بيكيت الذي نتذكره

بيكيت الذي نتذكره

Beckett Remembering/Remembering Beckett

جاء هذا الكتاب في موعده تمامًا، حيث حلت الذكرى المئوية الأولى لمولد بيكيت هذا العام 2006، فقد ولد في 13 أبريل 1906، وتوفي عام 1989.

يتبوأ بيكيت مرتبة صوفية نادرة، كراهب لعالم متناهي الصغر، ويبدو أحيانًا كأنه يفتقر إلى السمات الإنسانية، صفاته الجسدية ما فتئت تلازمه: عيون ثاقبة، شعر متعدد الألوان، وجه متغضن كسلحفاة جزر «الجلاباجوس» في المحيط الهادي، بالإضافة إلى حساسية مفرطة لمقاساة لا تخطر على بال، نتيجة لخجل مرضي، كما أنه كان مفتقرًا إلى علاقات اجتماعية سوية سببها عدم التفاعل مع أنداده، وتقوقعه بعيدًا عنهم، وهو يقول: «كان زملائي يغترفون من كأس السعادة، يحتسون الجعة، ويلعبون - عندما كنا طلابًا - بينما أنا أنطوي على ذاتي، وألجأ إلى الكنيسة لكي أصلي».

من بين الكتّاب الرئيسيين في القرن العشرين، يظهر بيكيت بسبب إرادته التي لا تلين، ونقاء اتجاهه الأدبي الذي لا هوادة فيه، كانت معظم أعماله تتخللها سخرية لاذعة لاستكشاف مدى الشجاعة للأحاسيس الكلية في التواصل الإنساني للعالم البارد، سواء اتخذ عمله نثرًا سرديًا، أو شعرًا، أو نقدًا أو دراما.

جسارته في توخي الحقائق المطلقة، جعلت كتاباته وثائق لا تقدر بثمن للتجربة الإنسانية، وأعماله التي سلطها على وعي الإنسان لإيقاظه من سباته، في الوقت نفسه، تُمثّل مساهمات فعّالة نحو التفكير الفلسفي القائم على الخبرة الخاصة، والذي يهتم بالتجربة الإنسانية.

كان بيكيت يكتب باللغتيتن الإنجليزية والفرنسية، ويترجم من لغة لأخرى، حسن الديباجة لا نظير له في كلتا اللغتين، إنتاجه في النثر كان ضئيلاً، سرده وشعره الدرامي وضعا في قالب يتسم باللطف، ويمتاز بالرقة، رغمًا عن أن إيقاعاته يصعب فهمها أو رؤيتها - أحيانًا - وتركيباته معقدة.

ولد صمويل باركلاي بيكيت في 13 أبريل 1906 في فوكس روك، وهو حي من أحياء دبلن، مثل رفاقه من ذوي الأرومة الأيرلندية جورج برنارد شو، وأوسكار وايلد، ويليم بليك وييتس، ينحدر من خلفية أنجلو / أيرلندية، يدين بالبروتستانتية.

لقاء مع جويس في سن الرابعة عشرة، ذهب إلى المدرسة الملكية في (بورتورا)، الكائنة بشمال أيرلندا، هذه المدرسة ترضي طموحات الطبقة المتوسطة التي ينحدر طلابها من أصول أنجلو / أيرلندية، ما بين عامي 1923 - 1927 درس اللغات الرومانية بكلية (تريفتي)، دبلن، حيث حاز على البكالوريوس، عمل بالتدريس في إحدى مدارس بلفاست، ثم دفعه طموحه إلى أن يصبح مقيدًا في اللغة الإنجليزية بباريس في Ecole Normale Superieure عام 1928، هناك قابل جيمس جويس روائي القصة الحديثة، حيث كان منفيًا برغبة منه.

وقد انضم كلاهما إلى رابطة الأدباء في باريس، وتلاقحت أفكارهما هناك، حيث كتب الأول معظم أعماله، وأنتج الثاني روايته الشهيرة يوليس Ulysses، ولم يعمل بيكيت قط سكرتيرًا لجويس - عكس بعض التقارير التي ألمحت إلى هذا - وعندما عاد إلى أيرلندا عام 1930 شغل مقعد محاضر في اللغة الفرنسية بكلية ترينتي، وسرعان ماقدم استقالته بعد أن درّس لأربعة فصول دراسية فقط. طوى شراع سفينته وجنح إلى لندن بعد فترة قلقة في حياته، أعقبها رحلة إلى فرنسا وألمانيا، وأخيرًا إيطاليا، في عام 1937، قرر بيكيت الاستقرار في باريس، كمواطن محايد إبان الحرب العالمية الثانية، وكانت لديه القدرة على أن يمكث هناك حتى بعد احتلال باريس وسقوطها في أيدي الألمان، ولكنه آثر الانضمام إلى مجموعة المقاومة السرية في عام 1941، وبعد عام تناهى إلى سمعه أن أعضاء تلك المجموعة تم القبض عليهم من قبل الجستابو، وذهب سريعًا للاختباء والاحتماء (اغتنم هذه الفرصة واستكمل روايته Watt، حتى خرجت إلى النور عام 1953)، وأخيرًا انتقل إلى المنطقة غير المحتلة من فرنسا، حتى تم تحرير بلاده، وهناك اشتغل عاملاً زراعيًا لإعالة نفسه.

