أرض مصر التي حكمها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام إلى أمريكا؟

وتجمعت الحقائق لتحكي أغرب قصة حياة وموت فرعون مصر الأشهر.

لقد عاش هذا الملك كل حياته يحلم بعرش مصر وعندما تولى العرش بعد وفاة الملك «حور محب» عانده الزمان إذ كان قد تجاوز سن الشباب ومات بعد عامين فقط من توليه العرش، لم يهنأ بالاستمتاع بحلم حياته.. ومع ذلك فقد استطاع أن يصبح من أشهر اثنين من ملوك مصر المحاربين كان أولهما الملك أحمس صاحب الغزوات المشهورة كما أنه تمكن في سنوات حكمه القليلة جدًا من إنشاء واحدة من المعجزات المعمارية وهي قاعة الأعمدة الضخمة في معبد الكرنك.. وهي تعد أكبر قاعة في عمائر مصر كلها.. نظمت أعمدتها في 16 صفًا، وتيجان الأعمدة على هيئة زهرة البردي المتفتحة والتي أكملها ابنه الملك «سيتي الأول».

وعندما حاول الملك رمسيس الأول أن يقيم لنفسه مقبرة تليق بفرعون مصر مثل باقي الملوك.. لم يمهله الزمان فترة كافية لإعداد مقبرته التي أقامها لنفسه في وادي الملك.. ولم تزين منها إلا حجرة الدفن بنقوش تصف سياحة «إله الشمس» الليلية في عالم «الآخرة السفلي»، وكان ذلك من شأن مقابر ملوك مصر القديمة حيث تزين برسومات تعكس الثراء الروحي والفكري لدى المصري القديم وخوفه من الموت، ومعرفته بأنه سوف يحاكم على ما اقترفه من جرائم وأعمال خلال حياته.

ومعظم ما قدمته النصوص القديمة يظهر حرص الإنسان المصري القديم على تأمين مصيره بعد الموت، وبذلك فإن العبقرية الروحية المصرية المبكرة تتجلى في تدين المصريين القدماء وإيمانهم بالعالم الآخر.

إن تابوت الملك رمسيس الأول لم يمهله القدر وقتًا ليزُيَّن بنقوش مثل باقي توابيت ملوك مصر واكتُفي بتلوينه على وجه السرعة لإتمام عملية الدفن مما يؤكد وفاته قبل إتمام المقبرة!

وحتى مقبرته لم يهنأ بها، فقد نُقلت مومياؤه من مخدعها الأصلي في نهاية الأسرة العشرين إلى مقبرة الملكة «إن حابي».

وقد حرص ملوك وملكات وكبار رجال الدولة الحديثة على مقابرهم المنحوتة في وادي الملوك إلى أن تعرضت هذه المقابر للسرقة في نهاية الأسرة العشرين نتيجة لضعف سلطة الملوك، حتى أنهم أصبحوا غير قادرين على حماية البلاد وحراسة مومياوات أجدادهم. وقد عُرف الكثير عن السرقات مما سُجِّل على برديات سرقات المقابر ومحاكمات اللصوص، مما جعل الكهنة أمثال الكاهن «بينوزم» يسعون إلى تجميع المومياوات الملكية التي سُرقت مقابرها ونُزعت رقائقها الذهبية من على التوابيت وقاموا بإعادة لفها باللفائف ووضعوها في توابيتها أو في توابيت جديدة، وأعادوا دفنها في أكثر من مخبأ.. وقد تم نقل مومياء الملك رمسيس الأول إلى مخبأ سري مع مجموعة ملوك بجوار الدير البحري قرب وادي الملوك وعثر على هذه الخبيئة في يوليو 1881م بواسطة «أميل بروكش» وذلك داخل مقبرة السيدة «إن - حابي» وهي صاحبة المقبرة رقم 320 جنوب معبد الدير البحري من عصر الدولة الوسطى وهي من أكبر الخبايا الملكية المكتشفة في القرن الـ 19 في جبانة طيبة.

وكان أفراد أسرة تدعى «عبدالرسول» قد تمكنوا من معرفة أسرار ومواقع هذه الخبيئة.

وقد دخل هذه الخبيئة أفراد عائلة عبدالرسول ثلاث مرات على مدار عشر سنوات بعد أن اكتشفها أحد أفراد الأسرة عام 1875، وسمع الأثري «ماريت باشا» عن الخبر لأنه شاهد في سوق الآثار بعض الآثار الملكية التي بدأت تظهر واستطاعوا أن يعرفوا أن عائلة عبدالرسول هي المسئولة عن بيع هذه الآثار، وقبضوا على أحد أفراد الأسرة ولم يعترف ولكن بعد خلافه مع أسرته أرشد عن الخبيئة وسافرت المومياوات من الأقصر إلى القاهرة.

