إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي

نقولا زيادة... المئوية الأولى

يحقّ لشيخ المؤرخين العرب الدكتور نقولا زيادة، الذي يبلغ بعد أشهر قليلة المئة من العمر، أن ينازع فخري البارودي أبوّته للنشيد العربي القومي الشهير: بلاد العرب أوطاني. فإذا كان البارودي قد صاغ النشيد شعرًا، فإن سيرة الدكتور نقولا زيادة تعتبر أفضل تطبيق له. فقد ولد في دمشق، ولكن لأب من مدينة الناصرة بفلسطين. وفي لبنان سيمضي حوالي ستين عامًا من حياته أستاذًا في جامعاتها وفي طليعتها الجامعة الأمريكية والجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية. وسيمضي في مصر فترة من حياته أستاذًا زائرًا في جامعة عين شمس بالقاهرة، وأستاذًا زائرًا في الجامعة الأردنية، ومساعدًا لمدير معارف برقة بليبيا زمن السنوسي. وسيكون عضوًا مراسلاً للمجمع العلمي العراقي زمن العصر الملكي. ولكن فلسطين شهدت صباه وجهده العلمي الأول. فقد مارس التعليم في مدرسة عكا الثانوية بين سنتي 1925 و 1935، وحاضر في الكلية العربية والكلية الرشيدية في القدس بين سنتي 1939 و 1947، قبل النكبة بسنة.

وقد شرّق وغرّب ووصل إلى العولمة قبل الأمريكان. فقد شوهد في جامعة عليكرة الإسلامية بالهند سنة 1971، وفي كلية كانو الجامعية بنيجيريا سنة 1976، وفي جامعة هارفرد ثلاث مرات، أستاذًا زائرًا في كل منها. وكان قبل ذلك قد نال، وهو الأرثوذكسي العربي، دكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة لندن. فقلبه إذن، صار قابلاً كل صورة، تمامًا كقلب ابن عربي.

وله كتب مطبوعة في القدس ويافا وعمّان ودمشق والقاهرة وبيروت تدور حول تاريخ العرب، قديمه وحديثه، وحول تاريخ العرب في المشرق، وتاريخهم في المغرب، فهل يمكن لفخري البارودي أن ينازله في حومة العروبة إيمانًا وواقعًا معًا؟ هذا مع الإشارة إلى أنه سار يومًا من فلسطين إلى لبنان وسورية مشيًا على قدميه. وصل اللاذقية ومنها سافر بحرًا إلى مرسين فالإسكندرون ومنها إلى أنطاكية. وكانت هناك زيارة إلى السويدية، وما إليها، وهو آخر ما مشاه مع صديقه وزميله في التعليم والإيمان بالعروبة درويش المقدادي. ولأنه فلسطيني، فقد عني بصورة خاصة بتاريخ فلسطين القديم، ففنّد أباطيل اليهود ودعاواهم في فلسطين.

قد يظن بعض من لا يعرف الدكتور نقولا زيادة أنه وهو المؤرخ، شخص متجهم الوجه تمامًا كالتاريخ. ولكن هذا الظن ليس في محله، فقد أخذ في حياته بنصيب وافر من متع هذه الدنيا، وشرب كأسها حتى الثمالة.

ولعل مجلسه لا يقلّ حلاوة عن المجالس التي وصفها أبو الفرج الأصفهاني من حيث نضارة الروح، ورقة الحديث، والإشارات الوظيفية التي تنثر الفرح أو تثير الأسئلة، وأن أنسى لا أنسى مجلسًا جمعنا ذات يوم في قصر الناشر خليل طعمة في الرابية بالمتن. كان هناك ما لا يقل عن خمسين مدعوًا مع زوجاتهم. تحلق الناشرون والأدباء في حلقة خاصة وبقربنا مجموعة من السيدات تحلقت حول الدكتور نقولا زيادة. بين الوقت والآخر تأتي سيدة بعد أخرى لتهمس في أذن زوجها حديثًا قصيرًا ثم تعود لتأتي سيدة أخرى، وتهمس الهمس نفسه. وقد اكتشف جميع الأزواج لاحقًا أن حديث زوجاتهن واحد، وهو أن الدكتور نقولا زيادة، هذا الفتى التسعيني، قد فتنهنّ، وأنه لو كان في العشرين من عمره لما نجون أبدًا منه!

وقد حدّثني مرة عن المرأة في حياته، فحرتُ كيف أمكنه أن يجمع بين المؤرخ والمهتم بالمرأة كل هذا الاهتمام في شخص واحد. وحرت أيضًا كيف يعيش هذا العمر المديد مؤرخ و«مهتمّ» معًا، وكل «مهنة» من هاتين المهنتين كفيلة بأن تقصّر عمر صاحبها. ويبدو أنه عدلَ بينهما، فحصد هذا النجاح الكبير الذي كبا دونه الآخرون!.

 

جهاد فاضل