البوصيري والبردة.. نقطة على السطر (شاعر العدد)

البوصيري والبردة.. نقطة على السطر (شاعر العدد)

وهل في جعبة هذا الشاعر غير هذه القصيدة؟ نعم في جعبته الكثير من القصائد الأخرى، والتي احتجبت كثيرا وطويلا في ظل تلك البردة العابقة بالأريج الروحاني الشجي، على الرغم من أنها لم تكن إلا نسخة مجددة لبردة شعرية قديمة.

فقد كتب البوصيري قصيدته - التي بين أيدينا الآن - من باب المحاكاة والمشاكلة لقصيدة كعب بن زهير الشهيرة في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث اشتهر أن النبي أعطى كعباً بردته حين أنشد القصيدة، مما جعلها تشتهر باسم «البردة».

وبعد عصر النبوة بما يقرب من ستة قرون - نعم ستة قرون كاملة - أهدى البوصيري قصيدته للنبي أيضا ليكافأ من قبله ببردة أخرى، في حكاية أدخلها البعض في باب الأعاجيب. ولمعرفة تفاصيلها نترك الشاعر يحكي حكايته العجيبة من البداية حتى النهاية.

يقول الشاعر - محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري -عن قصيدته, التي حيكت حولها الأساطير والخرافات غير المقبولة، ومنها أن بعض أبياتها أمان من الفقر والمرض وغير ذلك: «كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه، فعملتها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها ودعوت وتوسلت ونمت فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح وجهي بيده المباركة وألقى علي بردة، فانتبهت ووجدت في نفسي نهضة، فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً, فلقيني بعض الفقراء فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها الرسول، فقلت أي قصيدة تعني؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولها وقال: لقد سمعتها تنشد البارحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطيته إياها. وذكر الفقير ذلك وشاعت الرؤيا».

وعلى الرغم من أن تلك القصيدة كان قد نشرها البوصيري في ديوانه اليتيم بعنوان: «الكواكب الدرية في مدح خير البرية»، فإنها اشتهرت باسم «البردة» نسبة إلى بردة النبي، أو البرأة ؛ لأن البوصيري برئ بها من علته كما يقول. وقد سميت كذلك بقصيدة الشدائد؛ وذلك لأنها تقرأ لتفريج الشدائد وتيسير كل أمر عسير، كما يقول المتحمسون لها من مريدي الشاعر والمؤمنين بقصيدته، التي تعد من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية. وهي تقع في مائة واثنين وثمانين بيتاً، ومطلعها من أبرع مطالع القصائد العربية.

وقد ظلت تلك القصيدة تعتبر دائما من أشهر المدائح النبوية وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، ولذا تنافس أكثر من مائة شاعر في معارضتها، فضلاً عن المشطِّرين والمخمِّسين والمسبِّعين. كما أقبل آخرون على شرحها وتدريسها، وقد تجاوزت شروحها المكتوبة خمسين شرحاً، فيها ما هو محلى بماء الذهب! وصار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد، كما يتدارسون القرآن الكريم. كما أنها صارت مصدر إلهام للشعراء على مر العصور، يحذون حذوها وينسجون على منوالها، وينهجون نهجها.

ومن أبرز معارضات الشعراء عليها قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي اسماها «نهج البردة».

وإذا كانت قصيدة شوقي قد اشتهرت أكثر لدى متذوقي العصور المتأخرة، حيث قيض لها أن تغنى بالصوت الأشهر والأعظم في الموسيقى العربية، ونعني به صوت أم كلثوم، فإن بردة البوصيري لم تعدم من يهتم بها من أهل المغنى على الرغم من أنهم أقل شهرة من «الست»، ولكن هذا لا يعني أن باب الاستغلال الموسيقي لها قد أغلق، فقد شاعت في الآونة الأخيرة كلمات البردة مغناة بصوت مغن مقدوني شاب اسمه مسعود كورتيس، وسرعان ما تحولت إلى نغمات للهواتف النقالة!!

بقي أن نقول إن البوصيري الذي اشتهر بتلك القصيدة تحديدا، ظل مجهولا كشاعر، ولم ينظر إليه إلا باعتباره صاحب تلك البردة الشعرية، لكن المتتبع لسيرة حياة البوصيري يعرف أنه ولد بقرية «دلاص» إحدى قرى بني سويف من صعيد مصر، عام 1213م لأسرة ترجع جذورها إلى قبيلة «صنهاجة» إحدى قبائل البربر، التي استوطنت الصحراء جنوبي المغرب الأقصى، ونشأ بقرية «بوصير» القريبة من مسقط رأسه، ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة، حيث تلقى علوم العربية والأدب. وتُوفِّي بالإسكندرية سنة 1295م عن عمر بلغ 87 عامًا. وقد ترك عددًا كبيرًا من القصائد والأشعار ضمّها ديوانه الشعري الوحيد, والذي حققه «محمد سيد كيلاني»، وطُبع بالقاهرة سنة 1955م، والقصيدة «المضرية في مدح خير البرية»، والقصيدة «الخمرية»، وقصيدة «ذخر المعاد»، ولامية شعرية في الرد على اليهود والنصارى بعنوان: «المخرج والمردود على النصارى واليهود»، وقد نشرها الشيخ «أحمد فهمي محمد» بالقاهرة سنة 1953م، وله أيضا «تهذيب الألفاظ العامية»، وقد طبع كذلك بالقاهرة.

ومختارات هذا العدد من «العربي» منتقاة من بردة البوصيري، والتي لم تسلم من انتقاد كثيرين لاحتوائها - كما يقولون - على بعض المخالفات الشرعية، والتي يبدو أن الشاعر انساق في خضمها، ليس للضرورات الشعرية، بل لكونه ينتمي لعصر تاريخي سادت فيه بعض المعتقدات الشعبية، غير المتوافقة مع صحيح الدين الإسلامي، ومع هذا فقد تغاضى مريدو الشعر عن تلك المخالفات، تحت وطأة ذلك السحر الطاغي للقصيدة.

 

سعدية مفرح