اللغة حياة.. عسى المجمع أن يقرّ كلمة الدَّمْقَرة أو الدَّمْكَرة

 اللغة حياة.. عسى المجمع أن يقرّ كلمة الدَّمْقَرة أو الدَّمْكَرة

أخذ العرب في العصور الحديثة عن الغرب مصطلح الديمقراطيّة، بوصفه مصدرًا صناعيًّا من صفة ديمقراط المعرّبة، مع أنّهم لا يستعملون هذه الصفة بل صفة ديمقراطيّ ومؤنّثها ديمقراطيّة. ولا فائدة في البحث عن زنة ديمقراط لأنّه اسم مركّب، والأوزان تكون للأسماء المفردة (البسيطة). وقد اختلف العرب في لفظ الكلمة، فجعلوها بلفظ دِمُقْراط، ودِيمُقْراط، ودِيموقْراط، ثم زادوا الياء عليها. ولا شكّ أنّ اللفظ الأوّل هو الأدنى إلى القبول، لقرب وزنه من وزن فُعاليل، كسُخاخين، أي سُخْنٌ (وإن لم يكن في العربيّة صفة غير هذه على هذا الوزن، كما يقرّر السيوطيّ في المزهر) وفَعاويل، مثل: سَراويل، وهي فارسيّة معرّبة، وليس في العربيّة ما يوازنها؛ ووزن منتهى الجموع: فَواعيل، كعَقاقير، ووزن الاسم المركّب: شَراحِيل؛ يليه اللفظ الثاني القريب وزنه من وزن الاسم المركّب المعرّب: إسماعيل؛ أمّا اللفظ الثالث فلا شيء يقاربه لكراهية التقاء المدّ والسكون في العربيّة (الواو والقاف الساكنة هنا)، ومع ذلك تصرّ بعض الصحف على استعماله وفرضه على من ينشرون فيها، وذلك إمعان في العُجمة.

ولم تتوقّف المشكلة عند لفظ الكلمة، فالشعوب تختلف في لفظ الكلمات الدخيلة، لأنّ كلًاّ من أفرادها يلفظها بحسب ما يلتقطه سمعه من حروفها، ويقيسها على ما يقاربها من أوزان لغته؛ فكلمة حَبْل العربيّة، مثلًا، أصبحت cable في الفرنسيّة والإنجليزيّة، على خلاف ما بين اللغتين من طريقة في اللفظ، قريبة أو بعيدة من طريقة اللفظ العربيّ؛ وكلمة episkopos (أَبِّيسْكُبُّس) اليونانيّة أصبحت أُسْقُفًا في العربيّة، وهكذا. بل تجاوزت المشكلة ذلك إلى الاشتقاق من الكلمة؛ فالفرنسيّون اشتقّوا من الديمقراطيّة فعل démocratiser (جَعَلَه ديمقراطيًّا أو أدخله في الديمقراطيّة) والمصدر démocratisation (يقابل ذلك في الإنجليزيّة كما هو معروف: democratize وdemocratization)، ولم أسمع أحدًا أو أقرأ له محاولة في تعريب ذلك الفعل، لكننّي سمعت تعريبًا للمصدر؛ فبعضهم عرّبه بلفظ دَمَقْرَطة، وكأنّه مشتقّ من فعل: دَمَقْرَطَ، وبعض آخر عرّبه بـ: مَقْرَطة، وكأنه مشتقّ من فعل: مَقْرَطَ. وغنيّ عن القول أنّ الفعل العربيّ يكون ثلاثيًّا أو رباعيًّا، ولا يكون خماسيًّا مجردًّا أو ما فوق ذلك، فما كان منه على خمسة أحرف أو ستّة فهو مزيد من الثلاثيّ أو الرباعيّ. ففعل دَمَقْرَطَ لا تقبله اللغة العربيّة، لأنّه خماسيّ مجرّد. أمّا مَقْرَطَ فهو رباعيّ مثل دَحْرَجَ، فله وزن عربيّ، لكنّ لفظة المَقْرَطة لاتقع في أذن العربيّ إلاّ على أنّها مَفْعَلة، أي اسم مكان أو مصدر ميميّ من فعل قَرَطَ الذي يعني: قَطّعَ الكُرّاث في القِدر، ويعني في العاميّة: عضَّ، أو أَعضَّ بأداة صُلبة لها شبه فكّين، كالذي نسمّيه اليوم كمّاشة أو كلاّبة، أو بشيئين صُلبين ينطبق بعضهما على بعض بقوّة، مثل مصراعي الباب أو ما أشبههما. والمعنى العاميّ ليس بعيدًا من الفصيح، ولعلّه لغة لم تسجلها المعاجم، لأنّ التقطيع يشبه العضّ. والقرب واضح بين قَرَضَ وقَرَطَ، في مخارج اللفظين وفي معنى القطع. المهمّ أنّ المَقْرَطة لفظ ملتبس، فضلًا عن أنّه لا يشتمل على الدال، التي في أوّل كلمة dêmos (داموس) اليونانيّة، ومعناها الشعب، ويغلب في التعريب عدم حذف الحرف الأوّل من الكلمة المعرّبة. وهكذا نكون بحيال تعريب غير مستساغ، وآخر ملتبس ومخالف للأعراف.

