شخصيات تنسحب من الضوء

شخصيات تنسحب من الضوء

شكل نجيب محفوظ في رواياته عالما قل نظيره عند الروائيين، ينتمي إلى حارة محددة، ولكنه دال على عالم متنامٍِ متسع الأطراف، يمتد البصر فيه فتتعدد وتتنوع خياراته، فكله زوايا مشعة جاذبة إلى التأمل فيها.

من أطراف هذه الحارة سنقتنص بضع شخصيات، تمثل نماذج لآثار من ضغوط مختلفة أخرجتها عن النسق الاجتماعي أو دفعتها إلى الانسحاب إلى داخلها مبتعدة عن حركة الحياة من حولها. وهذا الخروج أو هذا الانسحاب متعدد ومتنوع ومتطور، كل شخصية منها لها مسارها، أو نكهتها المتميزة، وتقدم رؤية خاصة تسمح للناظر فيها بأن يسير معها إلى مسارات كثيرة.

هذه إذن قطفات نضجت على يد فنان استطاع أن ينحتها، ويبث فيها حياة وحيوية.

في ذروة قصة «همس الجنون» القصيرة، في محطتها النهائية يصافحنا هذا النص: «وعاد يتساءل لماذا يدع نفسه سجينا في هذه اللفائف تشد على صدره وبطنه وساقه؟! وناء بثقلها، وشعر لوطأتها باختناق، فغليت مراجله، ولم يستطع معها صبرا، وأخذت يداه تنزعانهــا قطعة فقطعة بلا تمهل ولا إبطاء، حتى تخلص منها جميعا، فبدا عاريا كما خلقه الله..».

شخصية تخرج عن النسق العام وتزدري كل قوة أو قانون، بدأ بطل القصة بالتساؤل فرأى أولا أن من حق الناس أن تشترك في الطعام، فحين شاهد رجلا وامرأة ينفردان بالطعام دون الغلمان المشردين، أوحى له همس جنونه أن يرميه على الأرض ليظفر به هؤلاء المشردون، ومرت عليه امرأة برزت مفاتنها فمن حقه إذن أن يمد يده إليها. وهكذا تتتابع أفعاله الخارجة عن المألوف لينتهي إلى نزع ملابسه وينطلق عاريا.

كانت هذه ومضة جنونية أخرجت صاحبها من انسجامه مع من حوله، فكسر قاعدة المواءمة الاجتماعية، ومال إلى التحرر من القيود، ولكنها ظلت لا تزيد عن كونها همسة عابرة ستتجاوزها شخصية محجوب عبدالدايم، في رواية «القاهرة الجديدة»، لتقدم لنا خروجا مشفوعا بتفلسف مصاغ بمعادلة أشبه بالمعادلة الرياضية، يقول فيها :

«إن أصدق معادلة في الدنيا هي: الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طظ». بهذه المعادلة تسجل هذه الشخصية إحدى علامات الخروج عن النسق العام، فكلمة «طظ» التي أطلقها محجوب ليست اختيارا، ولكنها انسحاب من منطقة الاختيار التي يستقر في داخلها زملاؤه الثلاثة، الذين توزعت اختياراتهم الفكرية بين حدود منهجية واضحة، أولهم، مأمون رضوان، «رأى أن الإسلام فيه كل الحلول». واختار الثاني، علي طه، الاشتراكية والإيمان بالمجتمع. أما الثالث، أحمد بدير، فاختار الصحافـة الحزبية طريقا له.

وقف محجوب خارج دائرة الاختيار، منسحبا من أي التزام، ومن ثم تشكل فراغ مهد للسقوط السريع. لقد تحلل من الاختيار الحيوي المنسجم مع الحياة، ألغى بمعادلته - ومن ثم سلوكه - قيم الروح والعقل والمعرفة والسلوك، وهي المكونات الأربعة الأساسية لإنسانية الإنسان، لذا كان اسم محجوب دالا، اسما على مسمى، حجب عنه كل الرؤى الممكنة والأنوار التي يمكن أن تهديه إلى طريق قويم، فدخل في طريق مدمر أدى إلى سقوطه حين أصبح زوجا صوريا لعشيقة الوزير، وكانت مبرراته الخاصة تسهل له القبول بالسقوط، مادام قد تجاوز منظومة المجتمع ومواضعاته.

