أبعد من حارة حريك والحمراء

أبعد من حارة حريك والحمراء

من دلل إسرائيل حتى أصبحت تتسلى بتدمير منازل حارة حريك على من فيها، ومن شجعها على تدمير هذا الوطن بكل ما فيه؟

1

لم نحمل الكثير..بل لم نحمل إلا هوياتنا وجوازات السفر، وزجاجتي العطر الخليجي المدهش اللتين أهدتني إياهما صديقة كويتية، حبر قلمها كرائحة عطرها، وأجهزة الكمبيوتر المحمول من منزلنا في حارة حريك، الأشهر من نار على علم، ونحن نستقل سيارة أجرة إلى الحمراء حيث سيستقبلنا بيت أختي الصغير الذي كان أنيقًا كبيت لعبة باربي الشهيرة قبل وصولنا وعائلتين أخريين التجأتا إليه.

لم أدر سبب حمل أمي «الجولانية» الأصل، الآتية في زيارة نقاهة من دمشق إلى بيروت بعد شفائها من جلطة دماغية كيسَ دوائها الكبير إلا بعد أن استقرت على سرير أختي وقالت:

ـ أنا أعرفهم. سبق وأن أخرجونا من «الجولان» ودمروها قبل أن نستطيع تهريب حتى آلة الأكورديون التي أتقن العزف عليها.

ولمع في عينيها بريق حزين لم أدر إن كان بسبب استعادة ذكرى فقدان الوطن، أم بسبب استطاعة جدي وقتها الحصول على بلاطة واحدة من بين الركام وضعها في صدر البيت الجديد في حي المهاجرين، لأن البيت القديم لن يعود.

هل كانت أمي مُحقة؟

ما الذي يحدث؟

لم تمض ساعات حتى قررت وأولادي الثلاثة العودة إلى بيتنا في الحارة بعد أن اطمأننا على أمي، وذلك لأننا، كما هتفنا بصوت واحد شجاع رادّين على أختي المستنكرة قرارنا: لا نخاف!

2

ـ لن يقصفوا الضاحية الجنوبية لأننا هددناهم بقصف حيفا إن فعلوا.

هذا ما أكده لي زوج إحدى صديقاتي وهو إعلامي مخضرم في حزب الله.

لكن هذه الجملة التي بدئت بـ «لن» لم تمنع تسلل الرهبة ونحن ننزل إلى مدخل البناية ونتوقف لنرقب طرقات الحي التي خلت. ومن بعدها، الشرفات التي خلت.

أين ذهب الجميع؟ أين غادروا ولمّا نَغِبْ أربع ساعات كانوا فيها موجودين؟

حتى سكان بنايتنا الذين كانوا يعيشون حياة طبيعية قبل ساعات، لم يبق منهم إلا بيت أم حسن في الطابق الثامن فوقنا، وكانت تقنع ابنها الشاب وزوجها وقت رجوعنا بمغادرة الحي أسوة بالجميع ريثما تمر هذه «الليلة»!

ومرت الليلة، وبعدها ليال وليال. وما نفعَ تهديد قصف «حيفا» و«ما بعد حيفا» في إبعاد الخطر عن الضاحية الجنوبية، فقصفت بعنف كما تقصف قرى الجنوب اللبناني، وكما تقصف بعلبك مدينة الشمس الشامخة، وهدمت الأبنية على مَن تبقّى فيها من عناصر متنقلة من المقاومة وبعض نواطير الأبنية السودانيين أو السوريين، أو الهنود، وبعض مَن تمسك بالبقاء داخل جدران منزله، فهدمت الجدران عليهم، وسحقت عظامهم سحقًا، وما استفاد حتى الذين لجأوا إلى الملاجئ، فقد سقطت الأبنية بكاملها على الملاجئ، وما عاد يسمع حتى أنين اللاجئ إليها...

3

ما الذي يحدث؟

تحلقنا حول التلفاز، وكان بيت أختي الصغير قد سادت فيه الفوضى بسبب استقبالها عائلة مع ولد لم يتجاوز الثانية عشرة هو وحيد أبوين عجوزين كان قادرًا على بث أجواء من التشنج بثرثرته التي لاتنتهي، وبتحركه الدائم، وببكائه المصحوب بنشيج يجعل يديه تتحركان كما تتحرك دمية قماشية عتيقة، مبدعًا طلبات لا تنتهي تدور حول افتقاده سبل التسلية هنا بعيدًا عن بيته، مؤكدًا نظرية سوء التربية القائمة على الدلال المفرط.

