جمال العربية: «المازني» وحصاد عيش

جمال العربية: «المازني» وحصاد عيش

شاعر النفس الإنسانية:

بالرغم من أن إبراهيم عبدالقادر المازني كاتب كبير وروائيٌّ مبدع وناقد متميز ومترجم من طراز نادر، إلا أن شعره وجه من وجوه إبداعه الزاخر، نجد له مذاقًا مغايرًا تمامًا لرفيقيه من شعراء جماعة الديوان: العقاد وشكري.

ومع تعدّد هذه الوجوه التي تمثل اكتمال جوانب عبقريته الإبداعية، يظل لشعره حضوره ونفاذه وسحره، واتصاله بأعمق ما تحمله الوشائج الإنسانية، فهو شاعر النفس الإنسانية المتفرِّد، الذي غاص في زواياها وجوانبها، وأحزانها وانكساراتها، ولواعجها وأشواقها وتطلعاتها ومطامحها، كاشفًا في غوصه العميق عن نفسه الحزينة الكسيرة، محاولًا أن يضفي عليها غلالة من سخريته وفكاهاته المرة، متعاطفًا مع سائر النفوس والأشياء، من خلال نظرة شاملة للكون والحياة، ومحاولة دائبة للتعبير الطازج غير المكرور، لأن في هذه الجدَّة وفي هذه المحاولات، تكمن عبقرية المازني وتفرّده، ولجوؤه إلى الارتفاع عن مستوى الانكسارات والإخفاقات، والاستعلاء على مواقف الضعف والنكران، وهو الذي كان يعاني ـــ طيلة حياته ــ قِصَرًا في القامة، وضآلة في الجسم، وعرجًا في ساقه بسبب حادث قديم. لكن قارئ شعر المازني لا يلبث أن يذوب في رحاب قلب كبير وعاطفة كبرى، متجاوزًا سخريته ومرارته وحدَّته، واصلًا إلى الطبقة الماسية أو الذهبية في تكوينه الوجداني، حيث الاتساع الرحب لضعف الإنسان، وخضوعه لسيطرة المقادير، وانكساره أمام عواصف الحياة العاتية وفجاءاتها المدمرة.

أليس هو القائل عن نفسه تحت عنوان «الشاعر المحتضر»:

فتًى مزّق الحبُّ المبرحُ قلبه
كما مزّق الظلَّ الضياءُ أياديا
قضى نحْبهُ كالمُزْنِ فِضْنَ مدامعًا
وخلَّفْن آثارًا لهن بواديا
ولمَّا دنا منه الحِمامُ ورنّقت
منيّته، نادى الصفيَّ المصافيا

ويرثى نفسه - وهو حيٌّ:

وهي قصيدة قالها في نفسه على لسان آخر، وسأل صاحبًا له أن يرثيه بمثلها، وهى تجربة لم يمرّ بها غيره من الشعراء، على الأقل في ديوان الشعر العربي كلّه، صراحةً وجرأةً وصدْقًا وإبداعًا، وهجاءً ولعْنًا، وهو يقول:

قضى غير مأسوفٍ عليه من الورى
فتى غرَّهُ في العيش نظمُ القصائدِ
لقد كان كذّابا وكان منافقًا
وكان لئيمَ الطبع نزْرَ المحامدِ
وكان خبيث النفس كالناس كُلِّهم
جبانا، قليل الخير، جمَّ الحقائدِ
وقد كان مجنونًا تضاحكهُ المنى
وفي ريقها سُمُّ الصِّلالِ الشواردِ
فعاش، وما واساه في العيش واحدٌ
ومات، ولم يحفل به غيرُ واحدِ
وجاء إلى الدنيا على رغم أنفه
وراح على كُره الأماني الشواردِ
أراد خلود الذكر في الأرض ضلّةً
فأورده النسيانُ مُرَّ المواردِ
ولم يبكه إذ مات إلا أجيرةٌ
لها زمرة لولا اللَّها لم تصاعدِ
فلا دمع يروي يوم ولَّى ترابهُ
وكيف يُروِّي تُرْبَه غيرُ واجدِ
فلا تندبوه إنه ليس بالأسى
حقيقا ولا أهل الهمومِ العوائد
وخلُّوه للديدان تأكلُ لحمهُ
وذاك لَعمْري خطْبُ كلِّ البوائدِ
ولا تُزعجوا الديدان بالندب إنها
هَديٌّ لمن تطويه سودُ الملاحدِ
وقوموا ارقصوا قد فاز بالموت موجعٌ
بلى، ربما كان الرَّدى خيْرَ ضامدِ