مصالحات متأخرة

وكان بالخبيئة حوالي 40 مومياء معظمها في حالة جيدة وهي محفوظة الآن بالمتحف المصري، ومن بين المومياوات التي عُثر عليها مومياوات ملوك مصر المشاهير أمثال (سفن رع - أحمس - أمنحتب الأول - تحتمس الأول - تحتمس الثاني - تحتمس الثالث - سيتي الأول - رمسيس الثاني - رمسيس الثالث - رمسيس التاسع) وسبع مومياوات أخرى لملكات الأسرة 18 وحتى الحادية عشرة.

وتمكنت عائلة عبدالرسول التي تقطن مدينة الأقصر بأقصى جنوب مصر من بيع بعض محتويات الخبيئة على مدى عشر سنوات وبيع مومياء الملك رمسيس الأول بمبلغ 7 جنيهات لا غير إلى أحد الأشخاص الذي تمكن من نقلها عن طريق الشحن البحري إلى الولايات المتحدة الأمريكية وباعها إلى متحف «نياجرافون» بأمريكا.

وكانت هذه الجنيهات القليلة التي دُفعت ثمنًا لفرعون مصر هي آخر واقعة في سلسلة معاناة الملك المصري مع القدر.. فقد صالحه الزمان بعد هذه الواقعة وأشفق عليه وبدأ أخيرًا يُضفي عليه ما يستحقه من إجلال وتعظيم يليق بمكانته الملكية.

فقد ارتفع ثمن المومياء عقب الإعلان عن الأبحاث التي أكدت أنه أحد ملوك مصر وفاق الثمن عدة ملايين من الدولارات دفعها متحف «مايكل كارولس» بالولايات المتحدة الأمريكية وانتقل الملك إلى موقعه الجديد معززًا مكرمًا وخُصِّصت له قاعة ملكية مهيبة.. وظل سنوات عدة في موقعه الجديد الفاخر وسط احترام وتبجيل الشعب الأمريكي.

وصالحه الزمان مرة أخرى عندما تحركت مصر لتطالب بملكها العظيم الذي عاش في الغربة كل هذه السنوات واستطاعت الجهود المضنية لهيئة الآثار مع الدبلوماسية المصرية من إقناع المتحف الأمريكي بأن ملك مصر يجب أن يعود إليها.. وقد استجاب المتحف بلفتة حضارية بإعادة الملك إلى وطنه.

في استقبال الملك العائد

لم ينصف الزمان فرعون مصر العائد كما أنصفه يوم عودته على الطائرة العملاقة التي حملته من نيويورك إلى مطار الأقصر فقد أعدت له مصر موكبًا مهيبًا شهدته مدينة الأقصر عاصمة مصر القديمة، وراح الموكب يتهادى فوق أرض طيبة من معبد الكرنك وحمله أبناء الشعب فوق أكتافهم إلى عربة عسكرية يجرها ستة خيول يتقدمه حملة الزهور والموسيقى العسكرية في موكب جنائزي مهيب.. استقبل أبناء مصر الملك العائد بالزغاريد والتهليل ثم نقلوا تابوته إلى إحدى السفن النيلية لإقامة جنازة نيلية على امتداد النهر أمام مدينة الأقصر، وقد تجمع عشرات من رجال الإعلام ومصوري الصحف والتلفزيونات ووكالات الأنباء العالمية لتسجيل الحدث الفريد حتى وصل إلى مقره الأخير وسُجِّي داخل تابوت زجاجي شفاف وسط قاعة مهيبة في ملحق جديد لمتحف الأقصر أطلقوا عليه اسم «أمجاد طيبة».

وعلى الرغم من كل مظاهر الموت بالمومياء فإن إحساسًا بالراحة يبدو للبعض في وجه الجسد المسجى في قاعة العرض.. وصوت مواطن مصري يردد «هواء الغربة يميت القلوب». 

رياض توفيق 




تابوت الملك فوق سفينة القيادة في موكب جنائزي على سطح النيل أمام مدينة الأقصر.. عاصمة مصر القديمة





مومياء رمسيس الأول.. متحف الأقصر





الملك العائد.. حمله أبناء الشعب فوق الأكتاف





جنازة رمسيس الأول تحولت إلى جنازة شعبية للملك العائد من الغربة





الجنازة العسكرية للملك العائد تخرج من معبد الكرنك