الحركة الصليبية ودروس التاريخ

الحركة الصليبية ودروس التاريخ

طالعت باهتمام بالغ ملف مجلة «العربي» الغراء العدد (558) مايو 2005، وقد جذب انتباهي الحوار المتميز الذي تم بين شيخ المؤرخين العرب د. نقولا زيادة والأستاذ جهاد فاضل وهناك بعض الملاحظات التي استوقفتني حول ما جاء في هذا الحوار.

فعندما سئل د.نقولا زيادة عن «اهتمام إسرائيل بالغزوات الصليبية وإنشاء أقسام في بعض جامعاتها لدراسة تلك الغزوات وسبب فشلها» قال «هل تعرف لماذا أنشأ وينشئ الإسرائيليون مثل هذه الأقسام؟ لأن الإفرنج لم يستطيعوا أن يحتفظوا بالبلاد العربية التي احتلوها، لأنهم لم يكن عندهم عدد كاف لكي يسيطروا سيطرة تامة.. اكتشف هؤلاء أن السبب الأساسي هو أنه لم يكن عنـــدهم عدد كاف من الأوربيين للسيطرة على البلاد». وفي هذا الصدد لابد وأن أذكر أن الحركة الصليبية هي كما ذكر د.سعيد عاشور «حركة كبرى نبعت من الغرب الأوربي المسيحي في العصور الوسطى واتخذت شكل هجوم حربي استعماري استيطاني على بلاد المسلمين وبخاصة في الشرق الأدنى بقصد امتلاكها، وقد انبعثت هذه الحركة عن الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والدينية التي سادت في غرب أوربا في القرن الحادي عشر واتخذت من استغاثة المسيحيين في الشرق ضد المسلمين ستارًا دينيًا للتعبير عن نفسها تعبيرًا عمليًا واسع النطاق».

لقد بات واضحًا للعيان أن هدف الصليبيين هو البقاء والاستيطان والاستعمار في بلاد الشرق العربي الإسلامي كما ذكر د.جوزيف نسيم يوسف والدليل على ذلك جاء على لسان أحد المؤرخين الصليبيين وهو فوشيه دي شارتري الذي كان مرافقًا للحملة الصليبية الأولى وأحد الشهود العيان والمشاركين في الأحداث التي كتب عنها، فلقد ذكر فوشيه أنه «نحن الآن بعد أن كنا غربيين أصبحنا الآن شرقيين بمعنى الكلمة، لقد أصبح الذي كان غريبًا بالأمس مواطنًا اليوم والذين كانوا فقراء معدمين هناك جعلهم الموالي أغنياء مترفين هنا، والذين كانوا لا يملكون درهمًا واحدًا أصبحوا يمتلكون قطعًا من الذهب، والذي لم يكن يملك مزرعة واحدة وهبه الله مدينة بأكملها هنا، فلماذا إذن نعود إلى الغرب مادام الشرق يفي تمامًا برغباتنا ومطالبنا».

ولم يقف الأمر عند الاستيطان في بلاد الشام فقط، بل إنهم فور أن استقروا في فلسطين أخذوا يحاولون التوسع في البلاد العربية المجاورة مثل الجزيرة ومصر ولم يكتفوا بذلك بل حاولوا الاستيلاء على بلاد الحجاز.

التشرذم والانقسام

لقد تمكّن الصليبيون من استعمار بلاد الشرق في البداية، وذلك نتيجة حتمية لحالة الضعف والانقسام والتشرذم والتفكك التي كانت تعانيها البلاد العربية والإسلامية، ولذلك فقد استماتوا لعدم تحقيق الوحدة بين الشام ومصر والجزيرة مثلما تخشى إسرائيل الآن من تحقيق مثل هذه الوحدة. لكن هذا الاستيطان لم يدم نتيجة لجهود الزعماء العرب في توحيد الجبهة العربية الإسلامية تحت راية الجهاد وكذلك لتصدع البناء الصليبي في بلاد الشرق.

ونستطيع أن نلمس هذه الجهود من خلال دراسة تاريخ تلك المرحلة الخطيرة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية، ولعل أبرز الأمراء الذين لعبوا دورًا بارزًا في هذا الصدد «عماد الدين زنكي» الذي استرد إمارة الرها ومن بعده ابنه «نور الدين محمد الشهيد» الذي نجح في توحيد بلاد الشام والجزيرة ثم «صلاح الدين الأيوبي» الذي تمكن من توحيد بلاد الشام والجزيرة ومصر الأمر الذي مكّنه من هزيمة الصليبيين في موقعة حطين، تلك الموقعة التي كانت بداية النهاية للقضاء على الوجود الصليبي في المشرق العربي.

وقام الظاهر بيبرس بدور بالغ الأهمية في اقتلاع جذور الوجود الصليبي في بلاد الشرق الإسلامي ثم جاء الأشرف خليل بن قلاوون الذي قضى تمامًا ونهائيًا على هذا الوجود وطهر الشرق منهم.

وختامًا أذكر ما قاله د.سعيد عبدالفتاح عاشور «بفضل الإيمان بالله وبوحدة الهدف والتمسك بوحدة الصف أمكن للمسلمين في الشرق الأدنى أن ينتصروا في معركة الحروب الصليبية في العصور الوسطى، وقد أثبت التاريخ دائمًا أن هذه الوحدة المنبثقة من صميم الواقع، المعبر عن روح الإسلام وتعاليمه ومثله لابد وأن تنتصر في تحقيق أهدافها على الرغم مما قد يصادفها من عقبات يضعها في طريقها أعداء الله في الداخل والخارج».

محمود خالد الجزايرلي
كفر الشيخ - مصر