مع كل قذيفة تسقط على الجنوب أو بعلبك أو الضاحية الجنوبية يقفز إلى أذهاننا اسم ورقم، ويتكرر السؤال: أين أنتم؟

4

أين أنتم؟

استقبلت قرى الجبل المهجرين من الضاحية الجنوبية والقرى الجنوبية منذ اليوم الأول للقصف، فامتلأت بيوت وفنادق بحمدون وعالية وصوفر والقرى الأخرى بأغنياء المهجرين، وامتلأت المدارس والأماكن العامة بالفقراء الذين قام أفراد الحزب التقدمي الاشتراكي بتأمين جميع مستلزمات الحياة لهم.

واستقبلت قرى المتن وكسروان والشمال المهجرين تقوم بمساعدتهم البلديات، واللجان التابعة لحزب القوات اللبنانية، وحزب الكتائب اللبنانية، والتيار الوطني الحر، والحزب السوري القومي الاجتماعي، وتيار المردة، وتيار المستقبل، والحزب الشيوعي، والوطنيين الأحرار وغيرهم من الأحزاب، فتؤمن لهم المأكل والمشرب وأمكنة النوم.

كما امتلأت الحسينيات والمساجد والكنائس والأديرة في جميع المناطق اللبنانية بالناس المهجرين، فعمل القيمون عليها على خدمة ضيوفهم تمامًا كما عملت مؤسسات الدولة اللبنانية من جيش، وشرطة، ودفاع مدني، وإطفاء على توفير سائر الخدمات لهم مما أشعر اللبنانيين الباحثين منذ القدم عن ماهية الوطن بأن هذا التعاضد الإنساني الأخلاقي ربما يكون هو الخيط الذي يقودهم إلى معرفة هذه الماهية، وفرحوا وسط آلامهم مخبئين فكرة للمناقشة بعد انتهاء الحرب.

5

أما هنا، في الحمراء، فلم يعد، بعد ثلاثين يوم حرب، من مكان للاجئ قادم واحد يبحث عن مدرسة أو حديقة أو مؤسسة عامة. ولم يعد هناك من منزل أو غرفة في فندق لعائلة حتى لو قرر أفرادها المكوث فيها رغم تجاوز عددهم العشرين وأحيانًا أكثر.

6

في الحرب، لا يبحث المرء عن الرفاهية، بل عن السلامة بعيدًا عن ساحات المعارك التي امتدت جغرافيًّا، فما عادت مناطق انتشار مقاتلي حزب الله هي المستهدفة الوحيدة، بل مناطق حركة أمل -كالشياح - التي لجأ إليها الكثير من العائلات بعد أن اطمأنت إلى أنها لن تُقصف، وقُصفت، وقتل الكثير من الأطفال والشيوخ والنساء تحت الركام فيها، فهُجّر مَن تبقى فيها إلى حديقة الصنائع القريبة من منزل أختي في الوقت الذي قررت فيه الحكومة الإسرائيلية أن تُخرج سكان شمال فلسطين المحتلة لتروِّح عنهم بعد أن طالت الحرب وطالتهم قذائف المقاومة.

ونحن أيضًا خرج مواطنونا إلى الحدائق العامة ليفترشوا أرضها منذ شهر، ولكن..لا للترويح عنهم، بل لينتظروا عودة إلى بيوت قد تكون أصبحت أثرًا بعد عين، فلا يبقى أمامهم إلا الوقوف على الأطلال. ولينتظروا بعض سيدات المنطقة ليأخذن بعض الأطفال إلى بيوتهن للاستحمام والترفيه عنهم وإعادتهم إلى الحديقة. أو لينتظروا بعض أصحاب النوادي الرياضية الذين تبرعوا بأخذ الناس إلى حمّامات المسابح الموجودة فيها للاستحمام. ولينتظروا التبرعات العينية، كتبرع قص شعر الفتيات الصغيرات منعًا من انتشار القمل والصئبان، وحلاقة شعر الصِّبية والرجال، وتقديم الحليب والألعاب وحتى قوالب الكاتو للأطفال بمبادرات فردية أو مبادرات جمعيات خيرية وخاصة، كذلك قص حكايات فولكلورية خيالية على الصغار تنتهي نهايات سعيدة لا نهايات مأساوية كالتي يعيشونها، والتي عاشها آباؤهم من قبلهم.

