الإصلاح في الصين.. دروس مستفادة

الإصلاح في الصين.. دروس مستفادة

تستحق تجربة الصين قدرًا كبيرًا من الاهتمام لخصوبتها وثرائها ولما حققته من نتائج باهرة, بدءًا من تحقيقها معدل نمو اقتصادي لم يحققه اقتصاد آخر في التاريخ الحديث في مثل هذه المدة المتصلة، مرورًا بالنجاح في التعامل مع مشكلة الزيادة السكانية.

المثير في التجربة الصينية ليس فقط النجاح الاقتصادي الذي فاق كل التوقعات ولكن أيضًا وبصورة خاصة، قدرة الحكومة على السيطرة على عملية النمو وما يصاحبها عادة من أزمات هيكلية اقتصادية واجتماعية مؤلمة وقلاقل سياسية حادة، وتوجيه المسار نحو خدمة الأهداف الإستراتيجية للمجتمع الصيني وتحقيق تحسين حقيقي ملموس في مستوى معيشة الناس العاديين. ولعله من التبسيط المخل القول إن معدل النمو الاقتصادي المرتفع والمتواصل في الصين قد تحقق نتيجة سياسة الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية وزيادة الصادرات والاندماج في السوق العالمية وتدني نفقة الأيدي العاملة، فالواقع أن روسيا لم تحقق هذا المعدل على الرغم من أنها أضحت أكثر انفتاحًا وحرية اقتصادية مقارنة بالصين، ودول آسيوية عديدة لم تصل إلى هذا المعدل على الرغم من تحقيقها معدلات تصدير أعلى من الصين مقارنة بناتجها المحلي الإجمالي، وعدد غير قليل من بلدان العالم الثالث لم يحقق أي نجاح في جذب رأس المال الأجنبي على الرغم من الانخفاض الشديد في أجور عمالها.

ويمكن القول إن الوصفة الصينية الفعالة التي نجحت في جذب الاستثمار الأجنبي تمثلت في وجود أيدٍ عاملة ذات مهارة مرتفعة ونفقة معتدلة وبنية أساسية جيدة واستقرار اقتصادي متوازن وقيادة سياسية حكيمة. ولهذا إذا نظرنا على نطاق أشمل ربما يمكن اختصار العوامل الكامنة وراء النمو الاقتصادي السريع والمتواصل في الصين في ثلاثة: التزام ومهارة في القمة، رأس مال بشري وافر ودءوب وطموح، استجابة شعبية حماسية للحرية الاقتصادية نابعة من التراث الثقافي الكونفوشيوسي. ولا يعني ما سبق أن الصين قد أضحت خالية من المشاكل أو أن إصلاحها المؤسسي قد نجح بنسبة مائة في المائة أو أنه يمكن نقل تجربتها بحذافيرها إلى أرض أخرى، ولكنه يؤكد أهمية الأخذ بالحكمة القديمة التي تدعو للاستفادة من نجاحات وأخطاء الآخرين.

للنجاح أمارات وأسباب

والواقع أننا نستطيع بشكل إجمالي تلخيص ملامح تجربة الصين في الإصلاح المؤسسي في أربعة عناصر:

أولا: الإيمان العميق والإرادة القوية لدى كبار المسئولين السياسيين في اتخاذ خطوات الإصلاح وتواصلها في ظل رؤية شاملة لمجمل الأوضاع القائمة وإمكانات تطويرها مستقبلاً.

فعلى الرغم من أن الصين في ظل قيادة ماوتسي تونج كانت تتبنى أيديولوجية ماركسية لينينية صارمة تحكم الإطار المؤسسي للأنشطة في المجالات المختلفة فإن دنج زياو بنج استطاع بعد توليه المسئولية الأولى أن يبث رؤيته الإصلاحية تدريجيًا وأن يكسب أنصارًا لها داخل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ثم المجتمع الصيني ككل، مع الإبقاء في الوقت نفسه على الجوهر السياسي للنظام الماوي. ولعل الأحداث المضطربة التي شهدتها الصين أثناء الثورة الثقافية في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين قد منحت بنج موقع مصداقية فرديًا مكنه من تنفيذ مشروعه الإصلاحي الطموح.

