أحمد الدعيج.. الغائب الحاضر!

يقول قاموس المثل الشعبي «من خلّف ما مات»، فهل كانوا يقصدون بالخلفة هنا مجرد ولادة الذرية الصالحة المجسّدة على الأرض وفي الحياة الدنيا استمرارًا لحضوره، ودواما لوجوده الفاعل في عمارة الأرض؟!

أزعم أن «الخلف» الوارد في سياق المثل الآنف ذكره: يتضمن كل تركة المرحوم وإرثه، في شتى ميادين عطائه وفعله، فضلا عن إرثه في بنك الصداقات والعلاقات الإنسانية الحميمة!

والصديق النسيب «أحمد علي الدعيج» أشعر أنه حاضر في حياتنا اليومية الوطنية والإقليمية والعربية، قابلته أول مرة بقسم البعثات بإدارة «المعارف» وهكذا كان اسمها في الخمسينيات. كان نجمًا مشهورًا كبطل الكويت لسنوات متعاقبة في تنس الطاولة، وهي لعبة تبدو هيّنة، لكنها تحتاج إلى قدرات ذهنية وقدرات عضلية متناغمتين مع أصول الكر والفر، ومفاجأة الخصم «بشوطة» قاضية من حيث لا يحتسب!

كان في قسم البعثات إثر زيارته البلاد بعد سنته الدراسية الجامعية الأولى المكرسة لدراسة اللغة الإنجليزية، وسنعرف لاحقًا كيف صار «بو زياد» يوظف الإنجليزية ببلاغة وقدرة أي أكاديمي أو مثقف بريطاني صرف وقح! وفي هذا السياق: سمعت الكاتب الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين يقول إنه حين يسمعه يتحدث اللغة الإنجليزية: الرصينة المترعة بالمعرفة والثقافة، المسلحة بالقدرة على التحليل العميق، والمدججة بقدرة مدهشة على الرؤية والاستشراف: يخاله يصيخ السمع إلى محاضر أكاديمي بريطاني ضليع في اللغة، موسوعي الثقافة والمعرفة، ولأني أعرف الصديق الصدوق والإنسان الجميل «أحمد الدعيج» عن قرب وكثب، أحسب أن أستاذنا بهاء الدين لم يتجاوز الحقيقة، ولم يصفه بما هو ليس فيه!

إن قارئ رسائله المتبادلة بين جده العم الحاج (محمد علي الدعيج) ووالده العم «علي» رحمهما الله يعرف سيرة التكوين الثقافي والعلمي والمعرفي الذي كابده صاحبنا ليتميز على أقرانه في الدراسة - خصوصًا في اللغة الإنجليزية، فضلاً عن قدرته على المعيشة والحياة في بلد أجنبي غربي مسيحي، من دون أن يفقد ظله وهويته وشخصيته.

استجابة لتحدي الغربة من رسائله!

إن هذه الرسائل الحميمة المتبادلة بينهم هم الثلاثة (جده ووالده وهو) يمكن أن تكون مادة ثرية لأطروحة ماجستير أو دكتوراه، أو للاثنين معًا تتمحور - مثلا - حول الآثار التربوية والنفسية والاجتماعية الناشئة عن وجود إنسان عربي مسلم قادم من مجتمع محافظ، في بيئة غربية تختلف قيمًا وعادات وتقاليد.. إلخ عن بلده.

إن استجابته لتحديات اللغة، والغربة، والصدمة الحضارية، ومرض الحنين إلى الوطن، وفراق الأحبة من الأهل والأقارب والأصدقاء، وما إلى ذلك - تدل على أننا أمام إنسان متصالح مع وطنه، وموطن غربته ومع نفسه!

وفي عقد الخمسينيات كانت إدارة المعارف كريمة ومتسامحة مع المبعوثين، فيمكن لطالب البعثة أن يضيع وقته، ويهدر المال النفطي العام، جراء نقله من دراسة إلى أخرى، ومن تمديد بعثته كما يشاء، وتغيير تخصصه، على كيفه ومزاجه!

ومن هنا: فإن القلة القليلة من المبعوثين بمعيته - آنذاك - الذين تمكنوا من الالتحاق بجامعة عريقة، والعودة إلى الديرة متأبطًا الشهادة الجامعية المشرفة.

