الإعلام العربي هل يقدر على حماية الثقافة؟

الإعلام العربي هل يقدر على حماية الثقافة؟

لاشك أن الاختراق الثقافي قد أصبح يمثل أحدث آليات الهيمنة المعاصرة. وبالنسبة لعالمنا العربي فإن هذه الهيمنة ليست جديدة، ولكنها أخذت أشكالاً مختلفة عبر مراحلنا التاريخية.

الواقع أن الثقافة العربية لم تكن مستهدفة بصورة مباشرة كثقافة في مرحلة الصراع الأيديولوجي شرق/غرب، بل كان هذا الصراع يخدمها على نحو ما باعتباره صراعًا ضد الأجنبي سواء كان شيوعيًا أو رأسماليًا، الأمر الذي كان يعزز الهوية الوطنية، ويخدم الثقافة القومية، أما العولمة، فقد حملت بعض المخاطر الثقافية التي تهدد المنظومة العربية التراثية والمعاصرة، من خلال البرامج التلفزيونية والمسلسلات الوافدة وبرامج الإنترنت، والتي يزداد تأثيرها السلبي خصوصًا في ظل عدم الالتزام بالمواثيق الدولية، التي تنص على احترام الطابع المميز للثقافات مثل إعلان اليونسكو 1978، وقرار الجمعية العامة 1982، الذي ينظم قواعد استخدام الأقمار الصناعية في البث التلفزيوني المباشر. وتتمثل أهم إشكالية تثيرها قضية الأقمار الصناعية في كيفية التوفيق بين الحقوق الاتصالية للأفراد والجماعات، والحفاظ على الهوية الثقافية، خصوصًا في ظل الانتهاك المتواصل من جانب الدول الكبرى للمواثيق الدولية في هذا الصدد.

كانت الأمة العربية من أوائل الشعوب، التي سقطت - ومنذ وقت مبكر من التاريخ الحديث - في دائرة استهلاك الثقافة، التي تنتج في المركز الأوربي، واستطاعت المركزية الأوربية فرض ثقافتها، والظهور بمظهر المتفوق على الثقافات الأخرى، ومنها الثقافة العربية، التي وجد عدد كبير من روّادها ومفكريها أنه لا بديل أمامهم عن اقتباس الثقافة الأوربية، وتعلم لغاتها والانبهار بتراثها العقلاني الليبرالي والنقل الحرفي لمؤسساتها الإدارية والمالية والسياسية والتربوية. وقد ترتب على ذلك ظهور أنساق جديدة للثقافة العربية المرتبطة والتابعة لثقافة المستعمر الأوربي ولغاته، وذلك على حساب اللغة العربية والتراث العربي الإسلامي. وقد تبنت هذه الأنساق وروجّت لها النخب العربية، التي نهلت من الثقافة الأوربية، وتعلمت في جامعاتها، مما أسفر في النهاية عن فقدان المشروع الثقافي العربي لاستقلاله، وتحول مشروع النهضة العربية الشاملة إلى قاعدة لتبعية أوربية شبه كاملة.

