لسميرة وأخواتها وهواجس المرأة

لسميرة وأخواتها وهواجس المرأة

استطاعت الكاتبة الكويتية فاطمة يوسف العلي في مجموعتها الجديدة «لـسميرة وأخواتها» أن تحقق إنجازًا جماليًا ومعرفيًا وذلك من خلال صياغات جديدة لاستنطاق المسكوت عنه في حياة المرأة العربية.

لقد أثارت الكاتبة مجموعة من الإشكاليات والأسئلة، وقد ساعدها على ذلك مخزون هائل من الخبرات الحياتية، ثم توحدت الهموم فأصبحت تستوعب المرأة العربية في أي قطر كانت، ويبدو أن مرحلة النضج الفني وخبرات الكتابة والتجربة الخصبة، كل ذلك أسهم بشكل واضح في الوصول إلى هذه الدرجة من التميّز، وهذا يدعونا إلى الاشتباك النقدي مع هذه القصص التي يجب أن تحظى بنوع من الغربلة النقدية، فهذه القصص تثير أسئلة مهمة وتتضمن في نسيجها إشكاليات جمالية ومعرفية يجب الكشف عنها، فالكاتبة أرادت هذه المرة أن تغامر وتسبح في محيط التجريب والتحديث ومن ثم قدمت لمشروعها هذا في قصتها الأولى التي تحمل عنوان «في قاعة المحكمة»، فالشخصية المحورية في هذه القصة «وعد» متهمة، والاتهام موجه لها كما نرى.

«- يا وعد، قولي لهم، قولي لهم يا وعد، ماذا فعلت بالحروف والكلمات والجمل، أنت تعلمين فعلتك النكراء، وتطاولك على حمرة الخجل اللغوي وتعبثين في اللغة بحجة التجديد وأنت تعلمين أن التجديد في اللغة قمة الهذيان، حتى لا يستطيع أحد أن يمسك فيك كتفًا أو رجلاً، أنت متخمة بالتهيؤ يا وعد، الآن ارتفعي إلى مستوى نخاعي، وارفضي الاتهام».

قضية اللغة

الكاتبة تطرح قضية اللغة التي هي أساس كل تجريب وتجديد وهما في نظر البعض مجرد هذيان، وهذه هي القيمة الجمالية التي تثيرها القصص، أما القيمة المعرفية المقترنة بها فتكشف لنا على لسان القاضي وهو يخاطب «وعد».

«- تحدثي يا وعد، حذار أن تلعني الفساد وتهاجمي البلاد، وتنتقدي الأولاد والعباد، تناسي القهر والشهر والمهر، والحرب والدرب والكرب، وكل ما مال، فالمال سال، والحال في أفضل حال، وننعم براحة البال، بعد أن نفذنا والحمد لله طلبات أم العيال».

هكذا تكون القصة الأولى في المجموعة هي المفتاح للقصص الأخرى جماليًا ومعرفيًا، وكما أبحرت الكاتبة وغامرت فإن المتلقي مدعو إلى المغامرة، فهذا حقه أيضًا، لقد انتقلت السلطة من المؤلف إلى النص، وإلى القارئ، فهو مستودع الخبرات ومصدر التأويلات والمشارك في صنع الدلالة.

تحاول الكاتبة أن تطرح إشكالية جديدة تصدم بها الجميع وتكسب بها أرضًا جديدة للمرأة وهي ارتباط اللغة بالأنثى، وهذا ما جاء في دفاعها أمام المحكمة.

«- وحتى لا أطيل على عدالة المحكمة، ألخص دفاعي عن قضيتي التي لا يملك مثلي الدفاع عنها، أن تسمح لي عدالة المحكمة بأن أجمع عنفوان الشباب لهذه اللغة، إنني سيدي القاضي أعلم باللغة من أهلها، أنا التي حملتها في رحمي ترنيمًا وغناء وكلامًا وحديثًا شفهيًا، وربيتها بعد الإنجاب، حتى استطاب نغمها واستجاب، لكل الأحباب، ونقلتها من مهد الملفوظ إلى المكتوب بصفو السحاب، واغتصبها الرجل مني باستبداده وسرقها، اللغة في الأصل كانت في دفتر حسابي تعاتبني وأعاتبها إن جاز عتابي، وأقربها وتقربني إن غاب صوابي».

حقوق المرأة المسلوبة من جانب الرجل، هي القضية التقليدية في العلاقة بين الرجل والمرأة، لكن أن يسرق الرجل اللغة التي هي ملك الأنثى ويسطو عليها هنا تكمن الإشكالية، نحن بصدد قضية جديدة، فالأمر يتجذّر في البحث عن أصل الأشياء، اللغة هي الأصل والصراع بين الرجل والمرأة على من يملك اللغة، وهنا تقرر الكاتبة أن المرأة هي صاحبة الحق لأنها تمتلك أم الأشياء ألا وهي اللغة، وهنا يتداخل المعرفي مع الجمالي وتنصهر الفكرة مع الصورة، ويتوحد المبنى مع المعنى، وإذا كانت هذه السمة هي الأكثر شيوعًا في المجموعة، فهناك أيضًا مجموعة من السمات والظواهر الفنية التي تحتفي بها القصص.