كثيرون من أقرانه عادوا متأبطين شهادة بريطانية موثقة تفيد بحصول «طالب القرب» على زوجة بريطانية، وشهادة «لا إله إلا الله» ولسان حالهم يقول: «العوض ولا القطيعة»، وربما ليتميزوا عن أخينا «حنين» الذي عاد «بخفيه» فقط لا غير! ولااعتراض لنا على اختيار المرء لشريكة حياته من أي مكان كان، كل ما شئت قوله هو أنه من القلائل الذين لم يفعلوها رغم خشية أهله من أن يتأبط الشهادة بيد والعروس بيد أخرى! سيما وأنه كان «عريس لقطة» وسامة وأناقة وجاذبية، وحضورًا طاغيًا حرّض الأميرة «مارجريت» على الرقص معه في حفل عام وهي شقيقة الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا العظمى!

وقامت الكويت - يومها - ولم تقعد!

كيف يرقص ابن الأسرة الكبيرة المحافظة مع غربية «نصرانية» جهارًا نهارًا، وعلى الرغم من كل الضجة المثارة: لم يقل عنه «المطاوعة» أتقى عباد الله في كويت الخمسينيات كلمة سوء واحدة، لعلهم قالوا «الله يهداه» بس! لم يهدر دمه! لم يطالب أحد بحبسه ومصادرة جواز سفره، لم يزندقه أحد، ولم تكفره جماعة، وصارت الواقعة مجرد ذكرى لأخينا في أرشيف حياته وألبوم صوره الفوتوغرافية!

كان المجتمع آنذاك متدينًا محافظًا، لكنه لا يعرف التشدد الذي يصل إلى حد مصادرة حرية الآخرين عباد الله الذين ألهمهم المولى سبحانه فجورهم وتقواهم.

وقد قرأت رسائله المذكورة، ولفت نظري أنه لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وسطرها في رسائله إلى أبيه وجده.

فتارة يحدثهما عن زياراته العديدة للبرلمان، ويشرح لهما ماهيته وجدواه وعلاقة البرلمان بالحكومة وبالملكة.

إن تواصله مع ذويه وأصدقائه تواتر طوال سني حياته، ولم يقتصر تواصله على الرسائل البريدية، بل إنه كثيرًا ما كان يصل أهله برسائل صوتية مسجلة على أشرطة «بكرات» متعددة الأحجام، وكانت الرسالة الصوتية كأنها واردة من مراسل صحفي إذاعي يصف النشاط الطلابي لرابطة الطلاب الكويتيين في بريطانيا وهو أحد أقطابها، ثم يعرج على ما شاهده من أفلام ومسرحيات مفسرًا محتواها متمنيًا - على الدوام - أن يجد في بلاده ذات يوم: البرلمان، ودار الأوبرا، والمسارح، ومؤسسات المجتمع المدني، وغير ذلك من عادات وممارسات حضارية، وتقدم صناعي تكنولوجي فضلاً عما يصادفه ويمارسه ويلاحظه: من عادات، وتقاليد، وقيم إنسانية حضارية، حرية بالتأسي والتقليد والتجربة، إنه هنا - عبر رسائله إلى ذويه - يذكرنا - بمعنى من المعاني - بتجربة الشيخ الفقيه الأزهري «رفاعة رافع الطهطاوي» الذي رافق أول بعثة دراسية جامعية إلى باريس في القرن التاسع عشر، حيث أرسله «خديوي» مصر إمامًا ومرشدًا للطلبة إبان دراستهم هناك، وقد وثق الشيخ «الطهطاوي» رحلته الباريسية في كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» إن تجربة الاثنين تمثل استجابة كل منهما للصدمة الحضارية التي جاهداها في بلاد الفرنجة.

والعبدلله يظن أن رسائل «أبي زياد» إياها يمكن أن تكون بمنزلة «الدليل الذكي للمبعوث الطالبي العربي» في بلاد الفرنجة، لأنها: توضح أنه في مقدور الطالب العربي، الموجود في بيئة مغايرة للبيئة القادم منها، أن يعيش فيها على تماس بأهلها، ومعايشة لطقوس الحياة اليومية «الحلال»، دون أن يفقد توازنه، وهويته و«يغترب ويتبرطن = نسبة إلى بريطانيا»! إن كل ما أعجبه في بريطانيا بعامة، وفي لندن بخاصة: تمنى وجوده في بلده، وفي الأقطار العربية الشقيقة التي تحتاج وتفتقد إليه.