البحث عن مشروع

لقد عجزت النخب الثقافية في الوطن العربي عن صياغة مشروع ثقافي حضاري مستقل في مواجهة المشروع الثقافي الاستعاري الوافد، وبدلاً من ذلك، تمت المصالحة معه على أرضية التبعية نفسها التي تكرّست في المجالين السياسي والاقتصادي. ويلاحظ في هذا المجال أن النفوذ الثقافي الأوربي، الذي كان سائدًا في الوطن العربي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأ ينحسر لمصلحة النفود الأمريكي الذي تغلغل وترسّخ في الوطن العربي، عبر مجموعة من القواعد الثابتة أبرزها الكيان الصهيوني الإسرائيلي، وعززتها على المستوى الثقافي فروع الجامعات الأمريكية والبرامج والمسلسلات التلفزيونية والإذاعات والسينما والفيديو والإعلانات والمطبوعات وغيرها من وسائل الإعلام وأدوات الثقافة الوافدة. وقد أصبح من الصعب الفصل بين مشاريع السيطرة العسكرية الخارجية وأدوات الاختراق الثقافي والقوى الداعية له والمستفيدة منه على المستوى المحلي. وإذا كانت الأيديولوجية الاستعمارية الأوربية قد رسخت مفهوم التفوق الثقافي الأوربي على الثقافة العربية، فعطلت ظهور ونمو المشروع الثقافي العربي المستقل، وظهرت بدلاً منه الصورة الكاريكاتيرية الممسوخة، التي قامت على محاكاة وتقليد النخبة الثقافية العربية للثقافة الأوربية بكل مفرداتها وتمايزاتها، فإن مرحلة الهيمنة الثقافية الأمريكية الراهنة في ظل العولمة، تشكّل خطورة أشد، فهي من جهة أبقت على الأيديولوجية السابقة التي نشرتها أوربا في مرحلة تفوقها، وقبل أن تجبر على الرحيل الشكلي من الوطن العربي، ولكنها من جهة أخرى، زادت من تبعية العالم العربي، فتحوّلت التكنولوجيا المتقدمة إلى نمط استهلاكي مقابل تحول التراث الوطني العربي والقومي إلى مادة للسياحة والدعاية والإعلانات.

ولعل أبرز ما يميز الاختلال الثقافي للدول العربية أن ثقافاتها المحلية أصبحت أكثر عرضة لخطر التفتيت الثقافي، بل إن هذا الخطر قد بدأ يفعل فعله في بعض أجزاء الوطن العربي، وذلك بانبعاث النعرات العشائرية والطائفية مما يهدد التماسك الوطني للعديد من الدول العربية. أمثلة (البربر في الجزائر - الأكراد في العراق - جنوب السودان - الدروز والموارنة في لبنان).

الإعلام المعاصر

إذن ما العمل لمواجهة هذه التحديات التي تحاصر الإعلام العربي في عصر العولمة؟

هناك مستويان للمواجهة: المستوى الاستراتيجي، ويشمل السياسات والخطط، التي تتبناها الهيئات والمؤسسات القومية في الوطن العربي لمواجهة الاختراق الثقافي الغربي والصهيوني، وهيمنة آليات العولمة الثقافية، ويستلزم ذلك ضرورة أن تبادر الجامعة العربية إلى تبني استراتيجية ثقافية فاعلة، وقادرة على تجاوز الثنائية والانشطار الثقافي في الواقع العربي الراهن، وقادرة على مواجهة الاختراق الثقافي من خلال ثورة ثقافية شاملة ومتعددة المراحل، تستهدف إعادة بناء التراث الثقافي العربي من الداخل، لأن أي محاولات جادة لتجديد الثقافة العربية لا يمكن أن تتم إلا من داخلها.

ويتطلب ذلك ضرورة الاستفادة من الجوانب الإيجابية للتراث، في إطار الدراسة النقدية للتاريخ الثقافي للوطن العربي، وتوظيف هذه الجوانب في إطار مشروع حضاري يستند إلى بنى اقتصادية واجتماعية مناهضة تمامًا للبنى التقليدية السائدة حاليًا، ولا يتحقق ذلك إلا بنشر العقلانية كإطار فكري وكأسلوب للعمل في العلاقات السياسية بين الحكام والشعوب والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وبين الدول العربية على المستوى القومي، ثم مع العالم الخارجي على المستوى العالمي، كما ينبغي التأكيد على ضرورة احترام حقوق الإنسان العربي واعتباره قيمة حضارية في حد ذاته، وليس رقمًا مهملاً في خانة للطوائف والقبائل وأقبية السجون، والاعتراف من جانب الحكومات بحق جميع القوى الاجتماعية والسياسية والأقليات الثقافية في المشاركة في إدارة شئون أوطانها، والتمتع بعوائد ثرواتها القومية. ويضاف إلى ذلك ضرورة العمل على تدعيم دور المجتمع المدني في مواجهة المحاولات الدائبة من جانب الحكومات، وشبكات المصالح الدولية والمحلية لتحويل العالم العربي إلى مركز للتخديم على السوق العالمية التي تسيطر عليها القيم الاستهلاكية وتحكمها قوانين العرض والطلب، حيث يتحول المواطن العربي في إطارها إلى كائن استهلاكي عالمي وتتوارى سماته الحضارية وتمايزه الثقافي.

