محاكمة الرؤساء

محاكمة الرؤساء

لجأ نجيب محفوظ إلى الشكل الحواري أكثر من مرة، خصوصًا في مجموعات قصصه القصيرة، لكن المسرحة تأخذ شكلاً مختلفًا هذه المرة، فهي نوع من العرض الذي يتحول فيه حكام مصر وزعماؤها، منذ عهد مينا إلى عهد السادات، إلى أقنعة ومرايا فاعلة ومنفعلة.

أول ما يلفت الانتباه في رواية «أمام العرش» (التي كتبها نجيب محفوظ بعد عامين من اغتيال السادات ودخول مصر في زمن مغاير) هو غلافها الذي يتحول إلى دلالة علاماتية (سميوطيقية) على المعنى الكلي أو المغزى النهائي من العمل. وليس من الصعب «تجنيس» العمل، فهو «مسرحة فكرية» تعتمد على الحوار الفلسفي الذي يدور بين أطراف بقصد الوصول إلى رأي في قضية، أو الوصول إلى موقف يعتمد على مساءلة الأطراف المشاركة. يُسهمون جميعًا في الحوار، لكن من منظور المؤلف المضمر الذي يكتب فعل المسرحة ويخرجه، مختفيًا وراء الأقنعة التي ينطق من خلالها، والمرايا التي يتعمد توجيه زواياها وتبئير منظورها، بما يتناسب ومقصده الفكري العام، ومن حيث الظاهر الذي نبدأ به النص، فنحن أمام محكمة، تتكون من أقدم الآلهة الفرعونية، حاضرة بكامل هيئتها المقدسة في قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية، وسقفها المذهب الذي تسبح في سمائه أحلام البشر. ويتصدر المحكمة أوزيريس على عرشه الذهبي، وإلى يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، ويتربع تحوت على مبعدة يسيرة من قدمي أوزيريس، بوصفه كاتب الآلهة، مسندًا إلى ساقيه المشتبكتين الكتاب الجامع، وعلى جانبي قاعة المحكمة صُفّت الكراسي التي تنتظر من سيُكتب لهم الخلاص من القادمين الذين تزن محكمة الآلهة الفرعونية أفعالهم وإنجازاتهم، فتُصدر لهم أو عليهم أحكامها. ويترتب على ذلك أن تفضي المحاكمة إلى ثلاثة مقامات: مقام الجنة، ومقام الجحيم، ومقام بينهما للتافهين غير المذنبين، ممن لا يستحقون الجنة ولا النار، وفضلاً عن ذلك، فإن الجنة مراتب، ففيها ملوك وفيها خدم، كل بحسب عمله في الدنيا.

شخصيات كرتونية

ومن الصعب أن تصف الشخصيات الماثلة للمحاكمة بأنها شخصيات حية، سواء من الناحية السردية أو الرمزية، فأحمس أمام العرش ليس هو أحمس الذي عرفناه في «كفاح طيبة» (1944). وإخناتون الذي يقف أمام عرش المساءلة ليس إخناتون الشخصية التي سوف نراها بعد ذلك في رواية «العائش في الحقيقة» (1985)، وإنما هما - وغيرهما - شخصيات كرتونية مجردة، إذا صحت هذه التسمية، لا نرى شيئًا من دواخلها، ولا نقترب من صراعاتها الكامنة في الأعماق، يرويها راوٍ عليم بكل شيء، بل نحن إزاء تمثيلات للشخصيات الحقيقية، تختزلها في هذا العمل أو ذاك، بما يؤدي إلى الحكم على مجمل أعمالها التي أصبحت في ذمة التاريخ، والتي تباعد العهد بها بما يتيح الحكم لها أو عليها. وربما كان التركيز على أن تدخل كل الشخصيات إلى قاعة العرش عارية الرأس، لا ترتدي إلا كفنها، حافية القدمين هو نوع من العلاماتية الاختزالية التي لا يعنيها التفاصيل المراوغة أو الملتبسة أو المتعارضة وإنما الإنجازات التي تحققت بالفعل فأصبحت محل مساءلة الشخصية التي نقابلها من منظور استقبالي خاص، يجمع ما بين التجريد والتمثيل في أفق التلقي.

