لا ديمقراطية دون تعليم

لا ديمقراطية دون تعليم

في مناسبة إجماع آل الصباح على اختيار أمير الكويت من بينهم، وموقف مجلس الأمة المسئول من هذا الأمر، تم اختيار ولي للعهد ورئيس لمجلس الوزراء بسرعة مذهلة, وضربت الكويت مثلاً صارخًا لممارستها الديمقراطية المترسخة يومًا بعد يوم.

وقد رأيت - انطلاقًا من هذه التجربة الديمقراطية النموذجية - أن أحيي الأسرة الحاكمة في الكويت والشعب الكويتي, الممثل بمؤسساته الديمقراطية بهذه المقالة، لعلها تحمل إلى ربوع أخرى نسمات من صبا الديمقراطية وأنفاس الحريّة المسئولة.

طُرحت قضية الديمقراطية في الشرق في أواخر القرن التاسع عشر بعناوين مختلفة، ومطالبة خفرة. يومئذ كان «الشرق الأوسط» موزّعًا بين السلطنة العثمانية والدولة القاجارية، فهبّت على رعاياها بعض نسائم الحرية آتية من احتكاك الدولتين بأوربا، فتلقتها الدولتان على أنها عاصفة حاولتا مواجهتها بما عُرف في السلطنة باسم «الدستور» وفي المملكة الإيرانية باسم «المشروطية»، وكلاهما يعني الحكم المشروط بالقانون, إلا أن إقرارهما واجه مقاومة وتعسّفًا من قِبل العثمانيين والقاجاريين، واستدعى مقاومة وبطولات من قبَل الشعوب الخاضعة للدولتين أدّت إلى استشهاد مناضلين في كلتيهما.

غير أن دماء الشهداء لم تهرق هدرًا. فقد تلقف مشعل الحرية الأدباء والشعراء في كلتا المملكتين، وكانوا قد رفعوه جنبًا إلى جنب مع المقاومين بأجسادهم وأرواحهم.فتحوّل الأدب المختنق في شرنقة اللفظة أو في لجتها إلى صورة نابضة للحياة الجديدة. وتناول مقومات الديمقراطية الشعراء والناثرون مخلّفين لنا تراثًا مستحدثًا يعالج شئوننا اليومية ويؤسس لمستقبل أفضل لنا.

لكن، يبدو أن النضال بالسيف والقلم طوى بعضه النسيان، فإذا بنا في الأقطار العربية التي استقلّت بسقوط السلطنة العثمانية، وتراجع موجات الاستعمار والانتداب لا نستلهم تراث نهضتنا الفكريّة والسياسيّة، بل نعود إلى تراثنا القديم من زاوية «فحولة الشعراء» التي أقرّها ابن سلام لأغراض لغوية لا تناسب طموحنا، إلى حياة تضع الإنسان في محور الحياة الكريمة. ثم تلهينا بالشعارات السياسية في سبيل إقرار الديمقراطية، ولم ترسها على أسس تربوية تنهل من تراث نهضتنا وبعض تراثنا القديم إذا قرأناه قراءة جديدة، وأحيينا الظليل منه، الذي كان يناقض الحكم المستبدّ. وعلى الرغم مما أحرزته بعض الدول العربية من حكم ديمقراطي، ولاسيّما في لبنان والكويت، وبعض المعوّقات المرتبطة بسنّة التطور، فإنّ علينا أن نُحدث انقلابًا تعليميًا تربويًا، كي نبلغ الهدف الديمقراطي المرتجى.

جدليّة الديمقراطية والتراث

الديمقراطية مفهوم عام يشمل مفاهيم فرعية تقوم بها. وإذا كان اشتقاقها اللغوي الإغريقي يعني سيادة الشعب أو حكم الشعب فهو ينقض، تاليًا، حكم الفرد واستبداد شخص واحد بمقرّرات الشعوب والدول.