المواجهة الثقافية

أما المستوى الإجرائي للمواجهة الثقافية فهو يتضمن الوسائل والأساليب التي يتبناها كل قطر عربي على حدة، وبقدر ما تبرز أمامنا الأهمية القصوى لرسم السياسات والخطط، التي تترجم التصور الاستراتيجي العام للمواجهة الثقافية، فإن هناك ضرورة مماثلة لتحديد أبعاد هذه السياسات، وما تتطلبه من إجراءات عملية قابلة للتنفيذ، ويمكن إيجازها على النحو التالي:

1 - صياغة سياسات قومية إعلامية وتعليمية وثقافية تراعي الجمع بين خصوصيات كل قطر عربي والالتزام بالثوابت العربية المستقاة من تاريخ حركة التحرر الوطني العربية والتراث الثقافي العربي الإسلامي، والحرص على ترجمة هذه السياسات إلى برامج مشتركة تلتزم الدول العربية بتنفيذها تحت إشراف الجهاز الثقافي للجامعة العربية، وأعني به المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

2 - إعداد دراسات وبحوث توضح خريطة الخدمات الثقافية، التي تقدمها وسائل الإعلام العربية وعلى الأخص الإعلام المرئي والمسموع والاستعانة بنتائجها في إعداد الاستراتيجية الثقافية البديلة.

3 - إعداد كوادر إعلامية عربية مؤهلة ومدربة ومسلحة بالرؤية الثقافية العربية المشتركة، مما يزودها بالقدرة على مواجهة التحديات الثقافية وفي مقدمتها الاختراق الثقافي العولمي، والغزو الثقافي الصهيوني، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال سياسات عربية مشتركة في حقل التعليم الإعلامي، وبرامج مشتركة للتدريب على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال بما يلبي الاحتياجات الاتصالية والثقافية للجماهير العربية في الريف والحضر.

4 - الاهتمام بإعداد برامج إعلامية مشتركة لمحو الأمية في الوطن العربي، وبرامج نسائية وشبابية وللأطفال العرب، مع مراعاة أن تحوي هذه البرامج المضامين الثقافية القادرة على تحقيق أهداف المشاركة الجماهيرية كبديل للإعلام الرأسي الاتجاه السائد حاليًا، في الوطن العربي، والقادم من أعلى إلى أسفل، ومن النخب المثقفة إلى الجماهير، ومن العواصم إلى الريف، ومن الحكام إلى المحكومين.

5 - تشجيع الاتحادات المهنية في مجالي الإعلام والثقافة على استئناف أدوارها في توثيق وتنشيط العلاقات الثقافية والإعلامية ذات الطابع الشعبي والجماهيري، مثل اتحاد الصحفيين العرب واتحاد الكتّاب العرب.

6 -تبدو الأهمية الملحة للتنسيق والتكامل الإعلامي بين الدول العربية، خصوصًا في مجال تكنولوجيا الاتصال سواء كان الهدف نقل التكنولوجيا (بالرغم من مخاطرها في تكريس التبعية التي سبق الإشارة إليها)، أو توطينها، كذلك الحرص على السماح بتوزيع الصحف في مختلف أنحاء الوطن العربي، دون التقيد بالتقلبات السياسية، التي تتعرض لها العلاقات العربية في بعض الأحيان.

7 - تشكيل لجان قومية من الخبراء الإعلاميين والمثقفين العرب للإشراف على اختيار البرامج والمسلسلات التلفزيونية العربية والأجنبية، التي تتميز بمستوى إبداعي رفيع وتوجه حضاري إيجابي وثقافي، كي تتاح لها فرصة البث والانتشار على المستوى العربي.

8 - التعجيل بإخراج مشروع الوكالة العربية للأنباء إلى حيز النور مع مراعاة اختيار كوادر إعلامية متخصصة للإشراف على إدارتها وتشغيلها وذلك ضمانًا لتحجيم الدور الذي تقوم به وكالات الأنباء العالمية في تكريس التبعية الإعلامية والثقافية في الوطن العربي.

 

عواطف عبدالرحمن