والسبب في كلّ هذه المشكلات أنّ كلمة ديمقراطيّة مركّبة، على ما سبق، من كلمتين ملصق بعضهما ببعض؛ أي أنّنا أمام اسم منحوت مكوّن من dêmos وkratos ويعني قوّة الشعب أو قدرته. ولتعريب ذلك الاسم الذي يخالف الموازين الصرفيّة العربيّة يستحسن التصرف بمكوّناته الأجنبيّة نفسها، لكن بما يلائم الأوزان العربيّة، وهذا لا يجافي المبدأ الذي قلنا به في مقالة سابقة، وهو أنّ النحت ليس صناعة متكلّفة بل اختزال عفويّ تفرضه كثرة الاستعمال والحاجة إلى الاقتصاد اللفظيّ.

إنّ المنحوت لا يشتمل على حروف الكلمات المؤسِّسة له كلّها، بل يغلب الاكتفاء فيه ببضعة أحرف من كلّ كلمة منها، وربّما بحرف واحد من بعضها، وربّما استُغني عن بعضها كلّه. ففي البسملة، مثلًا، نجد كلّ أحرف: بسم، وحرفًا واحدًا من اسم الجلالة: الله، هو اللام، مع إسقاط كلمتي الرحمن والرحيم. وقد رأينا في المقالة المشار إليها أنّ الأفعال المنحوتة كلّها رباعيّة، وهذا طبيعيّ لأنّ من الصعب على الثلاثيّ أن يحتمل اجتماع أكثر من كلمة؛ ولذلك فإنّ التعريب الذي نقترحه للمصدر المُشْكِل هو الدَمْقَرة، من الرباعيّ الافتراضي: دَمْقَرَ، الذي يشتمل على حرفين صامتين من الجزء الأول من التركيب اليوناني: داموس، وحرفين صامتين من الجزء الثاني منه: كراتوس، علمًا أنّ العرب يجعلون الكاف قافًا في كثير من تعريباتهم، ومن يستثقل القاف هنا فبوسعه القول: دَمْكَرة، باختيار كاف الأصل.

لقد تبدو هذه الصيغة بعيدة شيئًا ما من الكلمات الأوربيّة المأخوذة من الأصل اليونانيّ، بعد مرورها باللاتينيّة، لكنّ الاستعمال كفيل بتعويد الناس إياها، كما تعوّدوا استعمال كلمة الدرهم المأخوذة من كلمة دراخما اليونانيّة، مثلًا، وكما تعوّدوا كلمة القَسْطرة من katheter (كاثَتَر) اليونانيّة واللاتينيّة، وأشباه ذلك. ولا ريب أنّ المعرَّب الجاري على الأوزان العربيّة، أسهل استعمالًا من غير الجاري عليها، لأنّه ألصق بالعادات اللغويّة العربيّة، وهو لا يلبث، في الغالب، أن يكتسب الهويّة العربيّة، ككلمة الفلسفة والسُّنْدُس والأُرْجوان، وغيرها ممّا استُعمل بعضُه حتّى في القرآن الكريم، وعدّه بعضهم عربيّا، رافضًا اعتباره معرَّبًا. على حين أنّ البعيد من الموازين العربيّة يبقى غريبًا غير قادر على الاستعراب، وقلّما يألفه العربيّ، وكثيرًا ما يُستبدل به لفظ عربيّ أصيل، ولو بعد حين، كالذي حدث لكلمة الأوتوموبيل، على اختلاف لفظ الناس لها، إذ ما لبث العرب أن استعاضوا منها بكلمة سيّارة؛ والبيسيكلات التي لم تلبث الفصحى أن استغنت عنها بكلمة درّاجة. وكان بعض العامّة يقول سَوْجَرَ (بالجيم المصرية، وهو من السيجارة) بمعنى أَشْعَلَ لُفافةً، وصار الناس يستعملون دَخَّنَ، ودخلت كلمة التدخين في الاستعمال الفصيح.. إلخ. فالموافق لأوزان العرب أقدر على الحياة من غيره، والمترجم أقدر عليها من كليهما. ولا شكّ في أنّ ترجمة الكلمة موضوع مقالتنا بعبارة: الإدخال في الديمقراطيّة، أجمل وأسهل لأنّها بلسان عربيّ مبين.

ونحن في النهايّة نقترح كلمة دَمْقَرَة أو دَمْكَرة على المجمع اللغويّ في القاهرة عسى أن يدرسها ويقرّ استعمالها عند الضرورة الشديدة، فيساعد الصحافيّين والساسة، ويريح الشعب الذي يقرأهم ويسمعهم، مع تفضيلنا للترجمة المقترحة آنفًا..
-----------------------------------
*أكاديمي من لبنان.

 

 

مصطفى عليّ الجوزو*