وقد تكوّن، عبر تجارب الحكم المختلفة، منذ نظام الحكم في الحواضر الفينيقيّة واليونانية، مفهوم للديمقراطية يقوم على العناصر أو المظاهر الآتية التي تُعتبر تجليّات لها، وهي، على سبيل الاستئناس، لا الحصر: الحريّة (في مختلف مظاهرها)، المساواة، العدالة، احترام الشأن العام، الحق في الاختلاف (عُرف بالتسامح) والمسئولية تجاه المجتمع.

صحيح أن القرار السياسي يشكّل الإطار الأساسي لممارسة الديمقراطية, إلا أن الديمقراطية لا تتحقق بالقرارات السياسية وسن القوانين، بل بتنشئة الأجيال على مضامين جديدة لبرامجنا التعليمية.

لكن، كيف نقوّم شخصية الناشئة ونربّيها على الديمقراطية؟ هل تفي بالغرض ساعة واحدة مخصصة للتربية المدنية أو ساعتان، خلال أسبوع دراسيّ؟ وهل نبلغ الهدف بالوعظ والإرشاد، في زمن طغت فيه الفرديّة والإقليمية، وتحوّلت فيه روح الأديان إلى مؤسسات تكاد تخلو من النبض الروحاني؟

أمام قصور هذه الوسائل التي فقدت جدواها، لا بد من تحويل التربية على الديمقراطية إلى خبز يوميّ، إلى عمل متواصل، إلى مناخ عام يغمر المجتمع بهوائه وتربته وضيائه ونوره. ولا يتوافر هذا الأمر ما لم نحوّل حصّة القراءة اليومية - في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، وحصة الأدب في المرحلة الثانوية، وحصة الفلسفة في نهاية الثانوية وحصص العلوم الاجتماعية والإنسانية - إلى حصة تربية على الديمقراطية، في قسم منها على الأقلّ.

قراءة جديدة لتراثنا العربيّ

كيف يكون ذلك، لاسيّما أن تراثنا الأدبيّ - الفكريّ ولد ونما ونضج في إطار الحكومات الاستبدادية منذ فجر التاريخ حتى أيامنا؟ على الرغم من هذا الواقع المرير، يجد المنقّب في تراثنا نصوصًا أدبية وفلسفية وروايات تاريخية وحكايات تنبعث منها قيم اجتماعية إنسانية، تطابق مبادئ الديمقراطية أو تحاذيها. وقد تبيّن لي، بعد تنقيب صرفت فيه أربع سنوات، توافرها في تراثنا القديم متفرّقة، وفي تراث عصر النهضة واضحة، فجمعت بعضها في كتيّب أهديته لمؤسسات تربويّة معنيّة لتشرع بالإفادة منه، وتناولته بعض وسائل الإعلام اللبنانية والعربية على أنه ثورة تربوية، إلا أنه بقي حبرًا على ورق.

لقد عُدّلت برامج التدريس في جامعاتنا وبرامج البكالوريا أو الدراسة الثانوية في الأدب العربي بوجه عام، عدّة مرات، إلاّ أنّ مضمونه ظلّ يراوح مكانه، من حيث الهدف التربوي والوطني والإنساني. فإذا بنا لانزال نربّي ناشئتنا على نصوص من فنون المدح والهجاء والرثاء والفخر.. تنمّي فيهم الروح الفردية الوصولية القائمة على الأنانية، الخالية من الغيريّة أي من الشعور بالانتماء إلى مجتمع ينبغي أن يوفّر لجميع أفراده الحريّة والمساواة والعدالة ويُشعرهم بالتعاضد الاجتماعي.

