هنري فانتان - لاتور طبيعة صامتة

هنري فانتان - لاتور طبيعة صامتة

قد يتساءل البعض عن سرّ الأهمية التي يوليها الفنانون لمشاهد الطبيعة الصامتة، ولماذا تجد مثل هذه اللوحة مكاناً لها في أرقى المتاحف بالرغم من خلوّها من الدلالات الاجتماعية والفكرية والتاريخية؟ والجواب البديهي هو قدرة الفنان الاستثنائية على نقل صورة الأشياء.

ولكن هذا الجواب البسيط يحتاج الى شرح لفهم تشعباته. فبشكل عام، يمكن القول إن هناك ثلاثة أنماط في رسم الطبيعة الصامتة. يتمثل النمط الأول في دراسة التفاصيل عن كثب، والتطلع إلى وثائق الأشياء بواسطة عدسة مكبّرة لرسمها كما هي، فتكون اللوحة على مستوى كبير من الوضوح (شبه الفوتوغرافي) مهما كانت المسافة التي تفصل عين المشاهد عنها. وهذا ما كان عليه فن رسم الطبيعة الصامتة في هولندا بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. وهناك من الفنانين من يتطلع إلى المنظر الذي يرسمه من بعيد، بعينين نصف مغمضتين، كما هي حال الفنان سيزان والطبيعة الصامتة، حيث نرى في لوحاته مجرّد مساحات من الألوان بعضها داكن وبعضها فاتح. وتحتاج العين إلى جمع هذه المساحات لتتمكن من قراءة اللوحة.

أما النمط الثالث، وهو الذي يعتمده هنا هنري فانتان - لاتور ( 1836 - 1904م)، فهو التطلع إلى المنظر من مسافة متوسطة ونقل صورة الأشياء كما تبدو فعلاً من هذه المسافة.

تتجلى التحديات التي نجح الفنان هنا في رفعها في أكثر من جانب. وتتلخّص كلها في واقعية نقل الصورة بأمانة.

بعد توزيع عناصر اللوحة مثل الفاكهة والزهور والكتاب بشكل يحفظ توازنها، تعامل الفنان «بصدق» مع مصدر الضوء الوحيد الذي ينير الغرفة، من أعلى الجهة اليمنى. ونجح بالفعل في رسم الجوانب المضاءة وتلك التي في الظل استناداً إلى قوّة الضوء الواحد.

ولأن هذا الضوء غير مباشر، نرى أن الظلال على الطاولة تكاد تكون غير ملحوظة، خاصةً فيما يتعلق بالمزهرية، ولكنها ملحوظة قليلا على الصينية، ذات السطح اللماع. وهذا الأمر يتطلب حساسية فائقة في قياس الضوء والظل، غالبًا ما يتلافى الفنانون تكبّد عنائها من خلال اللجوء إلى المبالغة في تعتيم الظلال وإضاءة الجوانب المواجهة لمصدر الضوء.

إلى ذلك، وبعد التقيّد بدرجات الإنارة، نجح الفنان في التعبير عن مادة كل عنصر في اللوحة وملمسها على حدة: لمعان الزجاج الأسود في المزهرية، رقة أوراق الزهور، سلّة القش (الواضحة جداً في الجهة المضاءة والأقل وضوحًا في جهة الظل)، قشور الليمون ولمعانها المحدود وشفافية لبّها.. وثمار الإجاص (الكمثرى) أيضاً.. ناهيك عن البورسلان الأبيض في فنجان القهوة، الذي نراه من دون أي لمعان زجاجي، لأنه في ضوء غير مباشر.

هذه الأمانة للواقع (شبه الفوتوغرافية) والقدرة على نقلها بواسطة الألوان، تجعل من هذه اللوحة شهادة تؤكد على القدرات الفذّة للفنان في التعامل مع الضوء واللون والخط بشكل يحفظ للّوحة وحدتها من دون أي «نشاز». وإذا أخذنا بعين الاعتبار خلوّها في أي خطاب اجتماعي أو فكري، يصبح بإمكاننا القول إنها خير تعبير تاريخي عن مذهب «الفن للفن» الذي بشّر به فنانون ومنظرون كثر منذ مطلع القرن التاسع عشر.

 

عبود عطية 




هنري فانتان - لاتور: «طبيعة صامتة»، (75 × 62 سم)، 1866م، متحف الناشيونال غاليري في واشنطن