ويدخل جميع الملوك وممثلو العهود المختلفة المتعاقبة على مصر إلى القاعة بترتيبهم التاريخي، كي تستمع إليهم المحكمة قبل النطق بالحكم عليهم، والإذن لهم بالجلوس حيث يستحقون، وحيث يسمح لهم، إذا نالوا رضا الآلهة، أن يسائلوا غيرهم الآتين بعدهم في الزمن، لكن بما يليق بحضرة الآلهة العظمى، والاحترام الذي تفرضه على اتجاه المساءلة، وتتعاقب الأسماء إلى أن تنتهي بالسادات، وذلك في نوع من الأداء المسرحي الذي ينبني على نوع من تكرار الآلية التي تنبني عليها المشاهد، فهي جميعًا تشترك في سمات البداية والنهاية وما بينهما من مساءلة حوارية. ولذلك يدخل كل زعيم أو حاكم، بعد نداء حورس الإله الابن، وذلك بعد إيماءة من والده، كأنه يأمره بأن يستدعي الشخص المطالب بالمثول أمام هيئة المحكمة، ثم يومئ أوزيريس إلى تحوت كاتب الآلهة، فيقرأ من الكتاب الجامع الذي يحصي كل شيء من معلومات عن الماثل في حضرة الآلهة الذي يطلب منه أوزيريس أن يقول ما عنده على سبيل التقديم الذي يراه لإنجازاته، وتبدأ المساءلة التي تقتصر على الآلهة في البداية، وينضاف إليها على نحو متكاثر، كلما مضينا في التعاقب، الحكّام الذين تمت محاكمتهم، منتقلين من موضع مفعولي المساءلة إلى موضع فاعليها، وتنتهي المساءلة بصدور الحكم بعد كلمات من إيزيس ترهص به، وتكون الكلمة الأخيرة لأوزيريس الذي يسمح للمحكوم عليه بالجلوس في قاعة الخلود أو الخروج منها. وتتكرر الآلية نفسها مع كل شخصية بما يؤكد معنى التكرار أو ثبات التقاليد الإلهية في المحاكمة. وهو وضع قد يضاعف الإحساس بالرتابة، لكن يخفف من هذا الإحساس الحيوية الحوارية التي تنتج عن انقلاب أوضاع المحكوم عليهم.

ولكن إذا رددنا هذا البناء الدال في تعاقبه (الشامل للعشرات من أسماء الملوك وأصحاب الرتب وممثلي الطوائف) على دلالة لوحة الغلاف تأكد معنى الملاحظة الأولى التي تجعل وجهي عبدالناصر والسادات يفترشان المساحة الكبرى من اللوحة، أولهما يتطلع إلى أسلافه في عهودهم المختلفة التي يبدأ أقدمها من أيمن القسم الأعلى من اللوحة، وينتهي أحدثها بالقسم الأيسر الذي يبدو كأنه امتداد لعلامات القسم الأيمن، وذلك في علاقة من التعارض أو التضاد أو حتى النزول المكاني التي تضع وجه السادات - في كبر حجمه - على يمين وجه عبدالناصر الذي يعلوه في صغر حجمه النسبي الذي يدل على من جاء بعده في علاقات التولد والسببية التي تنطوي عليها عناصر المسرحة الذهنية.

من مينا إلى السادات

ويكتمل معنى هذه الدلالة العلاماتية للوحة الغلاف بقراءة العمل إلى نهايته التي تؤكد - بعد وصل العلاقات (فالعمل هو مجموع علاقاته وليس حاصل جمع أجزائه) - أن البنية الفنية للغلاف تفسير دال على الاتجاه الرئيسي لمسار التعاقب الذي يبدأ من بداية عصر مينا إلى نهاية عصر السادات، وهو اتجاه يقول لنا - على نحو ضمني بالطبع، ومن خلال تفاعل العلاقات - إن المقصد النهائي للعمل (أو المسرحة الذهنية) هو العودة إلى البداية لفهم النهاية، والحكم على الأواخر بالأوائل، ولذلك يتم اختيار محكمة الآلهة الفرعونية بوصفها أصل الحضارة المصرية وتاريخها، رغم تغيرات هذا التاريخ، وعلى الرغم من تغير حضارة مصر التي اكتسبت - بعد ملامحها الفرعونية التي هي جذورها الأولى - ملامح فارسية وآشورية ويونانية ورومانية ومسيحية وإسلامية (بتعاقبها الذي يبدأ من عصر الولاة في زمن النبوة إلى الخلفاء الراشدين، إلى الزمن المملوكي، فالعلماني، فالزمن الحديث الذي يبدأ بعهد محمد علي مؤسس الدولة الحديثة في مصر)، وإذا نقلنا علاقات التعاقب إلى ما تتعامد عليه من علاقات المجاورة، في تفاعل السياقات المتجاوبة زمانيًا ودلاليًا، تأكدنا من معنى وحدة التاريخ المصري الذي يظل متصل الحلقات، موصولاً بأصله وصل البدايات بالنهايات، مهما تباعدت أو تباينت.