ولعل البرلمان البريطاني العريق: واحد من أهم المؤسسات التشريعية التي شدت انتباهه، ولفتت نظره، ولذا كان من البدهي أن يسعد ويتمنى وجود مثل هذا البرلمان في بلده كغيره من المثقفين والتقنيين والمتعلمين في الديرة، وقدر له بالفعل أن يشهد - إبان حياته - ولادة الدستور، وتنظيم القضاء، ومجلس الأمة، ومجلس التخطيط الذي سيكون مديره العام في عصره الذهبي حين كان يترأس جلساته أمير البلاد الراحل.

إن خواطري عن «أبي زياد» تتداعى من الذاكرة، دون الرجوع إلى أي تسجيل صوتي، أو وثيقة مكتوبة، لأن زفير الحب والود يحدث عفويًا، من دون حاجة إلى أي عوامل مساعدة، حسبي أن أطلق لذاكرتي ومشاعري العنان!

الميت الحي يتوسط لنا!

أثناء سفراتي العديدة إلى القاهرة وتونس والمملكة المغربية، أشعر بأن الرجل حي يرزق، وحاضر بشخصه، ولم يرحل عن هذه الدنيا بعد!

فكم هي المرات التي حظينا فيها بمعاملة خاصة، لمجرد أننا أصدقاء وأنسباؤه.

نكون في مدينة مراكش- في عز موسمها السياحي الشتوي - فنجد نزلاً يلمنا، بكل ترحاب، بينما بقية السياح القادمين إلى المدينة دون حجز مسبق، يعانون الأمرّين لأنهم - لسوء حظهم - لا يعرفون «أحمد الدعيج» رحمه الله.

وقد سمعت أغليبة الإداريين والرؤساء والموظفين والعمال وغيرهم في سلسلة فنادق المجموعة بالمغرب يدعون له ويذكرونه بالخير، لأنه - من خلال مشروعات المجموعة العقارية الكويتية - أوجد لهم عملاً دائمًا يعيشون منه عيشة كريمة.

إن المهرجان الثقافي المغربي الشهير لمدينة «أصيلة» بدأ خطواته الأولى وتأسس بدعم من «أبي زياد» وسي الحبيب الفاسي النهري رحمهما الله، فقد تكفلت المجموعة الكويتية المغربية مالكة فنادق سفير في المملكة المغربية بدعم المهرجان أثناء سنواته الأولى.

وكان بعض الكتاب الصحفيين المغاربة (يعيبون) على المهرجان حصوله على دعم مادي من مؤسسة «بورجوازية رأسمالية نفطية» قد تجيز المهرجان وأنشطته لفائدة مصالحها الاستثمارية!

وثمة مقولة بسيطة لكنها حكيمة جدًا يقول فيها «رحمه الله»: إن الكويت مثل آبار ماء وسط واحة في فضاء فقير، يعج بالجماعات المحتاجة إلى المدد والمعونة، فلكي نحافظ على واحتنا لابد من أن نمنح إخوتنا المحتاجين بعض ما في حوزتنا، ذلك أننا إذا لم نفعل ذلك فسوف يتم غزونا وهلاكنا وضياعنا وما نملك! ومع الأسف الشديد على الرغم من سداد رأيه فإن الغزو الصدامي قد حدث!

والموال الذي كان يردده كثيرًا بحسرة شديدة، يكمن في أن توصيات مجلس التخطيط، التي سطّرت بعد حوار ودراسات، وبحوث ونقاش، تدلل عليه أرشيف وأضابير محاضر جلسات المجلس الذي استشرف مستقبل الكويت واستبق الزمن بوضع الخطط والحلول لكل التحديات التي كانت تجابه البلاد، وسوف تجابهها مستقبلا!

وحين نعاين حضور التخطيط في كل شئون حياتنا اليومية نجده «يوك» ذلك أننا في أحسن حالاتنا نخطط يومًا إثر آخر، على أحسن تقدير!

حاضر وقت المحن!