وفي حديث كثير من نقادنا المعاصرين عن شاعرية المازني التفات إلى إحساسه الشديد بالفردية، والحرية الشخصية، وطابع شعره الجديد ــ بين شعر رفيقيه في جماعة الديوان ــ الذي يمثل مذهبهم التجديدي وطابعهم الذهني. فالدكتور محمود الربيعي يرى أن المازني رومانتيكي من رأسه إلى قدمه، وأنه يمكن أن يقال: إن موقفه الفني كله من الحياة موقف رومانتيكي. ويصف الدكتور محمد مندور نظرية الشعر عند المازني بأنها تجمع بين رومانسية المضمون ورمزية التعبير. في حين يرى الدكتور مصطفى ناصف أن المازني الناقد والفنان ذو حساسية رمزية.

يقول المازني في واحدة من قصائده الفاتنة، العميقة النفاذ إلى وجدان المتلقي، المسترسلة في شفافية عذبة وتدفق إيقاعي منهمر، وهى قصيدته:

«حصاد عيش»:

يا حسنُ وا حسْرتا على غُررِ
جَوْدتُها فيكَ، بل على سُورِ
أبليتُ فيكَ الصِّبا وجِدَّتهُ
والعمرُ عهدُ الشبابِ والصغرِ
يا ناطق الحسن مَنْ لعاشقهِ
بمَنطقٍ كالجمال مُختصرِيا
ضاحك الثغر منْ لعابِسه
بمثل سحِّ الغمائمِ الهَمرِ
يا ناعم البال إنّ كاسفهُ
موصول خَيْطِ الرجاء بالذِّكرِ
يا ساكن النفس إنّ ثائرَها
مضناك قد صار ميّتَ الخبرِ
أقعدهُ الهمُّ عن مراغبهِ
كالنَّسْرِ هاضتْهُ رعشةُ الكِبرِ
أنفاسه زفرةٌ مُتقطّعةٌ
كأنما قد أصيبَ بالبَهرِ
يظلُّ في فحمة الدجى أبدًا
يرسل حيرانَ رائدَ الفِكرِ
كيف سَعتْ بي إليكم قدمي
لو نال ردًّا مسائل القَدرِ
تُرى تريهِ الأحلام عاشقةُ
مزدهف اللّبِّ بيِّنَ الصُّوَرِ
يا ليتني في الكرى أخوض له الغَيْـ
ـبَ، وأطوي مسافةَ الهجرِ
يطلع طيفي كالفجر مُنفلتًا
من الدجى في غلائلِ السَّحرِ
أقول قد جاءك المعذَّبُ في اليقْـ
ـظةِ في كلِّ مُدّةِ العُمرِ
يا زهرة الحسن ما لنِفحْتها
تُخطئنا دون شائكِ الإبرِ
أليس للوجد والأسى أمدٌ
فكلُّ شيءٍ أراهُ ذا عُمُرِ
يا ثانيَ العِطْفِ بعض زهوك، إنّ
العيش وردٌ مُرنّقُ الصَّدرِ
أهونْ بشيءٍ يلفُّه كفنٌ
وينطوي في الترابِ
والمدَرِأدُميةٌ أنت لا حياة بها
لضلّ باغي الحياة في الصورِ
لا عجبٌ أن تكون ذا عُنُفٍ
ياليِّنَ الحُسْنِ يا أخا الحَوَرِ
النفْسُ مثْلُ الحياةِ مُعتَركٌ
تسطو بها أَنعمٌ على أُخَرِ

المازني والآداب الأجنبية:

وللعقاد رأي في تأثر شعراء الديوان ــ ومن بينهم المازني ــ بالآداب الأجنبية، وبخاصة الأدب الإنجليزي حين يقول: «الواقع أن هذه المدرسة المصرية ليست مُقلّدة للأدب الإنجليزي، ولكنها مستفيدة منه، مهتدية على ضيائه. ولها بعد ذلك رأيها في كل أديب من الإنجليز كما تقدره هي، لا كما يقدره أبناء بلده، وهذا هو المطلوب من الفائدة الأدبية التي تستحق اسم الفائدة، إذ لا جدوى هناك فيما يُلغي الإدارة ويشمل التمييز، ويُبطل حقك في الخطأ والصواب، وإنما الفائدة الحقة هي التي تهديك إلى نفسك ثم تتركك لنفسك تهتدي بها وحدها كما تريد، ولأنْ تخطئ على هذا النمط خير من أن تخطئ على نمط سواه».

ثم يقول العقاد: «لقد كانت المدرسة الغالبة على الفكر الإنجليزي الأمريكي بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، هي المدرسة التي كانت معروفة عندهم بمدرسة النبوءة والمجاز، وهي المدرسة التي تتألق بين نجومها أسماء: كارليل، وجون ستيوارت ميل، وشلي، وبيرون، ووردزورث. ثم خلفتها مدرسة قريبة منها تجمع بين الواقعية والمجازية، وهي مدرسة بروننْج، وتنيسون، وإمرسون، ولونجفلو، وبو، وويتمان، وهاردي، وغيرهم ممن هم دونهم في الدرجة والشهرة. وقد سرى من روح هؤلاء الشيء الكثير إلى الشعراء المصريين، الذين نشأوا بعد شوقي وزملائه، ولكنه كان سريان التشابه في المزاج واتجاه العصر كله. ولم يكن تشابه التقليد والغناء، أو هو سريان جاء من تشابهٍ في فهم رسالة الشعر والأدب، لا من تشابه فيما عدا ذلك من تفصيل».

هذا المزاج، وهذه الروح التي سادت العصر كلّه، نجد انعكاسًا لهما في مقاطع قصيدة المازني، التي تستشرف الحياة والعيش، وتتأمَّل الإنسان في مرآة الكون، والفرد في مواجهة المجموع، مردِّدا كلمة «الهشيم» التي أكثر المازني من استخدامها ضمن معجم مفرداته في الشعر والنثر، والتي جعل منها عنوانًا لأول كتبه وأكثرها كشفًا عن روحه وفكره ووجدانه: «حصاد الهشيم»، يقول:

«حصاد عيشي الهشيم»:

يا سنةً غالها الزمان وما
غالت سوانا حوائل العصرِ
ليت زمانا مضى تودِّعنا
همومه العائداتُ بالذِّكرِ
أو ليت ينسى الفتى حوادثه
جمعاء حادي الرّوْحاتِ والبُكَرِ
يستدبرُ الحوْلَ غير ذاكرهِ
حتى كَأنْ لم يكن ولا طرق الدَّهـْ
ـر ذراه بالصفو والكدرِ
خلّى غبار الأسى لنا ومضى
عام بغير الأهوالُ لم يدرِ
مهنئي بالجديد من زمني
خلَّفني العامُ غيْرَ ذي مَطرِ
خلَّفني مُتْعبًا أئنُّ من البرْ
حِ، ولا أستقرُّ من ضجري
مغرورق العين غير فائضها
ما أوْجَع الدمعَ غير منهمرِ
منتفضًا لا أزال ألتمسُ الشَّمْـ
ـسَ، وهيهات لا سوى الغَررِ
حصاد عيشيَ الهشيم، وا أسفى
على الرطِيب الرفيف من شجري
ينشر لي لذَّتي كما يُنشر الصَّيـْ
ــــفُ بُعيْدَ الشتاءِ والمطرِ
فتمرح النفس في رياض هوًى
حوائلٍ بالثمار والزَّهَرِ
وتسعدُ القَلْبَ زهرةٌ أُنفٌ
أغنى الصِّبا حُسْنها عن الدُّررِ
هات اسقني يا نديمُ، وا ظمئي
حتى ترانى نسيتُ مُدَّكري
إنّ أغاني الأسى وإن حَسُنتْ
أرضيةٌ يا نديمُ فاقتصرِ
أرْجعتْنا صبيةً مواجدُنا
منطقنا صرخةٌ من الخَورِ
نلتمسُ النور كلَّ مُلتمسٍ
هيهات والحظُّ جِدُّ مُعتكرِ
هل كان ما مرَّ من لذائذنا
كما زعمناه طِيب مُختبرِ
ينبوع صفو النهار مزدحمٌ
لكنما الوهم صيقل صنعٌ
يحيلُ لمع الزجاجِ كالدُّررِ
والمرءُ أعلى بما مضى نظرًا
لبعدهِ أو لحاضرِ الغِيَرِ
لكنّ صدر الفتى يجيشُ، فما
يُسعد كالشعر، غيْرَ مُعتسّرِ
كما احتبى بالهشيم ذو عدمٍ
لم يُلْفَ إلاهُ في الدُّجَى الخَصرِ