وتُفضي هذه الدلالة الأولى إلى الدلالة الثانية التي تتصل بمنظور المؤلف المضمر، الكاتب والمخرج لفعل المسرحة التي ينبني بها السرد في الكتاب، خصوصًا في تعاقبه المتجه إلى هدفه، وهو منظور يمكن أن نتعجل دلالاته، ونصفه بأنه منظور لا ينتمي إلى الآلهة وإنما إلى البشر، فهو منظور مدني، لا ينطوي على أي وجه للتناقض بين الأصل الفرعوني الذي تحتله الآلهة القديمة والتجليات التاريخية، أو الدينية، أو الحضارية، المختلفة التي مرّت بها مصر في تاريخها الذي لم يفقد التواصل بين علاقات تعاقبه قط. ويرينا هذا المنظور، إذا غامرنا بتفسيره، تحولات التاريخ المصري من زمن الأساطير إلى زمن الديانات السماوية، ومن زمن الديانات السماوية المتتابعة من أقدمها إلى أحدثها، وأخيرًا، يرينا في امتداد الزمن الأخير، الإسلام، وذلك من خلال كيفية التحولات الموازية للعلاقة بين الفروع والأصول، سواء من حيث عدم التعارض بين الديني والدنيوي، أو الروحي والحسي، أو السماوي والأرضي. لكن بما لا يجعلنا لا نرى السماوي إلا من المنظور الأرضي وتصارع مصالحه، ولا الديني إلا بالعدسات الدنيوية، ابتداء من ثورة إخناتون (العائش في حقيقة الواحد الأحد) وانتهاء بثورة تصحيح السادات الذي حاول أن يُقيم دولة «العلم والإيمان» على هدي من «أخلاق القرية» التي هي، بدورها، تفسير أرضي لما هو سماوي.

احترام الأديان

وإذا تابعت هذا التفسير إلى نهايته القصوى، خصوصًا فيما تؤكده الدلالة من معنى التفاعل والتجاوب بين الأرضي والسماوي فالنتيجة اللازمة هي وصف المنظور الذي تنبني عليه المسرحة الذهنية، بأنه منظور مدني بالدرجة الأولى. أقصد إلى منظور يحترم الأديان بالدرجة نفسها، لكنه يستمد خصائصه التكوينية من رؤية مركزية، لها علاماتها في كل مجال، رؤية تؤمن بحضور الإله الواحد إيمانها بوحدة الأرض والشعب، وذلك بكل ما يتصل به هذا الإيمان المزدوج من تسامح على المستوى الديني، ومن استقلال في مواجهة الآخر (الغازي) الأجنبي، ومن حرية للفرد على تجاوب المستويات التي تصل الفكر بالدين، وتصل بينهما وبين حقوق الاختلاف السياسي والاجتماعي والثقافي، وهي حقوق لا تنفصل عن حق التعبير الذي يبدأ وينتهي من الإيمان بالعلم والعمل، فالعمل هو الذي شيّدت به مصر الهرم، وتواصل البناء، فيما يقول الملك خوفو، والعلم هو القوة وراء خلود الحضارة المصرية العظيمة، فيما يقول أمنحتب وزير الملك زوسر. وحرية التعبير هي المرادفة لازدهار الحكمة والأدب بوصفهما الشرط الضروري للتنعم بالحياة والنهل من رحيقها بما يجعل الحياة أجمل وأنضر. ولا ينفصل هذا المنظور الأرضي عن الإيمان بالشعب والثورة كي يتزايد صعود مسيرة البلاد نحو الكمال، فيما يقول أبنوم، كما لا ينفصل المنظور نفسه عن القوة التي لا تتحقق له إلا بالتحام الوطن بجيرانه، وأن يكون الحكم للشعب من أجل الشعب، فيما يقول سعد زغلول، وأن تقوم العلاقات بين الناس على أساس العدالة الاجتماعية، فيما يقول عبدالناصر، ومن أجل تحقيق هدف الحضارة والسلام، فيما يختم السادات.

هذه الرؤية نرى علاماتها مبثوثة في حواريات المحاكمة، سواء ما بين الآلهة والحكام، أو بين الحكام وأقرانهم، ولذلك نجد معنى لما يقوله أبنوم من أن الآلهة تتجسد فيمن يرفع راية العدل والرحمة أنّى يكون، أو ما تؤكده إيزيس من أننا نحتاج إلى الحكيم في عصور التدهور كما نحتاج إلى الطبيب في أيام الأوبئة، فالكلمة الطيبة سيبقى لها أريجها على الدوام. وليس بعيدًا عن ذلك التعاطف مع الفلاحين الذين لم يعرفوا إلا الظلم بصرف النظر عن اسم الظالم أو جنسيته، شأنهم في ذلك شأن الباقي من أقرانهم المصريين البسطاء الذين يؤكدون ضرورة التصدي لقوى الظلام التي يمكن أن تدمر كل إنجاز نبيل، فليس للأشرار إلا العصا والسيف. ولا تزدهر الأمة إلا بالسلام الذي يجنّبها ويلات الحرب، خصوصًا حين يكون الصلح بديلاً معقولاً عن حرب غير مُجدية. وإذا كان الإلحاح على السلام علامة على وعي نجيب محفوظ الذي أيّد المسعى الساداتي للسلام مع العدو الإسرائيلي، أملاً في زمن جديد من العدل والتقدم، فإن الإلحاح على حكم الشعب ورفع الظلم عنه ملمح وفدى يرتبط بالحاكم العادل الذي يستخرج من طوايا معاونيه خير ما فيها، أو الحاكم الذي يؤمن بالشعب إيمانًا يمكن أن يدفعه إلى التضحية بحياته من أجل شعبه، فالزعامة الحقيقية هي التي تتحقق برجل من الشعب يتميز بالعظمة الإنسانية لا العظمة الأرستقراطية.