ومع أن الإصلاح المؤسسي في الصين قد بدأ كعملية فوقية من زعيم الحزب الشيوعي فإن هذه العملية قد اكتسبت سريعًا شكلاً تفاعليًا بين القاعدة والقمة بسبب عوامل تاريخية وثقافية صينية أصيلة حيث استجاب الأفراد وتفاعلوا مع عملية الإصلاح وأضافوا إليها جانبًا كبيرًا من الحيوية والابتكار الخلاق، وقد استفادت الحكومة بدورها من قوة هذه الاستجابة في طرح موجات تالية من التطوير والتغيير الإصلاحي.

والواقع أن بنج نجح منذ البداية في أن يعبئ النخبة المثقفة خاصة الاقتصاديين والخبراء المنفتحين على العالم الخارجي لدعم مشروعه الإصلاحي من خلال طرح دراسات ونماذج استشرافية تشير إلى المزايا الإيجابية المتوقعة من وراء التغيير، وقد قاد ذلك تدريجيًا إلى تزايد اليقين بضرورة الإصلاح خاصة بين قيادات الحزب والمجتمع إلى أن تحولت الأيديولوجية السائدة لتشجع بزوغ ترتيبات مؤسسية جديدة خاصة في المجال الاقتصادي. ولا شك في أن هذا النجاح الأولي قد شجع بنج على مواصلة استراتيجيته الإصلاحية الخلاقة والإبحار بها إلى آفاق أبعد.

ثانيًا: تبني نظرة براجماتية واقعية ومتدرجة في الاستراتيجية الإصلاحية. لقد كان المنحى الذي تبناه بنج في مشروعه الإصلاحي براجماتيًا إلى حد بعيد، ولعل أبلغ تعبير عن هذه النظرة تلك العبارة التي تنسب إلى بنج: «لا يهمني لون القط بقدر اهتمامي بما إذا كان قادرًا على الإمساك بالفئران من عدمه»، فكل الأساليب يمكن النظر في تطبيقها مادامت قادرة على تحقيق الهدف الجوهري وهو الدفع بالصين إلى قلب الاقتصاد العالمي مع تباشير زمن العولمة وتحسين الأوضاع الحياتية للمواطن العادي.

ومع ذلك فإن بنج كان مؤمنًا بأن جوهر النجاح الراسخ هو تعبئة الجهود والقوى الوطنية الذاتية للاستفادة من الانفتاح مع العالم الخارجي. فهو يقول «إن الشيء المهم الذي تعلمناه هو أن نعول أساسًا على جهودنا الذاتية، وهذا لا يعني ألا نطلب المعونة الخارجية، ولكن الأمر الجوهري هو أن نثق في قدراتنا ونعتمد على أنفسنا، فحين نفعل ذلك نستطيع أن نوحد شعبنا وأن نلهم الوطن كله أهمية العمل الجاد من أجل تحقيق الازدهار والتغلب على العديد من العوائق التي تعترض طريقنا». ولعل هذه النظرة العميقة للمصلح الصيني تفسر تميز التجربة الصينية عن التجربة الروسية التي قادها جورباتشوف ويلتسن. فالإصلاح والانفتاح الاقتصادي في الصين كان لمصلحة المجتمع وتحت سيطرته، في حين كان إلى حد ظاهر لمصلحة المستثمرين والمغامرين الأجانب والمحليين في روسيا، ومن ثم جاء التفاوت الواضح في نتائج كل من التجربتين.

مناطق اقتصادية لها خصوصية

وفي استراتيجيتها الإصلاحية أخذت القيادة الصينية تدريجيًا في إعادة النظر في الأوضاع المستقرة لتجرّب في ميادين ومناطق محدودة تغييرات مؤسسية متميزة مع مراقبة نتائجها تمهيدًا لصياغة ترتيبات مؤسسي أكثر كفاءة وفعالية مع استمرار عملية المشاهدة والتعلم والمراقبة والمراجعة طبقًا لنتائج التطبيق.

ولعل التدرج الإصلاحي يبدو جليًا في السماح بإنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة في مقاطعتين فقط في البداية هما جوانج دونج وفوجيان، ثم السماح بنشرها تدريجيًا في باقي المقاطعات.

ويتبين التدرج كذلك في الطريقة التي تم بها تطبيق الإصلاح في القطاع الزراعي حيث تميزت خطوات هذا الإصلاح والتي بدأت في عام 1978 بأن قرارات السلطة المركزية قد جاءت في معظم الأحيان وليدة الحوار مع القواعد الريفية في ضوء النتائج المتواضعة لخبرة السنوات السابقة مع الملكية الجماعية للأراضي الزراعية، ومن ثم بدأ التخلي عن القواعد والنظم القديمة بشكل تدريجي كما تفاوتت سرعة التغيير من مقاطعة إلى أخرى.