وحضوره يتجلى كذلك، كلما وقعت الديرة في محنة، فكنا نقول: كيف كان سيتصرف لو أنه كابد محنة الغزو والاحتلال؟ كان يتوجس خيفة من عراق صدام أكثر من غيرها! وكان من القلة القليلة التي عزفت عن نظام صدام ولم تعزف أو تطبل له.

والمدهش في هذا الإنسان الجميل أن يوم غيابه المفاجئ كان أكثر أيام عمره حضورًا في وجدان الناس وذاكرتهم، ولعلي لا أغالي حين أنوه: بأن أغلب سكان الكويت على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم وقبائلهم وجنسياتهم وأديانهم.. إلخ، حاضرين في المقبرة ساعة الصلاة عليه، وأداء مراسم الدفن والعزاء.

وجدت كل الأزياء العربية والأجنبية تصطف في طوابير طويلة يشدها إلى بعضها البعض رباط الحزن الشفيف اللائق بإنسان محب لوطنه وأهله وبني جلدته وإخوته عربًا ومسلمين.

ومازالت كلمة صاحب السمو الراحل الشيخ جابر الأحمد رحمه الله ترن في أذني وتسكن ذاكرتي حين سمعته في (ديوان الدعيج) معزيا الأسرة بالفقيد الغالي: (إن فجيعتكم - يا آل الدعيج - في فقد الأخ أحمد هي فجيعة للوطن كله)، ثم راح - سموه - يطري مناقب الفقيد، وقدراته وعطائه للوطن، ومادمنا جئنا على سيرة العزاء أود الخوض في مسألة ما كنت أود ذكرها أبدًا.. لولا أن الرجل يستأهل من أصحابه وأصدقائه ومريديه تنفيذ ما صرحوا به من اقتراحات طيبة مكرسة لتكريمه بصيغة «صدقة جارية حضارية» تليق بسلوكه وعقله وتفكيره وأخلاقه وشخصيته، كأن يكون هناك «كرسي جامعي» يحمل اسمه في إحدى الجامعات العريقة.. أو وديعة تخصص لطلاب الدراسات العليا، أو أي صيغة أخرى لتخليد ذكراه العطرة، وبخاصة من قبل الفئة التي أثرت و«ترأسملت» بفضل «أبي زياد» ومساعدته.

لقد لحسوا كل وعودهم التي لاكوها في مجلس العزاء.. وتناسوها حين تضخموا وذاع صيتهم.. وباتوا أشهر من نانسي عجرم ومن لف لفها الفتان!

ما علينا منهم، حسبة ذلك المشهد الجماهيري المهول الذي ملأ المقبرة في ذلك اليوم المترع بالحزن للغياب «التراجيدي» المفجع المفزع المفاجئ، ولولا خشية الاتهام بالجنون والخرف والمبالغة لقلت - بصريح العبارة - لقد غبطته على موتته! بالتحديد: على رصيده الفلكي من حب الناس له، الذين يعرفونه عن كثب والذين سمعوا به وعنه.

والإنسان لا يغبط في يوم موته! لكن مجلس العزاء في «أبي زياد» الذي بدأ في المقبرة، وتواصل في الديوانية بذات الزخم والزحام الشديدين والحزن النبيل، يستأهل الغبطة! ثمة مواطن مصري يسأل صاحبه: هوه اللي مات واحد من الأمراء؟! الحق أنه أمير بالمعنى المصراوي للكلمة! فحين يقول الإنسان المصري عن إنسان بأنه: «أمير»، فهذا يعني أنه: أمير بكرمه، وتواضعه، وصلته بأهله وأصدقائه والعاملين معه، فضلا عن جبلته الإنسانية المتجلية في علاقته بالآخرين. وقد سمعت العديد من أقاربه وأصدقائه ومريديه يقولون بملء أفواههم يوم رحيله: لقد تيتمنا بعدك يا أبا زياد!

هذه الكلمة ناح بها - وهو يبكي بشدة - الصديق «عبدالحميد الصايغ» حتى خلته - رحمه الله - في حسينية.. لا في مقبرة الصليبيخات!

ولعل هذه المقولة تختزل ببلاغة شديدة: مشاعر الكثيرين من ذويه وأصدقائه ومريديه والعاملين معه، والأخ «الصايغ» رحمه الله وغفر له كان صديقًا قديمًا له، وعمل بمعيته حين كان «أبو زياد» يترأس المجموعة العقارية الاستثمارية.