ثوابت ومتغيرات

وأتصور أن مثل هذه الأقوال تبين عن رؤية العالم «الوفدية - الليبرالية» - إذا جاز التوصيف - وأن هذه الرؤية لابد أن تصحبها ثوابت ومتغيرات، لا تقضي على أساسها الوفدي في بعده الاجتماعي من ناحية، أو ليبرالية هذا الأساس في بعده السياسي الفكري من ناحية موازية، فمن الواضح أن تضافر هذين البعدين، وتجاوبهما في وعي المؤلف المضمر من مبدأ السلام هو الذي أدى إلى التعاطف مع السادات، وذلك من منظور عدم التعاطف مع الحاكم الضعيف الذي ليس صورة من المستبد العادل، وتلك مأساة إخناتون التي تؤكد - أولاً - إمكان أن ينعكس ضعف الحاكم على حضارة متكاملة، فالمشكلة تتلخص، دائمًا، في كيفية العثور على الحاكم القوي المناسب في الوقت المناسب، هذا أمر، أما الأمر الثاني الذي لا يفارق السمات الوفدية، بوصفه حزبًا شعبيًا من البداية إلى النهاية، فيتصل بالتعاطف الشديد مع سعد زغلول والنحاس والانحياز لهما في مقابل التهوين من كل من مصطفى كامل ومحمد فريد بالقياس إلى سعد زغلول على وجه التحديد. فالأخير آمن بوحدة الشعب، وعمل على تحقيق وحدة طوائفه في حماسة المؤمن بالمستقبل، الكاره للعقلاء المترددين، ولذلك، لم ينس أن الأغنياء يكرهون الثورة أكثر مما يكرهون الاحتلال. أما مصطفى كامل فكان شابًا وطنيًا متحمسًا، صادق النية، سعيد الحظ، عاش حياته في جو معبق برائحة العرش والخلافة والحضارة الفرنسية، ولم يشم رائحة العرق الكادح، ولم يكابد آلام الجهاد الحقيقية، ولا يفترق الملمح الأساسي لمحمد فريد عن مصطفى كامل، فهو رجل أرستقراطي لا قبل له بالكفاح الصادق وما يقود إليه من سجن أو تعذيب أو موت، ولذلك تخلى عن الأمانة في اللحظة الحرجة، مؤثرًا الجهاد في الخارج الذي ظل فيه إلى أن قامت ثورة 1919 الشعبية، فاندهش لقيامها، وشعر بالظلم لاختيارها سعد زغلول الشعبي رئيسًا لها، كأن الزعامة ميراث لا يقبل التداول إلا في طبقته.

هذه الأسس المدنية - في النهاية - هي التي انتهى إليها من وقفوا في حضرة الآلهة القديمة، حيث عرض كل حاكم وجهة نظره ورؤيته للعالم، ولكن في تناغم أرضى الآلهة في النهاية، على الرغم من الخلافات الكبيرة بين الحكام، كل على حدة فلم تملك إيزيس (التي تعترف بأمومتها لهم جميعًا) سوى أن تدعوهم إلى أن يتضرع كل منهم إلى إلهه كي يهب أهل مصر الحكمة والقوة لتبقى على مر الزمان منارة للهدى والجمال، فيبسط الجميع أكفهم، ويستغرقون في الدعاء الذي ينتهي به فعل المسرحة الفكرية، ويتأكد به معناها الكلي الذي يجعل مستقبل مصر مرهونًا بالصيغة التي تجمع بين المبادئ السابقة، وتؤكد وحدتها التي لا ينفيها تنوع تجلياتها، ولا يتناقض اختلافها الظاهري مع هدفها الواحد الذي لا اختلاف في تطلعه إلى مستقبل يجاوز شروط الضرورة إلى آفاق الحرية، وعوالم الأساطير إلى ابتداعات العلم الذي هو طريق التقدم، كما يجاوز التعصب إلى التسامح، والحرب الظالمة إلى السلام القائم على العدل، بعيدًا عن النزاع الموهوم بين العلم والدين، الأنا والآخر، الفقير والغني، الأقلية والأغلبية، فذلك هو طريق المستقبل الزاهر لمصر، وخلاصة تجربتها الحضارية الطويلة التي تستطيع تقديمه إلى الآخرين، ويتقدم بها الآخرون، لكن بشرط أن تعي مصر الحاضر حكمة ماضيها الموصول في تنوعه الخلاّق على كل المستويات وفي كل المجالات.