7

تكدس الناس فوق الناس. وبتَّ ترى ثياب الصغار والكبار المغسولة متراصّة على شرفات البيوت والفنادق والشقق المفروشة غير المؤهلة لاستقبال العائلات الكبيرة العدد في الحمراء. والغرفة التي أُجرت بثلاثمائة دولار في الشهر في اليومين الأولين من المعارك، ما عاد أصحاب مثلها يقبلون بأقل من ألف أو ألفي دولار إيجارًا لها.

ووجد بعض البيروتيين من أصحاب الدخل المحدود فرصة لمساعدة أنفسهم ومواطنيهم المهجرين، فانضم العجائز ليسكنوا في بيوت أولادهم وأجَّروا بيوتهم لمدة شهر أو شهرين، على أمل ألا تستمر الحرب لأكثر من هذه المدة.

كما أجَّرت بعض الخادمات غرف منازل مخدوميهن المسافرين، أو حتى أجَّرن غرفهن الخاصة على السطح، وقد استأجرت جارتي الأستاذة الجامعية إحدى هذه الغرف ريثما تنتهي الحرب.

8

في المساء، ينتشر المهجرون في الطرقات، ومعظمهم من النساء اللواتي تنجب الواحدة منهن ستة أطفال على الأقل. ينتشرون قرب محلات بيع المعجنات التي تُشبع ولا ترهق الجيب. أما الأكثر غنى، فيذهبون إلى المطاعم القريبة من مناطق إقامتهم ويتناولون الوجبات السريعة وعيونهم مُسمَّرة على شاشات التلفاز الكبيرة التي تصدرت جدران المطاعم. ويكثر عددهم ويزداد تسمر أعينهم كلما اُعلن عن موعد خطاب للسيد حسن نصر الله الذي يؤمنون أنه لا يقل بطولة عن صلاح الدين الأيوبي، أو الظاهر بيبرس، أو خالد بن الوليد أو غيرهم من أبطال التاريخ الذين نؤمن ببطولاتهم وتفوقهم.

ويؤمن المهجّرون، حتى المتعلم منهم علومًا عالية، أن «جيش المهدي المنتظر» يقاتل مع مقاتليه في الجنوب وبعلبك، وإلا فما سِرُّ الانتصار على جيش أقوى دولة عسكرية في المنطقة؟ كما يزداد تسمر أعينهم كلما أعلن عن انعقاد جلسة لمجلس الأمن، لعل وعسى...على أن الفرق بين الانتظار الأول والثاني، أنهم يؤمنون بما يقول الأول، ويشكّون بما يصدر عن الثاني.

9

بعد الثانية عشرة ليلاً، لن تستغرب رؤية سيارات ينام عدد من الأطفال في مقاعدها الخلفية متكورين على أنفسهم، بينما تنام أمهاتهم في المقعد الأمامي، فاتحات أبوابها نصف فتحة ليتنفسن وأولادهن هواء «تموز» فـ «آب» الحار الرطب، بينما يفترش رب الأسرة حصيرًا على الرصيف قرب أفراد أسرته، يتغطى بستار الليل حتى انبلاج الفجر، حيث ينهض نائمو الأرصفة قبل نائمي البيوت والفنادق منتظرين يومًا آخر قد يقربهم من موعد العودة إن كان هناك من عودة. فمن يدري أي مخطط جهنمي يُرسم للمنطقة وأبنائها، وأي مخطط ديموغرافي يطبق لينقَل منه الناس من مكان إلى مكان كما تنقل أحجار الشطرنج؟

10

قصفت الجسور، ومعامل الألبان والأجبان، ومعامل البيوت الجاهزة، والمستشفيات، والمعاهد، والشاحنات، وأحواض تربية السمك، والسيارات التي تقل الهاربين إلى سورية وإلى بقية المناطق اللبنانية الأكثر أمنًا، وسيارات الإسعاف، وكل من يقود دراجات نارية، والبشر، والحجر، والقطط، والحمير، والكلاب، والسلاحف، وحتى النمال...