عروبية

والمجموعة قوامها عناق مشترك بين الحكومة والقطاع الخاص.. ليسهم الأخير مع الحكومة في تنمية الأقطار العربية الشقيقة في مجال التنمية السياحية والإسكانية.

فقد كانت السياسة والآمال التي يعقدها على المجموعة حريصة على أن يستفيد المواطن العربي العادي في مصر المحروسة وتونس الخضراء والمغرب «المزيان بالزاف» من مشروعات المجموعة في ميدان العقار والإسكان. في مصر كان يريد - بدعم من رئيسه العم «بو أنور عبدالرحمن سالم العتيقي» وزير المالية آنذاك - أن يحول «عشش الترجمان» إلى مشروع استثماري عقاري طموح يفيد منه سكان العشش بمساكن تليق بآدميتهم وحضارتهم ذات السبعة آلاف سنة.. وتحيطها المدارس والمستشفيات والمساجد والمجمعات التجارية، ودور السينما والمسرح... إلخ.

وبما أن مصر هي أم الدنيا الروتينية، فضلاً عن أن الذي بنى مصر «كان في الأصل حلواني وجد صاحبنا العقبات والعراقيل والروتين القاتل لأي مشروع.. لم يتحقق الحلم بإزالة العشش بجرة خطة تنموية حضارية تليق بذوق «الحلواني» الذي بنى مصر وتروق له.

ولكن حفدة الحلواني إياه يريدون «الحلاوة» لتكون في جيوبهن، ولا بأس على سكان العشش أن «يعششوا في مكانهم لا يبرحونه! كان يؤمن بأن إمكانات الاستثمار في مصر ثرية ومتنوعة، وأن فيها مناطق سياحية بكر تستأهل أن تتوجه إليها رءوس الأموال العربية النفطية.

ولعله من أوائل الناس الذين حثوا القطاع الخاص الوطني والعربي على خوض غمار العمل في مجال الاستثمار السياحي والعقاري في الأقطار العربية السياحية.

وكانت مهمته صعبة جدًا، فقد كان عليه إقناع الحكومات والفاعلين في قطاع الاستثمار الخاص بجدوى هذه التجربة وضرورتها، فحين يكون في حضرة حكومة عربية سياحية - ممثلة برئيس حكومتها أو الوزير المختص بالاستثمار - تجده يلعب دور المحامي عن حقوق المستثمرين، وضرورة إيجاد السبل والتشريعات التي تحرضهم على الاستثمار، دون خشية تأميم تعسفي «يبلع» الأخضر واليابس، بجرة مرسوم «ثوري» فوقي، يلحس كل وعوده وعهوده، دون أن يرف له جفن العدالة، وحقوق المساهمين في التنمية السياحية وغيرها! أما إذا كان بمعية أصحاب رءوس الأموال الخاصة تراه يتحول إلى بشر عروبي شديد الحماس في شتى المناحي، سيما أن الدول السياحية العربية تتوفر على ميادين استثمارية بكر، ولم تطأها بعد أي مجموعة رأسمالية خاصة، مثل «صحراء سيناء» في مصر المحروسة، والفضاء البكر المشابه الموجود في الجمهورية اليمنية، والجمهورية التونسية، والمملكة المغربية.. وغيرها.

ولم يكن تبشيره، ودعوته إلى الاستثمار الحكومي والخاص، في الأقطار العربية الزاخرة بمجالات الاستثمار، يتكئان على مشاعره العروبية فحسب، بل إنه كان يردفها بما يشبه دراسة الجدوى الاقتصادية لهذه التجربة الفريدة.

ولا أذكر أني قابلت الاستاذ «عبدالعزيز حسين» رحمه الله إلا وجدته يحثني بإلحاح على إنجاز كتابي عن «الفارس العروبي» أحمد الدعيج وكلما جاءت سيرته في سياق أي حديث بديوانه الصباحي أثنى على مناقبه وقدراته وعطائه، ولعل إيراد شهادته التي كتبها خصيصًا للكتاب المزمع إصداره، وحالت ظروف شتى دون ذلك، خير دليل لما ذهبت إليه، والشهادة: جامعة ولا تحتاج إلى تعليق، يقول العم «بوهاني» رحمه الله «الجرأة في التفكير، والقدرة على التعبير عن وجهة نظره، أهم ما تميز به أحمدالدعيج خلال الفترة التي تولى فيها مسئوليات أعطاها من شخصيته طابعًا متميزًا وفريدًا.