محاكمة الفراعنة

ولا تنفصل دلالة هذه الملاحظة الأخيرة عن تفاوت الأدوار، حجمًا وأداء، في فعل المسرحية في عمل نجيب محفوظ الفريد والجسور «أمام العرش». ويتأكد ذلك بملاحظة أن مصر الفرعونية (فراعنة يتبعهم بعض الوزراء) يشغلون المساحة الكبرى من فضاء فعل المسرحة (122 صفحة من إجمالي 208)، وذلك في الحيز الأكبر الذي يقدم فيه الكاتب المخرج أكثر من سبعين فرعونًا، تحاكمهم الآلهة، ويشتركون جميعًا في مساءلة سابقهم للاحقهم. ولكن مع التباين الدال بين المقامات والإنجازات، ويلفت الانتباه، فيما عدا هذا التباين المنطقي، الاختفاء الكامل للمؤدين في الحقب الفارسية واليونانية والرومانية والمسيحية. وينتقل الأداء في الحقب الإسلامية: عصر الخلفاء، المماليك، العثمانيين، من الحكام إلى المحكومين، وذلك باستثناء البدء بالمقوقس حاكم مصر الذي قبل بالفتح الإسلامي خلاصًا من الظلم الرماني، والذي لا يأتي بعده سوى رجال دين (البطريق بنيمين مثلاً) ورجال دولة أو عاملين فيها، إلى أن نصل إلى عامة الشعب، ولا ظهور إطلاقًا لأي حاكم - بعد ذلك - ابتداء من ابن طولون، مرورًا بالإخشيديين، والدولة الفاطمية، والأيوبية (التي لا نرى منها سوى الوزير قراقوش لسوء سمعته، وابن قلاقس لوزنه الأدبي) وينطبق الأمر نفسه على المماليك الذين لا نرى من زمنهم سوى الشهاب الخفاجي الذي كتب عن ظلم الحكام من المماليك. أما مصر العثمانية، فلا نرى منها أحدًا، إلى أن نصل إلى نهايتها التي تبدأ بعلي بك الكبير الذي خانه أقرب الناس إليه (ربما إشارة إلى ما هو شبيه متأخر) وتنتهي بدور عمر مكرم القائد الشعبي إلي أوصل محمد علي إلى الحكم. ولا يأتي من أبناء محمد علي أحد من حكام مصر الذين تحفظهم الذاكرة العامة والخاصة. فنحن لا نرى سوى قادة الإصلاح المدني من زعماء الوطنية المصرية وثوارها (أحمد عرابي، مصطفى كامل، محمد فريد، سعد زغلول، مصطفى النحاس).

وفي مقابل غياب حكام مصر الإسلامية والفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية وأسرة محمد علي من مؤسسها إلى خاتمتها، فاروق، يتركز الضوء وتتسع مساحات الأدوار المؤداة لكل من سعد زغلول ومصطفى النحاس، ولا يقترب من أدوارهما حجمًا سوى الدورين اللذين يقوم بهما كل من جمال عبدالناصر ومحمد أنور السادات.

هكذا ينكشف بناء الفعل المسرحي عن قصديته، وعن أن ما مضى من مقدمات يفضي بنا - فيما عدا استثناءات يسيرة- إلى نتائج محددة، ولا يتوقف البناء في تتابع إيقاعه إلا على المساحة الكبرى - فيما بقي من حيز مكاني - إلى زعماء أربعة سعد زغلول، ومصطفى النحاس، وجمال عبدالناصر، والسادات. ولكن يكشف تعاقب الأداء عن ثنائية ضدية، طرفها الأول سعد زغلول والنحاس بالرغم من اختلافهما النسبي، وطرفها الثاني جمال عبدالناصر والسادات في اختلافهما الجذري، والأصل في علاقة التضاد، التي تجمع بين طرفي الثنائية هو رؤية العالم المدنية إلى الحكم مقابل الرؤية العسكرية. وبعبارة أخرى، التناقض بين زعيمين مدنيين يؤمنان بالديمواطية والحرية، بما يؤكد إيمانهما العميق بالمجتمع المدني، والدولة المدنية القائمة على الفصل بين السلطات، حيث الدستور والقانون المدنيان إطارها المرجعي، مقابل التمييز الواضح والحاسم بين الديني والدنيوي، وفي مقابل ذلك، يقف عبدالناصر والسادات زعيمين لا يفارقان الخصائص التأسيسية لتكوينهما العسكري.

وليس من الغريب ألا نرى، في سياق المسرحة الذي ينطوي عليه هذا التضاد من يمكن أن نصفهم بزعماء الإصلاح الديني الذين اهتم أحمد أمين بأعلامهم في كتابه الشهير «زعماء الإصلاح»، والنتيجة أنه لا حضور ظاهرًا أو مباشرًا أو حتى على سبيل الإيماء لزعماء من طراز جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده أو تلميذه الثاني محمد رشيد رضا، وصولاً إلى حسن البنا الذي كان أقرب في تكوينه إلى محمد رشيد رضا بنزعته السلفية المعروفة، إلى سيد قطب الذي صدر الحكم ضده بالإعدام في زمن عبدالناصر بتهمة التآمر على قلب نظام الحكم. ويبدو أن نجيب محفوظ شعر أنه ليس في حاجة إلى تقديم زعامات الإخوان المسلمين الأولى، فقد سبق أن تحدث عنهم في أعماله الباكرة، التي قابلت ما بين علي طه ومأمون رضوان (في «القاهرة الجديدة») مثلما اختتمت الثلاثية بالتقابل بين أحمد عبدالجواد وعبدالمنعم شوكت.