ونستشرف في ختام قصيدة المازني ذروة فكرية وتأملية سامقة، يسيطر عليها نزعة روحية غامرة، كأنها نفحة صوفية، تجرّد خلالها الشاعر الإنسان من طينيته وانتمائه إلى عالم المادة، ليصبح كيانًا شفافًا رائقًا لا تزحمه النّزعات والشهوات، ولا تؤودُه فتن الدنيا وزخارفها الباهرة. وهنا، لأول مرة في قصيدته البديعة، يطالعنا معجم من طراز فريد، معجم يتسق وطبيعة هذا الطابع الروحي المتأمل، تلتمع من خلاله كلمات: المحراب، ويرتِّل، والراهب، وآيات الحسن، والمذبح، والقربان؛ حين يختتم المازني قصيدته بقوله:

ذهنيَ محرابُ حُسنكم وبهِ
صورتكُم، دون سائر البشرِ
وخاطري لا يني يُرتِّلُ كالرَّا
هبِ، آياتِ حُسْنكِ العَطرِ
لأبْنينْ مَذبحًا، وأجعل قُر
باني فؤادي وما انقضى وَطَري
إذا خَبتْ نارهُ وقصْتُ لها
عود المنى، فهو غيرُ ذي ثمرِ
فاقبل فؤادي لحسن وجهكَ قُرْ
بانًا، فقد كان خيْرَ مُدَّخري!

***

بين عامي 1890، 1949 عاش المازني حياته الحافلة بإبداعه الأدبي في الشعر والرواية والقصة والمقال القصصي والمسرحية والنقد الأدبي. تخرَّج في مدرسة المعلمين العليا عام 1909، وعمل مدرسًا للترجمة في مدارس التعليم الثانوي، ثم مدرسًا للغة الإنجليزية بمدرسة دار العلوم، قبل أن يتفرَّغ للكتابة.

وفي هذه الحلقة من «جمال العربية»، التفات إلى واحد من نصوصه الشعرية البديعة، الكاشفة عن الأحوال النفسية والإنسانية، المعبِّرة عن ذاته القلقة المضطربة، والمستفيدة من تطبيق المبادئ النظرية التي دعا إليها هو ورفيقاه ـــ العقاد وشكري ـــ فى كتاباتهم النقدية.

ولمن يودُّ من قراء «العربي» الاستزادة من إبداع المازني أن يعود إلى أهم آثاره النقدية والقصصية والإبداعية في مقدمتها: ديوان المازني، وكتبه: حصاد الهشيم، وقبض الريح، وصندوق الدنيا، وخيوط العنكبوت، وإبراهيم الكاتب، وعوْد على بدء، وإبراهيم الثاني، وفي الطريق، وع الماشي، ومن النافذة، وكتاب «الديوان» بالاشتراك مع العقاد، والشعر غاياته ووسائطه.

------------------------------------

يا فلسطين لا تنامي ففينا
أمة تصفع الزمان القاهر
كل شبرٍ على أديمك دنيا
سوف يفديه شعبك المتضافر
كل فردٍ معذب بأمانيه
على أمانيك يقظان ساهر
مزقي حالك الظلام وسيري
بالميامين عبر هذي المجازر
فحرام عليك أن يطلع الفجر
وفي سوحك الجميلة كافر

كمال ناصر

 

فاروق شوشة