غير أن النتائج الجيدة للإصلاح قد قادت إلى تعزيزه وتوسعة رقعة تطبيقه والدخول في عملية واسعة لتفكيك الملكية الزراعية الجماعية. ففي الفترة ما بين عامي 1978 و1983 زادت القيمة الكلية للناتج الزراعي بمعدل 7% سنويًا مقارنة بمعدل لم يتجاوز 3% في العقدين السابقين على الإصلاح. ولعل ركيزة الإصلاح في الزراعة الصينية كان نظام المسئولية العائلية الذي أحل العائل محل وحدة الإنتاج الجماعي، سواء فيما يتعلق بطرق وأساليب الإنتاج أو توزيع الدخل أو الحسابات الزراعية. وفي إطار هذا النظام تم توزيع المساحات المنزوعة في كل قرية عن طريق عقود تحدد لكل عائلة المساحة المخصصة لها والالتزامات الواقعة عليها سواء من حيث كمية الإنتاج المطلوبة أو ما يتعين تسليمه من محاصيل أو مبالغ للجهات المختصة وعدد أيام العمل التي تساهم بها في صيانة المرافق العامة في القرية.. إلخ.

وبعد عام 1984 بدأت تظهر محدودية نظام المسئولية العائلية حيث لم يحفز الفلاحين لصيانة الأراضي الزراعية والاستثمار فيها، وبالتالي بدا غير قادر على تأمين زيادة الإنتاجية في المدى الطويل. وكنتيجة لذلك، ظهرت موجة جديدة من الإصلاحات المؤسسية في القطاع الزراعي سمحت بهامش حرية أوسع للفلاحين بما يسمح لهم بالتصرف في ناتج الزراعة بالبيع في السوق بحرية وتأجير الأراضي التي بحوزتهم ومد العقود إلى خمسة عشر عامًا بدلاً من ثلاثة مع إمكانية نقلها إلى الغير. وفي أوائل التسعينيات بدأت موجة ثالثة من الإصلاحات ولكنها تميزت باللامركزية حيث تفاوتت الأوضاع الزراعية من منطقة إلى أخرى بشكل واضح.

وأخيرًا في عام 2005 قررت الحكومة إعفاء الفلاحين من الضريبة الزراعية التي كانت تشكل عبئًا كبيرًا على نحو 900 مليون صيني وذلك بهدف تضييق الفارق الكبير بين دخول سكان الريف وسكان الحضر. ولا يشك منظرو عملية الإصلاح المؤسسي في الصين في أن النجاح في القطاع الزراعي هو الذي وفّر القاعدة الاقتصادية للإصلاح في باقي القطاعات.

ويظهر التدرج أيضًا في التعامل مع المشروعات المملوكة للمحليات والدولة، ففي البداية تم إعطاء هذه المشروعات نوعًا من الاستقلال الذاتي من خلال تبني نظام للتعاقد مع مديري المشروعات يتيح لهم الحصول على نسبة من الأرباح حال بلوغ مستوى معيّن من المبيعات أو الاستثمارات أو الأرباح، ثم سمح لهم في مرحلة تالية بالاحتفاظ بكامل الربح في مقابل حصول الدولة على عائد محدد ودفع الضرائب، ثم في عام 1995 تبنت الحكومة سياسة خصخصة المشروعات الصغرى والاحتفاظ بالمشروعات الكبرى وحدها، وإن سمحت بعملية خصخصة محدودة لعدد من المشروعات الكبرى المملوكة للدولة في بعض المقاطعات مثل جوانج دونج وشاندونج وسيشوان. وقد تم التركيز خلال تلك الفترة على التوسع في التجارة الخارجية لتشكل وحدها نحو 37% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1998. ومنذ عام 2000 طالت إعادة الهيكلة معظم المشروعات المملوكة للدولة باستخدام أدوات جديدة هي التصفية والإفلاس والجدولة والبيع للقطاع الخاص والبيع بالمزاد. ومع قدوم القرن الحادي والعشرين تم بيع معظم المشروعات الناجحة المملوكة للدولة بسعر السوق لمستثمرين من القطاع الخاص، كما تم خصخصة المساكن الموجودة في المدن، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر ليحقق معدلات عالية من التوسع بحيث أضحت المشروعات غير المملوكة للدولة تساهم بثلثي الناتج المحلي الإجمالي.

