نزعات عصر التنوير.. د. عبدالله الجسمي

نزعات عصر التنوير.. د. عبدالله الجسمي

في مقاله عن نمط التفكير الفلسفي الذي نحتاج إليه (العربي - أغسطس 2006)، تحدث الكاتب عن طرق التفكير السائدة في مجتمعاتنا، وهي طرق لا تمت بصلة إلى عصر العلم والتكنولوجيا، مخالفًا في وجهة نظره ما يراه عدد كبير من المشتغلين في حقل الفلسفة بالوطن العربي، بأن هناك «فلسفة عربية». وهو هنا، في الجزء الثاني من وجهة نظره، يقدم صورة لعصر التنوير الذي أعقب العصور الوسطى، حين كانت أوربا تتأهب للخروج من موقع ظلامها، وهو الموقع الذي قال الكاتب إننا نحتله اليوم كموقع حضاري ممهد إلى العصر الحديث.

عصر التنوير - أو الأنوار - هو العصر الذي هيمنت عليه النزعات الثلاث الإنسانية والعقلية والعلمية، والذي تم فيه إعادة تأسيس العقل الأوربي على أسس جديدة، نتيجة للتطورات العلمية والحضارية، التي جاءت بعد نهاية العصر الوسيط. هذه الأسس مثلت النقلة النوعية الحضارية التي حولت أوربا ثم العالم الغربي - وبقاعا أخرى من العالم الآن - من مجتمعات قمعية ظلامية يغيب عنها التفكير العقلاني والعلمي، وتنتشر فيها الخرافة والوهم إلى مجتمعات مدنية حضارية يحترم فيها الإنسان والإبداع العقلي الحر، وحرية البحث العلمي، وشقت طرقا مختلفة من التطور، وأصبحت تقود العالم علميًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا وسياسيًا. وبالعودة للسؤال حول أي فلسفة نحتاج؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن النتاج الفلسفي الغربي عبر - ويعبر - عن واقع الثقافة والتطور في الغرب أو المدارس الفلسفية، كما ظهرت هناك. وتطبيقها على واقعنا أمر غير مقبول، لأن الواقع الذي نعيشه والتغيرات التي حدثت فيه تختلف عما حدث هناك. لكن ذلك لا يعني قطيعة مع الفكر الفلسفي الغربي، بل يجب الاطلاع والاستفادة من هذا التراث الإنساني الضخم، والبحث في الأدوات والمناهج التي استخدمت فيه، والاستفادة منها في نقد وتحليل وتطوير واقعنا الثقافي والفكري والابتعاد عما هو مؤدلج أو يلغي دور العقل. فما نحتاج إليه في واقعنا الحالي هو نزعات عصر التنوير الثلاث الإنسانية والعقلانية والعلمية.

غياب النزعة الإنسانية

فالنزعة الإنسانية غائبة عندنا بشكل عام، فلا وجود لاحترام حقوق الإنسان على جميع الأصعدة السياسية أو الاجتماعية أو حتى الاقتصادية والعقائدية، فهناك تقسيمات عرقية وطائفية تميز البشر وتصنفهم تصنيفات مختلفة، وتقيّم الإنسان بناءً عليها، وبالتالي يحصل على ما يستطيع إذا كان ينتمي لفئة مهيمنة، أو تمنعه من أدنى حقوقه إذا كان لا ينتمي لها. كما أن مظاهر القمع السياسي والتهميش الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي، والتمييز في كل شيء تقريبًا هي المعايير السائدة في النظرة للإنسان والتعامل معه وتقييمه، ويغيب أي شكل مؤسسي يحافظ على حق الإنسان أو المواطن في وطنه، وإن وجدت الدساتير والقوانين فهي شكلية أو مفصلة على مصالح الفئات التي تحكم من أحزاب أو أفراد أو أسر. هذه التصنيفات للبشر في مجتمعاتنا لا يوجد فيها احترام حقيقي للإنسان، وأدت إلى غياب الحس والتعامل الإنساني بين الكثيرين، لدرجة وصلت إلى القتل على الهوية - كما حدث في الحرب اللبنانية - أو ظهور مظاهر التطرف والتعصب التي لا يعرف أصحابها وزنًا أو قيمة للإنسان، خصوصًا الجماعات الإرهابية منها.