قصص طويلة ومكثفة

تميل القصص إلى الطول نسبيًا، ومعظمها يزيد على عشرين صفحة، وعلى الرغم من هذا الطول النسبي فإنه لم يفقد القصة القصيرة تقنياتها من حيث التكثيف والتركيز وأسلوب صناعة الأزمة، فالقصة القصيرة هي فن صناعة الأزمة والعزف على أوتار الفكرة الواحدة، كما أن معظم القصص تتسم بوجود المرأة كشخصية محورية، هي المرتكز الذي تدور في فلكه الشخصيات الأخرى وتنسج من خلاله الأحداث، فالمرأة هي اللغة التي تتفجر والجذر الذي يتفرع وأصل كل الأشياء.

في القصة عنوان المجموعة «لسميرة» تبرز الكاتبة دور المرأة المتمردة والمسكونة بالقلق الوجودي، المرأة المهيمنة المسيطرة التي تفرض على كل صديقة حرف الهاء بداية لكل اسم فهي هيفاء، ولابد أن تبدأ أسماء الصديقات بحرفها الأول، إن نزعة الامتلاك عند هيفاء لا تفرق بين رجل وامرأة، فهي تشتهي امتلاك كل شيء، هي «ليليت» المرأة الأسطورية التي تتسم بالنرجسية والذاتية المفرطة كما أخبرتنا الميثولوجيا.

وقد جاء على لسان هيفاء التي تمثل ليليت، وتتماثل معها:

«- مالي هكذا أحاط بالحكماء؟ كلكم أسوياء، كلكم أبرياء ولا أحد سواي أنا وحدي من يكره الفقهاء، أنا وحدي من يجيد التشنج والبكاء».

إنها لا تنجذب للحياة الهادئة الرتيبة المستقرة ولا يستهويها السكون، فهي المرأة العاصفة التي تشتعل فتحرق الآخرين وتحرق نفسها، لا تغوص في جوهر الأشياء، فالقشرة الخارجية تأسرها دون محاولة الولوج إلى الجوهر.

استطاعت الكاتبة، من خلال توظيف السارد الغائب العليم ، كشف واكتشاف هذه الشخصية، المرأة النمرة.

كما نجحت الكاتبة في صياغة مقاطع فنية أفقية متوازية كانت بمنزلة مجموعة من المرايا انعكست على سطحها لقطات متعددة للشخصية، فتألقت اللغة بجموحها الشعري لتكمل الدائرة الفنية، ومنها هذه المقاطع:

«الزواج أحلام نبوية،أغنيات تقطر برعشة الفراشات، وحين يكون العشاء باردًا لا تنتظري ومضات الزحام».

«ما أروعه حين يلتهم الأخضر واليابس، ويطلق دبكة صهيله في الاحتضار الأخير».

ويمتد صراع الذات الأنثوية مع نفسها ومع الآخر في إطار من تناقضات الواقع، ففي قصة «شهر الطلاق» وحين يتفق الزوجان على الطلاق الاختياري لمدة شهر، وتعيش كل شخصية بمفردها حيث تتعرض لتحديات الوحدة والضياع، ومن ثم تكون العودة للوضع السابق هي ملاذ الأمان وحصن الاستقرار والوقاية من نزق المغامرة، وعلى الرغم من أن الكاتبة استفادت من مخزون الخيال لديها، إلا أن طرح الفكرة بهذه الطريقة لم يكن في صالح القصة، ويبدو أن القصة تقر حقيقة مفادها أن الإنسان لا يشعر بقيمة الشيء إلا إذا فقده.

«- كان شيئًا من الجنون ما فعلناه يا عراف».

«استسلمت يداي لحضن يديه بمنزلنا، عودتنا إليه أعادت لكلينا الوجود».

وتنتهي القصة إلى أن الغنى نعمة لم نصنها والعقل نعمة لم نحفظها.

تلك التعليمية لم تفجر اللغة كما في القصص الأخرى لأن الفكرة قد سيطرت وفرضت نفسها، أما السرد في القصص الأخرى فقد اتسم بالغضب والمرارة والرغبة الجامحة في عدم المرور على غطاء ما دون كشفه. إن وراء هذا السرد عوالم من التعاسة، والغدر، والوصولية، والقمع الذكوري، والكذب الباهر المنمق.. الرجل في هذه القصص هو المسئول عن كراهية المرأة له - لكنه - هو الكراهية والحب معًا، إذ لا غنى عنه.