الإصلاح الإداري كان شرطًا

ثالثًا: ارتباط الإصلاح الاقتصادي بالإصلاح الإداري. فقد كان من أهم خطوات البداية في الإصلاح المؤسسي في الصين إلغاء نظام الوظيفة مدى الحياة الذي كان يتمتع به بعض قيادات الدولة العليا خاصة كوادر الحزب القدامى تقديرًا لمساهماتهم السياسية وليس لكفاءاتهم وقدراتهم الإدارية، مما سمح بتحديث فريق المسئولين الحكوميين. وقد نجم عن هذا الإصلاح البيروقراطي الأول نتيجتان مهمتان هما، أولا: إحلال قيادات شابة مرتفعة الكفاءة وداعمة لفكرة الإصلاح وأكثر براجماتية في تعاملها مع متطلبات الإدارة اليومية محل القيادات الثورية القديمة، وثانيًا: تقصير المدة المتوسطة لولاية المسئول في الموقع الحكومي مما يمنح الفرصة لكوادر أصغر سنًا وأفضل تعليمًا لتبوؤ مناصب مهمة، الأمر الذي زاد الحراك في البيروقراطية الحكومية. وبصورة عامة تم فرض سن لتقاعد كل المسئولين الحكوميين كما تم اشتراط بلوغ مستوى تعليمي معين لكل درجة من الدرجات الوظيفية.

الإصلاح الهيكلي الثاني في البيروقراطية الصينية كان تعزيز اللامركزية الإدارية والضريبية، فقد عهد تدريجيًا للسلطات المحلية على مستوى القرية والمدينة باختصاصات واسعة لتنظيم الاقتصاد المحلي، بما في ذلك إصدار تراخيص ممارسة النشاط الاقتصادي، وتنسيق الخطط الاستثمارية، وجذب المستثمرين وحل المنازعات وتحديد هيكل النفقات العامة وتقرير أوجه تخصيصها وتقديم الدعم السلعي ومراقبة الأسعار وتحقيق التنمية العمرانية، فضلاً عن إدارة المرافق العامة في النطاق المحلي مثل المدارس ومراكز الرعاية الصحية والمياه والصرف الصحي والكهرباء والإسكان. وقد تم منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين إدخال نظام ضريبي تعاقدي يجعل حكومة كل مقاطعة مسئولة عن جمع ضرائب الدخل ويعطيها الحق في الاحتفاظ بحصة كبيرة من الحصيلة الضريبية لتغطية الاحتياجات المحلية. وقد ترتب على هذا التطور اهتمام كبير من قبل السلطات المحلية بتشجيع الاستثمار الخاص لزيادة الدخل الضريبي والتوسع في فرص العمل المتاحة للسكان المحليين. وبدا واضحًا أن هناك تعاونًا مثمرًا وتوزيعًا للأدوار بين الطرفين، فدور المسئولين هو توفير المعلومات وتهيئة المناخ المشجع للاستثمار، ودور المستثمرين هو توفير الرؤية الاستثمارية والمهارات الإدارية والتنظيمية. وكان لنجاح هذه التجربة آثار جوهرية على سلوك البيروقراطيين في الصين حيث حفزتهم للتصرف كرجال أعمال بعقلية مرنة ومنفتحة على المتطلبات اللازمة للنجاح الاقتصادي.

وفي ضوء ما سلف يعتقد العديد من الباحثين الذين درسوا التطور الذي شهدته الصين أن الإصلاح المؤسسي، وخاصة دور الحكومة هو المحدد الحاسم للنجاح في التحول الاقتصادي، وليس تطبيق قائمة الإصلاحات التي تنادي بها بعض مؤسسات التمويل الدولية. وهنا نقتبس قول الأستاذ دافيد لي من جامعة ميتشجان: «لقد تصرفت الحكومة في الصين كيد مساعدة محفزة للتنمية الاقتصادية، في حين أن الحكومة في روسيا كانت كاليد المغتصبة التي تخنق التنمية الاقتصادية».

وتجدر الإشارة إلى أن اختيار المسئولين المحليين يتم من خلال انتخابات عامة حرة تنعقد على مستوى القرى والأحياء في كل أرجاء الصين. بل إن اختيار أعضاء البرلمان «مؤتمر الشعب العام»، يتم عن طريق الاقتراع المباشر بواسطة ممثلين للمستوى الأدنى مباشرة وصولاً إلى مستوى القرية أو الحي، ولذلك فقد يكون من المبالغة الحديث عن غياب الديمقراطية في الصين، حيث إن لها - بالتأكيد - نمطها الخاص في الحكومة التمثيلية.