حقبة مثمرة

في عام 1945، ذهب إلى أيرلندا متطوعًا في الصليب الأحمر الأيرلندي، وآب إلى فرنسا كمترجم في المستشفى العسكري في Saint-Lo بنورماندي، ثم ذهب أخيرًا إلى عاصمة النور في شتاء 1945، كانت هذه الفترة بمنزلة مخاض لأعمال فكرية خلاّقة مركّزة، بل إنها كانت بمنزلة حقبة مثمرة في حياة بيكيت، وقد كتب في تلك الحقبة - قبل أن تضع الحرب أوزارها - مقالتين حول جيمس جولس ومارسيل بروست، وظهر الكثير من أعماله مرة أخرى تحت مسمى B.R./R.B. (نتذكر بيكيت/بيكيت الذي نتذكره)، كتب ثلاثيته: ملوي Molloy عام 1951، وفاة مالون Malone Dies عام 1951، وغير قابل للتسمية The Unnameble عام 1953.

كشف بيكيت عن سعة اطلاع، وأبانت كتاباته عن أنه «طلاع الثنايا» بحق، ويشير خفية إلى ما يصعب فهمه ويبعد غوره، والأسئلة الأساسية التي يطرحها بيكيت تبدو كالآتي: كيف نستطيع أن نتوصل إلى الحقيقة، دون أن يسأل أحد منا لماذا قُذف بنا إلى هذا العالم، إلى الوجود؟ ومَن نكون نحن؟ ما الطبيعة الحقيقية لذواتنا؟ ماذا يعني الإنسان عندما يقول «أنا»؟

أثار في ثلاثيته التي اعتمد فيها على النثر السردي الروائي، مشكلة هوية النفس البشرية من الداخل، رأي أن هذه معضلة أساسية نوجزها في بساطة، فعندما أكتب أتحدث حول ذاتي، جزء يخصني واصفًا الجزء الآخر، أنا في كلتا الحالتين أكون أنا الملاحظ والملاحَظ، فأيّ منهما يكون الحقيقي؟ لعل بيكيت في الوقت السابق كان متأثرًا بمقولة الفيلسوف الفرنسي ديكارت Cogito Ergo Sum، أنا أفكر إذن أنا موجود، أراد بيكيت أن يستحوذ على جوهر الوعي الذي هو عصب الوجود في MoranوMolloy هما خير نموذج في ثلاثية بيكيت للملاحِظ والملاحَظ.

تأثر بيكيت بالكوميديا الإلهية لدانتي، ديكارت والفيلسوف الألماني أرنولد جيلينكس، الذي تناول قضية تفاعل الجانب البدني والروحي في الإنسان، كان لمسرحيته في انتظار جودو Waiting for Godot عام 1954، أكبر الأثر في اعتباره الشخصية الرئيسية في دائرة رواد الأدب والمسرح العالمي، وكان لبيكيت مقدرة على الإمساك بتلابيب الوجدان بصورة تدعو إلى الإعجاب وبأسلوب فني لشخصيات لا يستغنى عنها.في آخر رواياته Watt، يمكن التعرف على البيئة الأيرلندية، لكن أغلبية الأحداث تجري بإيجاز شديد في عالم غير حقيقي.

هذا هو بيكيت، الذي كان يهوى التسوق في محلات «فايندلانز»، وكانت أمه تجيد عمل «مربى الموالح» وكان أبوه يتجول مع أخيه الصغير Sam، وهو الخجول الحيي الذي لم يذهب إلى استوكهولم لتسلم جائزة نوبل في الآداب لعام 1969، ليتحاشى الأحاديث العامة في مثل هذه الاحتفاليات. هذا هو بيكيت الذي قضى عن ثلاثة وثمانين عامًا، في عام 1989، والذي تحتفل الأوساط الأدبية هذا العام بمرور قرن على مولده.

 

إليزابيث نولسون