قصف الصغار قبل الكبار، والنساء قبل الرجال، والعجائز قبل الشباب. وقصفت الضاحية كما القرى الجنوبية والبعلبكية: بعنف، ووحشية، فسحقت الأجساد سحقًا، وشربت الجارة كئوس دماء أطفال وشيوخ ونساء جيرانها مترعة.

وباختصار: نعيش مجازر مبرمجة ممنهجة.

11

نفد الوقود، وزادت ساعات تقنين الكهرباء حتى تجاوزت اثنتي عشرة ساعة، ووجد المهجرون من أصحاب العائلات الكبيرة العدد صعوبة مادية في شراء مياه الشرب، فراحوا يبحثون عن طرق لتصفية مياه الحنفيات وتعقيمها لشربها رغم عدم صلاحيتها للشرب بسبب قِدَمِ القساطل الحديدية الناقلة لها إلى البيوت.

12

مشهدٌ يتيمٌ واحد أثار بقايا مواطن الجمال في النفوس، وهو أن الحرب أعادت إلى شاشات تلفزيوناتنا أصوات فيروز، وماجدة الرومي، ومارسيل خليفة، وجوليا، ووديع الصافي، وصباح... وأنها أعادت إلى أسماعنا أغاني النضال العريقة التي صدحت بها حناجر عبد الحليم حافظ، وأم كلثوم، وشريفة فاضل...

هذا ما قاله أحدهم وعيناه تلمعان وهو يستمع إلى أغنية عبد الحليم حافظ: «فدائي»...

13

حيدر، صديق الأولاد، وهو شاب جامعي مثقف، رفض مغادرة الضاحية مع أمه وأخيه وأخته باعتبار أن منطقة «المرَيْجة» الواقعة بين حارة حريك وحي السلم لم تقصف وقد لا تقصف، كان حلقة الوصل بيننا وبين أخبار بيتنا، وذلك لأنه يتنقل بعد كل غارة على الضاحية راكبًا دراجته النارية، متفقدًا أخبار بنايتنا وبناية عمته التي هجّرت إلى منطقة برمانا الجبلية. بنايتنا شامخة في اليوم الأول، والثاني، والثالث، والعاشر، والسادس عشر... وفي اليوم السابع عشر، هدمت بناية ملاصقة لبنايتنا رائعة الهندسة، فيها مكتبة عامة للأطفال، وبناية وراء بنايتنا فيها معهد تعليم الموسيقى، فانخلعت أبواب ونوافذ بنايتنا بفعل الضغط، ولكنها بقيت صامدة.

أما في اليوم الثلاثين، فقال حيدر إنه يأسف أن يقول إن بنايتنا قد هدمت!

هدمت؟ لماذا؟ وماذا في بنايتنا؟ منزل أستاذة جامعية تدرّس القانون الدولي وتهوى تربية العصافير والقطط الفارسية، وعيادة طبيب أسنان، ومعهد تجميل للسيدات، ومنزل أستاذ ثانوي شيوعي متقاعد مريض بالقلب، وعائلة أم جلال الأرملة الفلسطينية التي تفخر بأنها وضعت خطة علمية لتعليم أبنائها الواحد إثر الآخر وذلك بأن يعمل كل الإخوة أربع سنوات حتى ينال أخوهم «الليسانس» من الجامعة الأمريكية، فينزل هو إلى سوق العمل، ويأتي دور ثان، وهكذا...

وفي بنايتنا ناد رياضي للسيدات، وعيادة طبيبة فيزيائية من موارنة حارة حريك، وحلاق شعر للرجال، واختصاصية في التربية، ومديرة معهد مهني، ومنزل صديقتنا رمزية الذي اشترته منذ شهر فقط وراحت تفرشه بأجمل الستائر والمفروشات، وأبو حسن السمكري، فلماذا تهدم؟

لماذا؟

لا جواب منطقيًّا على هذا السؤال في هذه الحرب ـ الزلزال.

14

- هل لديكم الشجاعة الكافية للقيام بمغامرة الذهاب إلى الضاحية؟

سألت أولادي، فأجابوا بصوت واحد في اليوم التالي، وكنت على موعد مع جارتيَّ: الأستاذة الجامعية والطبيبة الفيزيائية:

- نعم!

وسألتهم:

- أقوياء؟

قالوا:

- أقوياء.