جائزة الإصلاح للأغلبية

رابعًا: النظر للإصلاح المؤسسي كعملية متواصلة تفيد الغالبية وليس الأقلية.. فلم تتعامل القيادة الصينية مع إصلاحاتها المؤسسة كأحداث عرضية متقطعة زمانيًا ومكانيًا، وإنما اعتبرتها سلسلة متصلة تحقق أهدافًا محددة متفقًا عليها، وإن كانت قابلة لإعادة الصياغة في ضوء نتائج التطبيق، ولذا ينبغي النظر للزمن كبعد جوهري في فهمنا للإصلاح في الصين.

وترجع أهمية اعتبار الإصلاح المؤسسي - على عكس السياسات الاقتصادية الوقتية - عملية مستمرة وتراكمية إلى ضرورة تجنب الفراغ المؤسسي في أي مرحلة من المراحل. فتقويض المؤسسات يجب ألا يتم إلا بعد وضع مؤسسات جديدة مكانها أو بزوغ التغيير من رحم المؤسسات القديمة، ففي الحكمة الصينية تجنب الأخطاء القاتلة أهم من إيجاد حلول جيدة وباهرة للمشاكل القائمة.

ومن الأسباب الجوهرية لعدم سقوط الصين في مأزق الإصلاح الجزئي الذي جرف بعض الاقتصادات الانتقالية الأخرى، حرص الحكومة الصينية على أن تتم عملية الإصلاح بشكل لا يقود إلى وجود عدد كبير من الخاسرين مما يمكن أن يعرقل خطوات الإصلاح التالية، والحرص أيضًا على تقليل الريوع، التي يمكن أن يستأثر بها عدد محدود من الفائزين من وراء الإصلاح. لقد أدت عملية تقوية اللامركزية التي كانت جزءًا جوهريًا في المشروع الإصلاحي إلى توسعة مساحة الاستفادة من مكاسب الإصلاح، وإذكاء المنافسة بين الأقاليم والسلطات المحلية، مما قاد بدوره إلى تقليل الريوع التي يمكن أن تستأثر بها السلطة المركزية، أو أي من السلطات المحلية. باختصار لقد وزعت المكاسب من وراء التغيير الإصلاحي، خاصة في المجال الاقتصادي بشكل متوازن، بحيث لم يخسر عدد كبير من الناس شيئًا يذكر كما لم يتمتع عدد قليل من الناس بمكاسب مبالغ فيها.

وفي النهاية، فإن فهم نجاح تجربة الإصلاح المؤسسي في الصين كما هو الشأن بالنسبة لأي مجتمع آخر يحتاج منا أن نلم بالعوامل التاريخية والثقافية، التي تؤثر على سلوك المسئولين الحكوميين، وكذلك المواطنين. فهناك تأثير لهذه العوامل على نوعية رأس المال البشري في شكل منظمين وعمال ذوي مهارات عالية وجدية ملموسة في العمل، وهناك تأثير لها على العقلية الصينية الحالية، التي هي خليط من الفخر والاعتزاز بالذات والتواضع الحقيقي.

ولا جدال في أن نجاح التجربة الصينية في الإصلاح المؤسسي يدعو الحكومات والشعوب العربية لإعادة النظر في أوضاع مؤسساتها، التي يعاني الكثير منها جمودًا وقصورًا مزمنين. فالرضا والتسليم بما هو قائم يعرض للخطر فرص التطوير ويحكم على المتعاملين والعاملين بهذه المؤسسات معايشة أوضاع أضحت غير منطقية ومتعارضة مع متطلبات الكفاءة، وتحسين أوضاع الحياة اليومية للمواطنين. وتتراوح المؤسسات التي تحتاج إلى إصلاح ما بين مؤسسات سياسية كالمجالس النيابية والأحزاب والمحليات، ومؤسسات اجتماعية وثقافية في ميادين الصحة والتعليم والتأمين والضمان الاجتماعي والجمعيات، ومؤسسات قانونية كالمحاكم ونظم الملكية العقارية والتسجيل، ومؤسسات اقتصادية كالمصارف والشركات والهيئات الاقتصادية بكل أشكالها وأنواعها. غير أن الشروع في برامج الإصلاح المؤسسي يحتاج إلى إرادة واعية وشجاعة من القيادات المسئولة وكفاءة من القائمين على هذه البرامج، وتفهم ذكي من المواطنين والقوى والتجمعات السياسية النشطة في المجتمع ومساندة مخلصة من المثقفين وقادة الرأي العام.

 

أحمد جمال الدين موسى