كثيرًا ما تكون الجرأة في الرأي مدعاة للصدام مع الآخرين، ولكنها كانت - من أحمد - مدعاة للتأمل والنقاش والوصول إلى مرفأ جديد في البحث عن أساس متين يقوم عليه بناء جديد.

قليلون أولئك الذين جمعوا بين هذه السمة وبين هذا العدد الكبير من الأصدقاء والمحبين الذين مازالوا يحسون بمكانة الشاعر بينهم، سمة أخرى رافقته في حياته وطبعت أعماله هي: الإتقان. هذه الصفة انعكست عليه في تصرفاته الخاصة وعلاقاته مع العمل، وإنجازاته: فكل مشروع يتناوله يجب أن يصل إلى الكمال في تنفيذه، فالحلول الوسط معيبة إذا رضينا بها بديلاً من الحلول المثلى، والجهد في سبيل إتقان العمل متعة مهما تنامت الصعوبات، والرغبة في الإتقان تعني لديه التطلع إلى المستقبل البعيد، وما تحمله الأيام من تطورات، وتعني النظام وما نحصل عن طريقه من الإفادة من كل الفرص المتاحة، وتعني الطموح إلى التميز والإبداع.

كان يؤمن بالكويت ودورها العربي والدولي، فإسهامات الكويت الاقتصادية في العمل العربي يجب أن تتم من خلال أعمال تحفر بعمق في صخور العلاقات العربية الدائمة والمستقبلية، أما الإسهامات الطارئة والشكلية والعابرة، فإن الرياح تذروها مع الأيام، ولا يجوز عند النظر في دور الكويت الدولي أن نتواضع بسبب حجم الكويت الجغرافي والبشري، بإمكاننا أن نكون أصحاب رسالة عالمية عن طريق العلم، والثقافة وتعميق المفاهيم القومية والإنسانية والتعبئة الكاملة في حشد الطاقة الوطنية. وفي بلد كالكويت: كان يرى اختيار القيادات الشابة وإعطاءها المسئوليات المهمة سبيلاً إلى إبراز الكفاءات القادرة بدورها على اختيار الأكفأ.

هذا التسلسل يقودنا إلى تكوين الإدارة ذات الكفاءة العالية التي تستطيع إنجاز العمل بالإتقان المطلوب.

عرفت أحمد الدعيج في مطلع شبابه: قارئًا وباحثًا في الحقائق وتواقًا إلى المعرفة قادرًا على اكتساب الأصدقاء، ومؤثرًا في بيئته صغيرة أو واسعة.

وقد اختاره الله إلى جواره وهو في قمة نضوج الشباب يحتفظ بكل هذه السمات ويعمل على تنميتها وتعميقها ونشرها، والعطاء من خلالها لوطنه وأمته.. رحمه الله.

وهذه الشهادة التي دبجها يراع عمنا وأستاذنا، عبدالعزيز حسين، رحمه الله، سمعتها بتنويعات مختلفة متناغمة مع الشهادة العطرة التي ذكرت آنفًا.

ولو امتد العمر «بأبي زياد» إلى عام 2006، لوجد أن استشرافه المدهش، لمستقبل الاستثمار في الديار العربية، قد تحقق على الأرض: قرى سياحية وفنادق شتى مختلفة المستويات، ومشاريع إسكانية ضخمة فيها السكن الفخيم، والمنزل المتوسط، والشاليه البسيط المناسب لعامة الناس أصحاب الدخول المستورة المستوى كالموظفين والشغّيلة التقنيين ومن لف لفهم، وثمة دول وحكومات لم تنس لك دورك الريادي في الاستثمار العروبي، فثمنت جهودك بصيغ رمزية تجلّت بوسم اسمك على بعض الشوارع، والأماكن العامة، أما في بلدك فحسبك سيرتك العطرة تترى وتتواتر على ألسنة من يعرفون دورك في مجلس التخطيط، وفي المجموعة العقارية الاستثمارية!