وكان واضحًا في تتابع الروايات، التي تفصل ما بين «القاهرة الجديدة» (1945) والثلاثية (1956 - 1957) أن كلا النموذجين اللذين يفصل بينهما تناقض حدّي، يتم تقديمهما على سبيل الكشف عن الحدود القصوى لكل طرف، ومن ثم دفع القارئ المضمر - بتشجيع من المؤلف المضمر - إلى مجاوزة حَديّة هذا التناقض، فكريًا على الأقل، والتفكير في إمكان وجود شخصية تجمع ما بين النقيضين، وتجاوزهما معًا في تركيب جديد يصل بين ما لا يتصل في الظاهر، ومثال ذلك شخصية حسنين في «بداية ونهاية» (1949) التي تجمع ما بين علي طه ومأمون رضوان، مجاوزة ما بينهما من تضاد حدّي ينقلب عندها إلى توفيق مرغوب فيه.

ولذلك تم تقديم سيد قطب على نحو سلبي في «المرايا» بوصفه الحد الأقصى للطرف الذي يمثله، فظل أسير تعصباته وتحزباته، منعزلاً عن كل جديد، وميالاً إلى تكفير كل ما هو مختلف، يتصل بالغرب الكافر - مصدر الشر كله - ولم يكن محفوظ في تقديمه مرآة سيد قطب قاصداً إلى التعاطف معه، بل كان مقصده على النقيض من ذلك، خصوصًا حين ينطق، على نحو مباشر، كلمات الإدانة الحدية لأفكار «التغريب» و«الحاكمية» وما اتصل بهما أو ترتب عليهما.

بين الدولتين المدنية والعسكرية

ولذلك لم يكن في حاجة إلى تقديم سيد قطب وأستاذه حسن البنا، في السياق الذي يردهما إلى رشيد رضا أو ما قبله، فقد كان الأكثر أهمية له ليس تأكيد التناقض الحدي بين اليمين الديني واليسار (العلماني؟!)، فكريًا، وإنما تأكيد التضاد الحدي بين رموز الدولة المدنية (أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول ومصطفى النحاس)، ورموز الدولة العسكرية (أمثال عبدالناصر والسادات). وهي الدولة التي انطوى تكوينها على نوع من الأصولية التي توازي الأصولية الدينية بأكثر من معنى، وذلك من منظور «الدولة التسلطية» التي أقامها كل منهما، والتي تتفق - في كل أحوالها - على عدد من المبادئ المكرّسة: أولها انطلاق منطوقات المعرفة السياسية والاجتماعية والفكرية من أصل واحد هو الإطار المرجعي الذي يحتكر تفسير المعرفة الكلية وينوب عنها. وثانيها توجه كل هذه المنطوقات في حركة ثابتة ذات اتجاه واحد من الأعلى إلى الأدنى، مؤكدة طبيعة العلاقة بين أعلى يملك حق إصدار الأمر، وأدنى عليه السمع والطاعة. وعدم الخروج على كل ما هو مأمور به، والإجماع من المتلقّين الأدنى قرين الطاعة للواحد الأعلى الذي يقف على رأس الهرم الأصولي (مرتديًا عباءة دعوة، أو بزة عسكرية)، فهو الواحد الأحد الذي يطيعه الجميع، الخروج عليه خيانة دنيوية توازي الكفر الديني.

ويقود التضاد بين النزعتين، على مستوى علاقات الحضور، إلى نظيره على مستوى علاقات الغياب، وذلك بما يجعل غياب ممثلي النزعة الدينية دالا، يمكن تبريره على أساس الاكتفاء بشبيهتها العسكرية في الخصائص التكوينية للأصولية.

ويترتب على ذلك اتجاه المساءلة التي واجه بها كل من سعد زغلول ومصطفى النحاس كلا من عبدالناصر والسادات، فبعد الناصر - بالرغم من إنجازاته الكبرى: (إلغاء النظام الملكي، واستكمال استقلال البلاد بالجلاء التام، والقضاء على الإقطاع، وتمكين الاقتصاد، والإصلاح الشامل في الزراعة والصناعة تحقيقًا لخير الشعب وتذويبًا للفوارق بين الطبقات، وبناء السد العالي، وإنشاء القطاع العام بوصفه بداية المسيرة الاشتراكية، وتأسيس جيش حديث، ودعم الوحدة العربية، ومساعدة كل ثورة في العالم الثالث، وتأميم القناة، وإرجاع الكرامة إلى الشعب الكادح الذي عرف طريقه للمجالس التشريعية والجامعات)، فاق اهتمامه بالوحدة العربية اهتمامه بالوحدة المصرية، فشطب اسم مصر الخالد بجرّة قلم، واضطر العديد من أبناء مصر إلى الهجرة، التي لم يمارسوها إلا في فترات القهر العابر، فيما يقول الملك مينا. ولا ينسى تحتمس الثالث تأكيد أن عبدالناصر، بالرغم من نشأته العسكرية قد أثبت قدرة فائقة في كثير من المجالات غير العسكرية، ولا يتردد أمنحتب وزير الملك زوسر في تكرار ملاحظته، التي ترى أنه كان من الواجب تجنب الحرب والكف عن استفزاز الدول الكبرى.