15

لم يكن الطريق من الحمراء إلى حارة حريك سهلاً، فكل الجسور المؤدية إلى الضاحية قد قصفت، ومعظم الأبنية على جانبي الطرق الفرعية قد تضررت بشكل هائل فضاعت معالمها وكأن زلزالاً قد ضربها، فبدت الضاحية أشبه بمنطقة أشباح بلا أشباح، اللهم إلا المناطق التي لم تقصف فيها، حيث بقيت فيها بعض العائلات التي تحلم أن تنتهي الحرب قبل أن تذوق مرارة التهجير التي تذوقها أكثر من مليون لبناني نصفهم من الأطفال، وقبل أن تذوق مرارة الهرس.

لم يستطع أحدنا أن يتفوه بحرف ونحن نرى مانرى، ولكن قلوبنا كانت تخفق بشدة كلما اقتربنا من حيِّنا.

حينا؟ أي حيٍّ؟ أين هو؟ أين معالمه؟

استطاعت عيوننا أن تلتقط مبنى كنيسة حارة حريك، وقبله مبنى مسجد الحسنين الذي لم يقصف بعد، ولكنه قصف في اليوم التالي.

- إلى الأمام!

قلنا معًا، ولكن كان من الاستحالة أن ينفذ السائق طلبنا، فقد توقف الطريق عند مبنى المكتبة العلمية التي ما بقي منها إلا لوحتها وأكوام الحجارة المختلطة بأثاث المنازل.

وترجلنا بعد أن رأينا جارتينا الأستاذة والطبيبة اللتين وقفتا أمام كوم أحجار بنايتنا. كانت أشبه بقطعة بسكويت سحقت بحيث لا يمكن لأحد منا أن ينقذ من بيته قطعة مهما صغرت. وكيف لنا أن نفعل والبيوت استلقت على البيوت؟

مررت بيديّ على أيدي أولادي بصمت، وعرفت أن كل واحد منهم يتذكر الآن أهم ما كان يحلم أن يجده سليمًا وما وجده.

تساوى شعور الغضب والحزن لدينا، ولمعت الأعين بالدموع التي لم تنهمر، بل تحولت إلى ابتسامات انتقلت من شفتي جارتنا الطبيبة إلى شفاهنا جميعًا بعد أن أشارت بسبابتها إلى أحد أصص النبات الأخضر التي علت كوم الحجارة الهائل، قائلة:

- انظروا..

وعرفت فيها نبتة الخبيزة الخضراء التي زرعتها لي أمي قبيل الزلزال بأسبوعين وكانت تزين شرفة منزلنا، أو... ما كان منزلنا.

لقد تفتحت وردة حمراء صغيرة متحدية العطش الذي دام شهرًا متمسكة بجذورها الممتدة في التراب المحيط بها إحاطة الأم بوليدها وكأنها تلقن العدو درسًا في البقاء والبناء، كما في كل مرة، من الصفر، من تحت الصفر.

تركت أيدي أولادي، واتجهت أصعد كوم الحجارة. وصعد الأولاد ورائي لنجلب معًا أجمل رمز كان يمكن أن يبقى. وما إن نزلنا إلى ما كان شارعًا مزفتًا، حتى دوى صوت انفجار عنيف هز المنطقة، فسارعنا وجارتانا للاحتماء بجدار بناية البنك المقابل التي مازالت واقفة، وتلا الصوتَ صوتُ تهدم حجارة وغبار كثيف بعيد بعض الشيء. وسقطت من بناية البنك حجارة نبهتنا إلى الجنزير الحديدي الذي أغلقت به بوابتها السوداء الحديدية وإلى الشريط الأصفر الذي كتب عليه: «يمنع الاقتراب... منطقة محظورة...خطر الموت».

هنا همست جارتي الأستاذة قائلة:

- ابتعدوا... فالبناية آيلة إلى السقوط في أية لحظة..

وركضتْ نحو سيارتها، وركضنا وراءها لنتكدس فوق بعضنا، تاركين المكان مع قو\افل سكان الأحياء المجاورة التي هُدد سكانها بتركها عبر مناشير ألقيت للتو لأنها ستقصف.

لمست أوراق نبتتي الخضراء، وابتسمت، فابتسم أولادي، وهمست:

- سنبحث لها عن شرفة أخرى في حي آخر.

 

إيمان بقاعي 




إصرار على البقاء ومواصلة الحياة رغم ما أحدثته ألة العدو الصهيوني التدميرية