وقد قام «بوزياد» من شدة ولعه بالسماع والطرب العربي الأصيل بتوثيق أبرز الأعمال الغنائية التي تمت في ثلثي القرن العشرين. وقد أسهم في هذا الإنجاز الفني الرفيع صديقه وعديله الأخ «عدنان هاشم البدر». والظريف في الإنجاز أنك تسمع الكلثوميات والوهابيات وغيرهما غناء بالآلات الموسيقية التي حلّت مكان المطرب والمطربة فأبدعت وأطربت من دون حدود.

لمع المشروع في ذهن «أبي زياد» ساعة تجلٍّ إبان الزمن الذهبي «لكازينو المناخ» السيئ الذكر، لم لا يستخدم بعض السيولة المالية المتوافرة لديه وبعض أصدقائه الحميمين ويوظفها توظيفًا حضاريًا عله يغطي سوءة السفه الذي شاع أيامها في إنفاق أموال المقامرات والمغامرات كأن يهدر أحد محدثي النعمة مائة ألف دينار في نار وجاق تنضح بكم «تولة» من البخور الفاخر!

وكان بعض محدثي النعمة يتباهون في حفلات الإسراف المسف، ويتبارون فيه، آنذاك نفذ المشروع ولم يبخل عليه بحيث تجلت فيه قيمة الإتقان التي يحرص عليها صاحبنا في كل فعل يمارسه وينجزه.

التوظيف الحضاري للمال النفطي كان أحد همومه وهواجسه، ليس على مستوى الحكومات فحسب، بل إنه يشيع سلوكًا وممارسة لدى المواطنين الميسورين، ومن هنا كان شديد الغبطة حين قام الشيخ ناصر صباح الأحمد وحرمه الشيخة حصة صباح السالم بإنشاء «دار الآثار الإسلامية» وقد أشاد بالمبادرة كتابة وكرّس لها مقالته الأسبوعية التي كان يكتبها في جريدة الوطن، وقد حرض بقية الميسورين في الخليج والجزيرة العربية على التأسي بفعل الاستثمار الحضاري للدينار النفطي كما فعلت الشيخة «حصة صباح السالم» وزوجها «أبو عبدالله: الشيخ ناصر صباح الأحمد» جزاهما الله خيرًا لأنهما قالا للعالم كله عبر مقتنيات دار الآثار الإسلامية ومعارضه الدولية الجوالة بأن الكويت، ومن ثم الخليج ليس نفطًا ولكن تجلياته التنموية الحضارية تدب على الأرض عمارة للبلاد والعباد.

إن «أحمد علي الدعيج» رحمه الله وغفر له حاضر ومتربع في وجدان جميع أصدقائه ومريديه، فضلاً عن زملائه الذين عملوا بمعيته، وحاضر بفعله وإنجازاته في الأضابير التي تضم محاضر جلسات مجلس التخطيط إبان عصره الذهبي الفاعل حين كان يضم خيرة العقول ذوي القدرات الفذة، والخبرات المدهشة الوطنية والعربية على حد سواء.

وهو حاضر - أيضًا وأيضًا» - في قاهرة المعز وتونس الخضراء واليمن السعيد، والمملكة المغربية، وغيرها من خلال إنجازات الجموعة العقارية الاستثمارية الكويتية التي ما برحت قائمة دلل على حضوره وريادته في ميدان الاستثمار السياحي والعقاري في الأقطار العربية الشقيقة كما نوهت بذلك آنفًا. نعم «من خلف ما مات» وصاحبنا - رحمه الله - خلف إرثًا ثرًا متنوعًا من الحب والتواصل والود المتبادل بينه وبين أهله ومريديه الكثر المنتشرين في كل العواصم العربية والإسلامية وفي العديد من الديار الأجنبية.

أما إرثه في الفعل والإنجاز لوطنه ولأمته فإنه حاضر حتى الآن، وكأنه «شاهد» قبره الذي رفع جسده الفاني تحفه السيرة العطرة المترعة بالعطاء والإنجاز كما جسدتها ببلاغة شهادة العم الأستاذ «عبدالعزيز حسين» رحمه الله.





أحمد الدعيج





أحمد الدعيج - أقصى اليسار - بصحبة رفاق الجامعة





الدعيج بمدينة بورتموث عام 1957 ببريطانيا





الراحل يتوسط ابنتيه عالية وسامية