ديمقراطية حقيقية؟

أما سعد زغلول فوجّه أقسى أنواع النقد، مؤكدًا لعبدالناصر أنه حاول أن يمحو اسمه من الوجود كما محا اسم مصر، وأنه قال عنه في الميثاق (الذي كتبه هيكل) إنه اعتلى الموجة الثورية عام 1919. وهذا كذب، فالزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية، لا تلحق بإنسان مصادفة ولا كضربة حظ أعمى، والزعيم المصري هو الذي يبايعه المصريون على اختلاف أديانهم. وإلا لم يكن زعيمًا مصريًا أبدًا، وإن جاز أن يكون زعيمًا عربيًا أو إسلاميًا. ويمضي سعد زغلول قائلاً إنه لم يضمر الرفض لعبدالناصر، واعتبر تجنّيه عليه نزوة شباب يمكن التسامح معها نظير ما قدّمت الثورة من خدمات جليلة، لقد قامت ثورة 1952 للتخلص من أعداء الشعب، وأتمت رسالة الثورتين السابقتين: ثورة عرابي، وثورة 1919. وبالرغم من أنها بدأت كانقلاب عسكري، فإن الشعب باركها ومنحها تأييده. وهو ما كان يمكن أن ينطلق منه عبدالناصر، فيجعل من الشعب قاعدة الثورة، وأن يقيم حكمًا ديمقراطيًا رشيدًا، ولكن اندفاعه المضلل في الطريق الاستبدادي هو المسئول عن جميع ما حلّ بنظام حكمه من سلبيات ونكبات. وحين يحاول عبدالناصر الدفاع عن نفسه، بأنه كانت تلزمه فترة انتقال لتحقيق الأسس الثورية، يرد مصطفى النحاس مقاطعاً: حجة دكتاتورية واهية طالما سمعناها من أعداء الأمة، فقد كان بين يديك قاعدة وفدية شعبية انهلت عليها بدباباتك، وعجزت عن إقامة بديل عنها، فظلت البلاد تعاني الفراغ، ومددت يدك إلى المنبوذين من الأمة، فوقعت في تناقض مؤسف بين عمل إصلاحي يعتبر في روحه امتدادًا لروح الوفد، وأسلوب حكم يعتبر امتدادًا لحكم الملك والأقليات، حتى قضى أسلوب الحكم على جميع النوايا الطيبة.

وعندما يرد عبدالناصر قائلاً بأن الديمقراطية الحقيقية، التي آمن بها كانت تعني تحرير المصري من الاستعمار والاستغلال والقهر، يرد النحاس بأنه أغفل الحرية وحقوق الإنسان، ولا ينكر أنه كان أمانًا للفقراء، ووبالاً على أهل الرأي والمثقفين، وهم طليعة أبناء الأمة الذين انهال عليهم اعتقالاً وسجنًا وشنقًا وقتلاً حتى أذل كرامتهم، وأهان إنسانيتهم، ومحق إيجابيتهم، وخرّب بناء شخصياتهم، فأتم تدمير أولئك الذين جعلت منهم ثورة 1919 أهل المبادرة والإبداع في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. ويضيف إلى ذلك أن الاستبداد أفسد على عبدالناصر أجمل قراراته، يعني مجانية التعليم، التي انتهت بفساد التعليم، وتفسخ القطاع العام، يختتم نقده القاسي بأن تحدي عبدالناصر للقوى العالمية أدى إلى الهزائم المخجلة والخسائر الفادحة، ولم يفد في ذلك من الرأي الآخر، لأنه لم يؤمن بالديمقراطية، ولم يتعظ بتجربة محمد علي، لأنه ما كان يسمع سوى صوته، فكانت النتيجة دويًا وجلجلة وأساطير فارغة تقوم على تل من الخرائب. وعندما يرد عبدالناصر على ذلك بأنه نقل وطنه من حال إلى حال، ونقل العرب وسائر الأمم المغلوبة على أمرها، وأن السلبيات يمكن علاجها حتى تزول، فلا يبقى سوى ما ينفع الناس، يرد النحاس قائلاً: ليتك تواضعت في طموحك، وعكفت على إصلاح وطنك وفتح نوافذ التقدم له في شتى مجالات الحضارة، إن تنمية القرية المصرية أهم من تبنّي ثورات العالم، وتشجيع البحث العلمي أهم من حملة اليمن، ومكافحة الأمية أهم من مكافحة الإمبريالية العالمية. لقد أضعت على الوطن فرصة لم تتح له من قبل، فلأول مرة يحكم ابن وطني من أبناء البلاد دون مناوئ من ملك أو مستعمر، ولكنه بدلاً من مداواة ابن لوطنه المريض دفع به إلى مباراة البطولة العالمية وهو ينوء بأمراضه. فكانت النتيجة أن خسر البطولة وخسر نفسه.