دفاع عن الذات

في قصة «الموؤودة» تتعرض بطلة القصة وهي الكاتبة الهاوية المبتدئة للغواية من قبل كاتب محترف ويتحايل عليها حتى تأتي إلى مسكنه عندئذ تتلاشى قشرة الافتعال وتظهر نزوته الشاردة، ومن خلال حوار مكثف معبّر ودال مثل الطلقات السريعة تنجح الكاتبة في تأجيج حمى الصراع بينهما.

«- من يحرقه وجع الحروف، ويحط على وتر الأفئدة، ويصير أغنية للنهار، عليه أن يدفع الثمن.

- أي ثمن، أنت كذبت علي حين قلت إنني سأنضم إلى مجموعة من المتدربين.

- لا تتغابي، ما أنتن إلا جوار في المنفى.

- لا أفهمك، ماذا تريد؟

- أمرتك بأن تفكري بقلبك لا بعقلك، الأنثى قلب حين تخلطه بالعقل، يفقد طعمه الشهي.

- قلت لك لا أفهمك، دعني أرحل، ولن ترى وجهي بعد اليوم.

- ليس قبل أن أقرأ جسدك المتربّص بي».

جاء الحوار مشبعًا برحيق الشعر كاشفًا عن الأغوار النفسية لكل من الندين، الرجل مهاجمًا برغبته وحيلته، والمرأة مدافعة بقناعاتها، استطاعت الكاتبة أن توظف الجسد بصورة فنية في بعض القصص وتجعله مصدرًا لتأويلات عديدة، ويظهر واضحًا وبجلاء في قصص «لسميرة»، «شهيق وزفير»، «الموؤودة»، «قصب السكر».

وفي قصة «المجني عليها» حين تدخل المرأة عش الدبابير وتوظف أنوثتها من خلال الصراع بين رجـلـين على المنصب والسلطة عندئذ تدفع الثمن وقد يكون هذا الثمن حياتها، وفي هذه القصة يجيء السرد على لسان الراوي الحاضر.

« في موعد الغواية التي كانت، جاءت تجوب المنتهى، ذابت على بساط الندى وغابت عن اليقين، تلهو بالتواريخ، تكتب تاريخ غفوتها الأخيرة، فالموت الذي اخترته لها يكفيها الراحة».

تمزج الكاتبة العشق بالموت في مناخ عبثي في الحوار الذي دار بين القاتل والقتيلة التي كانت يومًا ما تعرفه.

«- أمهلني أشعل سيجارة.

- لا تكابري.

- أطفئني حتى أتنفس أنسامك.

- لم تعد أنسامًا.

- اطعني، في طعنتك، ألف رواء وشفاء.

- بل فيها طعم الموت.

- أمهلني، حتى أتذوق طعم الموت بماء طراوتك.

- بل مائي نار ولهب.

- ما أحلاها تلك النار.

- لا تتعجلي، لدي من أجلك، ما يكفيك ويفيض، أحضرت لك كفنًا».

في هذه القصة وفقت الكاتبة في استخدام تداخل الأزمنة، ومزج خيوط السرد بين الماضي والحاضر واللحظة المرتقبة في المستقبل، والزمن هنا معناه الحالة النفسية والوجدانية والذهنية المرتبطة بالشخصية، وهنا تتعايش مع اللحظة الراهنة. ويختلط الفساد بالسياسة في قصة «شهيق وزفير» من خلال العلاقة بين الأمين ومن عينه أي رئيسه، ويبدو أن الأمين لم يتقن سوى لعبة الشهيق لأنه يبلع كل ما هو أمامه، لم يتعود على الزفير، أي العطاء، وقد مزجت الكاتبة في الترادف بين الأخذ والعطاء وبين الشهيق والزفير، ثم بلغ الصراع بين الأمين والأعلى ذروته بسبب المرأة التي أذكته وألهبته.

استطاعت الكاتبة في هذه القصص أن تطرق مستويات متعددة من الكتابة الفنية، واتسمت اللغة بقدرتها على الترميز والتعبير، مستوعبة هواجس وتداعيات المرأة، بل لا نبالغ إذا قلنا إن البطل الفعلي هو اللغة والتي تم توظيفها وتشكيلها في إطار من السرد المتميز.

عذبْةٌ أنتِ كالطفولةِ، كالأحلام كاللّحن، كالصباح الجديدِ
كالسماء الضحوك كالليلة القمْراء كـالورد، كابتسـام الوليدِ
يا لها من وداعةٍ وجمال وشباب مُنَعَّم أُمْلـودِ!
يا لها من طهارةٍ، تبعثُ التقديـ ـسَ في مهجة الشقيِّ العنيدِ!...
يا لها رقَّةً يكادُ يَرفُّ الوَرْ دُ منها في الصّخرة الجلمودِ!


أبوالقاسم الشابي

 

فاطمة يوسف العلي