جمال العربية
جمال العربية
الغُربة على باب الرجاء ينتمي طاهر أبو فاشا إلى جيل من الشعراء المصريين، تعرّض لتأثيرات شتى ومتباينة من التأثيرات الشعرية المنهمرة في زمانه، فقد عاش هذا الجيل بداية الأفول للكلاسيكية الجديدة بعد رحيل فارسيها شوقي وحافظ، وبداية البزوغ لما عرف بعد ذلك بجماعة الديوان، التي اقتحم فرسانها الثلاثة: العقاد وشكري والمازني الساحة الشعرية في عشرينيات القرن الماضي. كما أتيح لهذا الجيل - جيل طاهر أبو فاشا - أن يشهد نشأة جماعة أبوللو، وازدهار تيارها الشعري على أيدي أعلامه الكبار الذين تجمّعوا تحت لواء الدكتور أحمد زكي أبو شادي وهم: إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل والهمشري في مصر، والشابي في تونس وغيرهم في العديد من الأقطار العربية. وامتد العمر برموز هذا الجيل حتى أدركوا حركة الشعر الجديد في منتصف خمسينيات القرن، وكان طاهر أبو فاشا أسرعهم إلى التجاوب مع قصيدة الشعر الحر، وكتابة عدد من نماذجها، لكنه سرعان ما أدرك أن جوهره الشعري ينتمي إلى التيارات الشعرية الأخرى، وبخاصة تيار جماعة أبوللو - الذي يمثل توهج الرومانسية المصرية - بأكثر من انتمائه إلى حركة الشعر الجديد. من هنا، لن تدهشنا أنفاس شعرية عدة تتردد في دواوين طاهر أبو فاشا، تحمل عبق مطران والعقاد وناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل، بعيدة عن التأثر بحافظ أو الجارم أو محمود غنيم أو غيرهم من رموز الكلاسيكية وظل طاهر أبو فاشا - حتى إنتاجه الأخير - عقاديّ النزعة فكرًا ومنطقًا وتحليلاً، رومانسي الصورة والخيال والعاطفة، الأمر الذي أكسب شعره - بصفة خاصة - هذا المذاق المتميز المغاير بشعر أقرانه، الذي كان أقربهم إليه أحمد مخيمر. ربما فسّر لنا هذا، حرص طاهر أبو فاشا على أن يقدم ديوانه الأول «صورة الشباب» الصادر عام 1932 الدكتور محمد غلاب - رئيس تحرير مجلة النهضة الفكرية، والحاصل على الدكتوراه في الآداب من جامعة ليون - والذي يمثل النظرة الكلاسيكية إلى القصيدة العربية، كما تمثلت في شعر أمير شعراء العصر أحمد شوقي، بينما حرص طاهر أبو فاشا على أن يقدم ديوانه الثالث «الأشواك» الصادر عام 1938 شاعر القطرين خليل مطران الذي اختارته جماعة أبوللو رئيسًا شرفيًا لها بعد رحيل شوقي، بما يمثله مطران من نزعة تجديدية، ومزاج رومانسي، ومعجم شعري مغاير للتيار الكلاسيكي. وكان رأي مطران في طاهر أبوفاشا كما جاء في تقديمه أنه «شاعر لا ريب فيه، ومفكر جريء، ومجدد من طراز الذين لا يفوتهم حسن الصوغ وجمال الديباجة، في غير موضوع من قصائده غرابة وطرافة، يرقى به نشاط الذهن إلى الابتكار». الطريف، والغريب في الأمر، أن طاهر أبوفاشا توقف عن نشر شعره بعد ديوانه الثالث الأشواك، ولم يعد إليه إلا في عام 1983 حين نشر ديوانه الرابع - واضعًا فيه ما اختاره من قصائد كتبها على مدار أكثر من أربعين عامًا - وهو ديوانه «راهب الليل»، ثم أتبعه بديوانيه «الليالي» عام 1986 و«دموع لا تجف» عام 1987. أما السبب في إهماله لشعره كتابة ونشرًا - طيلة هذه العقود من الزمان - فانشغاله بالكتابة للإذاعة، التي إن من حصادها ثمانمائة حلقة من ألف ليلة وليلة، وحلقات «ألف يوم ويوم»، التي كتبها لإذاعة الكويت، والأوبريت الغنائي «رابعة العدوية» الذي شدت بأغانيه أم كلثوم، وكلها من أشعار طاهر أبو فاشا، بالإضافة إلى إبداعاته الأخرى للإذاعة والتلفزيون، وبينها عشرات الصور الدرامية الغنائية. ولربما كانت فجيعته في رفيقة دربه عام 1979 زلزالاً فجّر في وجدانه الشعر من جديد، فكانت عودته من خلال «راهب الليل» بعد الفجيعة بأربعة أعوام. وبعد فجيعته في زوجته كانت فجيعته في ولده الأكبر عام 1989، الأمر الذي عجل برحيله في مايو من العام نفسه بعد ثلاثة شهور من رحيل ابنه. أما لغة طاهر أبو فاشا - في نثره وشعره - فهي اللغة الأنيقة الرشيقة، المتكئة على تراث أدبي وشعري رصين، ومعرفة عميقة ومستوعبة، لدقائق الكلمة وأسرار التركيب وفنون المجاز. ولقد أعانته ثقافته العربية وموهبته الدرامية على التنويع والتلوين في تشكيل قصيدته، وامتلائها بثروة واسعة من الأنغام والإيقاعات، والتوفيق الدائم بين متطلبات الفكر ومتطلبات الشعر، وصهرها في كيان شعري متميز. ولقد حفلت حياة طاهر أبو فاشا - التي امتدت حتى سن الحادية والثمانين - بالمفاجآت والمعابثات والضحكات، وامتلأت - أيضًا - بالفواجع والمآسي والغُصص المريرة، وبخاصة في سنوات الكبر ووطأة الشيخوخة، وقدر للشاعر أن يعيش الحالين أو المرحلتين مقبلاً على الحياة في الأولى، ومعتكفًا منطويًا في الثانية. وبقدر ما كان في شبابه رمزًا للتفتح والانبساطية والاقتحام - حتى كان يعدّ في مقدمة السمّار العظام الذين تتطيب بهم المجالس والمنتديات الأدبية والفنية، ولم يكن ينافسه في هذا المجال إلا صديقاه ورفيقاه: محمد مصطفى حمام ومحمد شوقي أمين، فقد كان الثلاثة زينة ليالي القاهرة وسهراتها الحافلة - فقد أصبحت شيخوخته المغموسة في الأسى والاكتئاب عبئًا على حالتيه الصحية والنفسية، بعد أن انكسر ظهره - كما كان يردّد - برحيل زوجته وولده، وكثيرًا ما كان يردد قول المتنبي:
كما كان يردد من شعره:
وتعتصره المرارة ويتملكه الأسى فيقول:
ولعل القصائد التي صاغها طاهر أبو فاشا على لسان رابعة العدوية، وتغنت بها أم كلثوم في الأوبريت الإذاعي الشهير، أن تكون دليلاً إلى شعر طاهر أبو فاشا ولغته وأفقه الشعري، وافتنانه في التعبير والتصوير يقول: لغيرك ما مددتُ يدا *** على قلبي وضعتُ يدا *** نهاري والهجيرُ لظى ويقول طاهر أبو فاشا: حانةُ الأقدار *** سألتُ عن الحب أهل الهوى *** ورُحتُ إلى الطير أشكو الهوى *** ولما طوانى الدّجى والجوى ويقول طاهر أبو فاشا: على عيني بكت عيني ويقول طاهر أبو فاشا: يا صحبة الراحِ أهل الراحِ هل حانوا؟ *** في كأسِ عُمري بقايا: من يُشاربني وأخيرًا يقول طاهر أبو فاشا على لسان رابعة: غريبٌ على بابِ الرّجاءِ طريحُ
|