ولم تغب حدّة الهجوم على عبدالناصر، سواء من سعد زغلول ومصطفى النحاس، الحضور الفاعل للكاتب المخرج الذي يغير زوايا المرايا، وينطلق من وراء الأقنعة. وبالرغم من المخادعة التي تبدأ بإعراب رمسيس الثاني عن عظيم حبه وإعجابه النابع من شعور العظمة الذي يشع من الحاكم القوي - على الوطن كله. فإن هذه المخادعة سرعان ما تنتهي على لسان مينا الذي يبدو كما لو كان يمهد الطريق - مع تحتمس وأمنحتب - لكي ينطلق النقد الجذري لكل من سعد زغلول ومصطفى النحاس.

أما السادات فإن أهم ما يلفت الانتباه في الحساب الذي يقدمه عن ربحه وخسارته، هو انحراف المعارضة، وهبوب التيار الديني الذي أصاب البلاد بالعنف، الأمر الذي اضطره إلى الحزم الذي أدى إلى تحالف الجميع ضده، واغتياله بواسطة فتيان من التيار الديني.

في نقد عبدالناصر

ويلفت الانتباه أيضًا أن نقد السادات أخف بكثير من نقد عبدالناصر، ولذلك يبحث الكاتب المخرج عن الأشياء والنظائر في التاريخ الممتد، فيدفع إخناتون إلى تحية السادات بوصفه داعية من دعاة السلام. ويبدي دهشته لاتهام خصومه له بالخيانة، فقد لاقى من قبله التهمة نفسها للسبب نفسه. ويؤكد تحتمس الثالث أن انتصار السادات في أكتوبر يذكّره بانتصار رمسيس الثاني الذي تكلل بمعاهدة سلام، والزواج من ابنة ملك الحثيين، ويضيف رمسيس الثاني أن الحاكم مسئول عن حياة شعبه، ومن هذا المنطلق يقوم بالحرب أو يجنح إلى السلام. ويضيف الملك أمنحتب الثاني، بعد أن يؤكد السادات إيمانه الصادق بعقم الاستمرار في الحرب، ما يؤكد شبه السادات في حب الرفاهية لشعبه ولنفسه، فكلاهما عشق الأبهة والنعيم والعظمة والقصور. ولا ينسى حور محب تنبيه السادات إلى تهاونه في معاقبة الفساد والمفسدين الذين أوشكوا أن يحيلوا انتصاراته إلى هزائم.

ولا يغفل عبدالناصر معاتبة السادات لانقلابه على سياسته، وبالطبع لا يفوت النحاس مسألة الديمقراطية، فيؤكد أن السادات كان يريد حكمًا ديمراطيًا يمارس على رأسه سلطاته الديكتاتورية، فكانت النتيجة ديمقراطية قبيلة.

وفيما عدا الموقف من السلام الذي هو استمرار للموقف الذي اتخذه محفوظ منذ سنوات، ولم يتخلّ عنه، وكتبه بما أثار العداوات له، والشائعات حوله، كان جوهر النقد الذي يتحمله السادات هو موقفه السلبي من الديمقراطية، أعني الموقف الذي كان تواصلاً مع زمن عبدالناصر من ناحية، وانقطاعًا حديا عن مبادئ الوفد، التي يجسدها المخرج لفعل الأداء المسرحي.

وعند انتهاء محاكمة السادات ينتهي فعل المسرحة بأكمله بعد أن حقق هدفه، ونصل إلى الخاتمة، التي تحمل معنى العظة والعبرة، خصوصًا في العلاقة بالمتلقّين. وتمتد معاني العظة والعبرة كي تشمل فضاء فعل المسرحة في غير حالة، خصوصًا الحال الذي يؤكد معنى «المصرية»، لا من حيث هي رابطة دم أو أرض، وإنما من حيث هي رابطة انتماء، فالمصري مَن اكتسب مصريته بالانتماء والقلب أولاً، قبل الوراثة أو الهجرة الطوعية أو القسرية، وهو من عمل لمصلحة مصر، وترك فيها من الإنجازات والآثار ما يضعه في صفوف أبنائها أو ينفيه عن هذه الصفوف، ولذلك يتميز المماليك بعضهم عن بعض، فمنهم مَن عرف بالظلم والفساد، ومنهم من ردّ الغزو الخارجي عن مصر، ومنهم من عمّر الأرض، ونهض بالعمارة والفنون إلى الأمام، بما أكّد حبه للوطن الذي رعاه، فتبادل وإياه الصفات التي جعلته مصريًا بحق.


جابر عصفور 




 





جمال عبد الناصر





أنور السادات