من «فحولة الشعراء» إلى الإنسان - المحوَر

إننا لانزال نختار شعراءنا وكتّابنا انطلاقًا من نظرية «فحولة الشعراء» لابن سلام الجمحي، فننحّي «شعراء القرى» المثقفين، كما كان يصنّفهم ابن سلاّم مثل: عدَي بن زيد العبادي، والأعشى وسواهما، إذ إنّ المعيار كان سلامة اللغة وعراقتها في البداوة. كما أننا نولي الشعر أهميّة تفوق ما نوليه النثر، على الرغم من احتياجنا في حياتنا اليومية، وفي أكثر شئوننا، إلى إتقان التعبير بالنثر، أيًا كان اختصاصنا، فإذا بنا نغدو في مؤخرة الشعوب التي لا تتقن التعبير السليم بلغتها، فانصرفنا عنها إلى اللغات الأجنبية متذرّعين بصعوبتها!

إن تراثنا القديم، ولاسيّما تراث عصر النهضة - كما أشرتُ سابقًا - حافل بالمفاهيم التي تشكّل أركان مضمون الديمقراطية، فلماذا لا نقعّد برامجنا التعليمية وتوجّهاتنا التربوية عليه؟ إني مستعد لوضع النصوص التي صرفتُ في انتخابها سنوات من عمري في تصرّف أي مؤسسة عربية، حكومية أو خاصة، إسهامًا مني في واجبي الوطني والقومي وفي سبيل ترسيخ مبادئ الديمقراطية غير المستوردة، بل النابعة من تراثنا، حفاظًا على هويتنا.

ختاما - وهذا حديث لا ينتهي ببضع صفحات - يُسعدني أن أنقل للقارئ المهتمّ نصًا قديمًا عن حالة يعود الزمان بها إلى ألف عام، كانت سائدة في بغداد العباسيين، ليتها تتكرّر بين ظهرانينا، اليوم، ونحن أدعياء الحريّات في زمن الإرهاب الفكري والجسدي المتقنّع بقشور الدين. إنها حالة الحريّة في تجلّياتها المتعددة: الدينية والفكرية والمعرفيّة والروحية، وهذا نص روايتها بحسب الحميدي الأندلسي حول زيارة قام بها لبغداد، أيامئذ، أبو عمر بن سعدي، قال:

(سمعتُ أبا عمر محمد بن سعدي المالكي، عند وصوله إلى القيروان من ديار المشرق، وكان أبو عمر دخل بغداد في حياة أبي بكر محمد بن صالح الأبهري، فقال له يومًا: هل حضرتَ مجالس أهل الكلام؟ فقال: بلى، حضرتهم مرّتين، ثم تركتُ مجالسهم ولم أعد إليها. فقال له أبوه محمد: ولمَ؟ فقال: أما أول مجلس حضرته فرأيت مجلسًا قد جمع الفِرَق كلها: المسلمين من أهل السنّة والبدعة، والكفّار من المجوس، والدّهرية، والزنادقة، واليهود والنصارى...، ولكل فرقة رئيس يتكلّم على مذهبه، ويجادل عنه، فإذا جاء رئيس من أي فرقة كان، قامت الجماعة إليه قيامًا على أقدامهم حتى يجلس، فيجلسون بجلوسه، فإذا غصّ المجلس بأهله، ورأوا أنه لم يبق لهم أحد ينتظرونه، قال قائل: «... قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتجّ علينا المسلمون بكتابهم، ولا بقول نبيّهم...، وإنما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النظر والقياس، فيقولون: نعم، لك ذلك.

قال أبو عمر: فلما سمعت ذلك لم أَعُد إلى ذلك المجلس، ثم قيل لي: ثَمَّ مجلس آخر للكلام، فلم أعد إليه. فقال أبو محمد بن أبي زيد: ورضي المسلمون بهذا من القول والفعل؟ قال أبوعمر: (هذا الذي شاهدتُ منهم).

يبدو، بعد انقضاء ألف عام، أننا، كما قال شاعر قديم، نرقى إلى أسفل! فهلاّ كانت لنا الجرأة على قراءة تراثنا من جديد، على ضوء حاجاتنا ومثلنا العليا، وفي سبيل تنشئة إنسان عربيّ جديد؟.

 

فكتور الكك