وإذا جئنا للعقل فهو يفتقر إلى أبسط مظاهر الحرية. فالعقل يبنى على مسلمات غير قابلة للنقاش، أو يربى تربية دوجماطيقية، موجهة لأحزاب أو أطراف تحكم، ويخضع لأشكال مختلفة من السلطة الفكرية والسياسية، ولا يتم بناؤه حسب تفكير العصر وثقافته، إذ تعمل نظم التعليم في الغالبية الساحقة من الدول العربية على التلقين وإلغاء دور العقل في الإبداع والنقد. كما أن العقل مقيد بالعديد من الأفكار الموروثة غير القابلة للنقاش، أي تم إخضاعه لأنظمة فكرية مؤدلجة يبحث في أمور وقضايا الواقع من تلك الزاوية، ناهيك عن مظاهر التعصب والتزمّت، التي لا تعطي أي وزن للعقل. بمعنى أن العقل معطل في ثقافتنا ومحاصر إما بأفكار أو أدوات قمع ألغت أي دور له في البحث والتحليل واستكشاف ما هو جديد، فأصبح كل من يفكر بعقل حر إما شاذًا عن المجتمع، أو غريبًا عنه وعن طريقة تفكيره.

مجتمع بلا تفكير علمي

وإذا أتينا على النزعة العلمية فهذه تكاد تكون غائبة تمامًا عن ثقافتنا الدارجة. والنزعة العلمية هنا يقصد بها تلك الطريقة العلمية من التفكير التي نتجت عبر التطور العلمي منذ العصر الحديث وحتى اليوم. فالتفكير العلمي هو الأداة التي أصبح الفرد يستخدمها في التخطيط لحياته، والسياسي لمجتمعه، ورجل الأعمال لتجارته، والاقتصادي لبلده... إلخ، وهو الطريقة المتقدمة في معالجة القضايا والمشاكل التي يواجهها الجميع في مجتمعاتهم، والمعتمدة على الواقعية والتنظيم والموضوعية والتجرد من الأهواء والمصالح، والاحتكام للعقل في حلها ومعالجتها. ومع الأسف، فإن ذلك غير متحقق في الثقافة العربية التي تسود فيها طرق التفكير المضادة للتفكير العلمي بل سخر بعضهم النتائج والنظريات العلمية في خدمة أفكارهم عبر التأويلات المختلفة لها وألبستها طرق التفكير الغائية أو المؤدلجة، بمعنى إلباس العلم مظاهر ثقافة غير علمية لخدمة الاعتقادات السائدة، القائمة على أسس غير علمية.

هذه النزعات الثلاث هي التي ساهمت في التطور الحضاري والإنساني الذي قاده المفكرون والفلاسفة في الغرب والتي نحن بأمس الحاجة إليها.

والمطلوب من المفكرين والمشتغلين في الفلسفة بالعالم العربي الالتفات إلى واقعهم الثقافي والنظر له بعين نقدية فاحصة، تضع أمامها تلك النزعات الثلاث، التي تمثل الأرضية السليمة لأي تطور ثقافي وفكري حقيقي. فمحاولات بعض المشتغلين بالفلسفة تفسير الواقع العربي بنظريات وأفكار فلسفية، لا تمثله أو بعيدة عنه، لن تجدي نفعًا، بل المطلوب العمل على استخدام الأدوات الفكرية، التي تعمل على تغيير العقلية السائدة بما تتضمنه من أفكار عفى عليها الزمن، وبما يتلاءم مع واقعنا والعمل على ابتكار الأدوات التي يمكن أن تساهم في ذلك، آخذين بعين الاعتبار التغيرات الجارية والتي لا تطابق تمامًا الواقع الغربي في عصر التنوير. وتعود أهمية الاستفادة من خلق أو ابتكار أدوات أو مناهج فكرية إلى أنه لا يمكن تحقيق نهضة فكرية حقيقية يكتب لها الاستمرار والتطور، بما يتلاءم مع المتغيرات الجارية في العالم، وغياب ذلك يعني أن أي تطور فكري وثقافي أو نهضوي لن يكتب له الاستمرار لغياب الأسس النظرية والمنهجية التي يستند إليها. ولعل خير شاهد على ذلك تلك النهضة الفكرية والثقافية التي شهدها الوطن العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى ما بعد منتصف القرن العشرين بقليل، التي خَبَتْ لعوامل عديدة، أبرزها غياب المنهجية والأدوات الفكرية المحلية التي طرحت أفكار النهضة والتغيير، مما أدى إلى غياب التأصيل النظري والمنهجي للأفكار التي سادت في فترة ازدهار الثقافة العربية.إن نجاح أي مشروع فكري وبناءه على أسس وأدوات فكرية ومنهجية، لا يمكن أن يأتي إلا من خلال وجود العقلية الحرّة والمبدعة التي تنطلق من أسس عقلانية يغيب عنها أي شكل من أشكال الأدلجة والتسييس والذاتية، وتتحرى الموضوعية في تناول ونقد الأفكار، وتنطلق من فهمها لواقعها بما يتطلبه من تغييرات فكرية أو ثقافية، وفي حال القفز على ذلك وتلبيس الواقع أفكارًا ليست من ثوبه، فسيغيب الإبداع والتطوير الحقيقي، وسيدخل العقل في متاهة الانفصام من جديد.

 

عبدالله الجسمي