يصف نجيب محفوظ لحظة السقوط هذه حين راح محجوب يناقش هذا العرض المهين على ضوء فلسفته العدمية فيقول: «فجعل يستصرخ ما جبل عليه من جسارة واستهانة وفجور. أجل ما الذي يخجله؟ ما الذي يؤلمه؟ أيؤمن بالزواج؟ أيؤمن بالعفة؟ أيشعر بإهانة في تصريح صاحبه ؟! إن الحياة تنبري لامتحان فلسفته، لتثبت بالتجربة المحسوسة إن كانت سفسطة وجدلا أو عقيدة وعملا».

إن الخروج عن النسق تجسد في فكرة أساسية تمثلت في إسقاط مفهوم الشرف السائد، ومجافاة نظام العلاقة بين الذكر والأنثى، والتي تمثلت في مؤسسة الزواج، ومن ثم مثَّل الشرف نقطة حساسة صالحة كل الصلاحية لاختبار ذلك الخروج والقفز خارج أنظمة المجتمع المستقرة. محجوب عبدالدايم نموذج صارخ لهذا الخروج المباشر الذي، وإن كانت مبرراته الاجتماعية والاقتصادية تقدمان تفسيرا مناسبا لهذا السقوط، فإن اختياره ورسمه بهذه الطريقة المباشرة تمس عَصَبا متوترا في الحس الشرقي الذي يعتمد قاعدة الشرف مقياسا أساسيا في سلَّم قيمه، فالخروج عن هذه القاعدة، والوقوف عند نقيضها يقدم نموذجا فريدا من نماذج الخروج، المؤطر بفلسفية عدمية تبرر القفز فوق أي قيمة اجتماعية راسخة.

الخروج عن النسق مهنة

في رواية «زقاق المدق» المحتشدة بالشخصيات، تطل علينا شخصية زيطة، صانع العاهات، المنسحب تخفيا، والذي اختار عالما تحتيا ظلاميا لا يمت بصلة لعالم الأسوياء، خرج عن النسق العام شكلا ومهنة، يقدمه نجيب محفوظ كاشفا طبيعته وموقفه، «وهو لا يكاد يمت بصلة إلى الزقاق الذي يعيش فيه، فلا يزور ولا يزار، لا نفع فيه لأحد ولا نفع في أحد له، أما صناعته فهي صناعة العاهات لاحتراف الشحاذة»، وكان ذا خيالات مريضة مدمرة، يتمنى الهلاك والتعذيب للناس «بادل الناس مقتا بمقت» يتمنى لو كان الشحاذون أكثرية أهل الأرض، يطل على الزقاق «كأنه شيطان تنشق عنه الأرض..».

لقد برز خروج هذه الشخصية عن النمط العام في هذا الفعل المعاكس للطبيعة، الذي تبدى من خلال سلوكه ومهنته، هذه المهنة التي قلبت الفن إلى نقيضه، فالمكياج هو فن التجميل والمواءمة، تحول على يد هذه الشخصية إلى فن التنكر والخروج عن الطبيعة والتشويه، فتم تسخيره لخدمة طالبيه من الذين عجزوا عن الانسجام مع دورة الحياة الطبيعية «فيجيئون إليه صحاحا ويغادرونه عميانا وكسحانا وأحدابا وقعسانا ومبتوري الأذرع». واستكمل خروجه عن النسق بمهنة أخرى، فهو اختصاصي بنبش القبور، ينتزع أطقم الأسنان الذهبية، يقدمها للدكتور بوشي الذي يعيد تركيبها لزبائن جدد، وتبدى إمعانه في مقته وغرابة سلوكه أنه كان يجبر الدكتور بوشي على مرافقته في نبش القبور، فهو لا يريد «أن يؤدي له هذه الخدمـة إلا إذا شارك في جميع خطواتها، مستلذا في أعماقه تعذيبه».

وهذه المهنة دالة على انسحابه الآخر، تعامله مع الموت، فليس عجبًا أن تكون خيالاته تتجه إلى التدمير، يتمنى الهلاك للآخرين؛ فيقطع «وقت فراغه الطويل في تخيل صنوف التعذيب التي يتمناها للناس، واجدا في ذلك لذة لا تعادلها لذة، يتصور جعدة الفران هدفا لعشرات الفئوس تضربه حتى تتركه كتلة مهشمة كلها ثقوب! أو يتخيل السيد سليم علوان وقد استلقى على الأرض ووابور الزلط يروح عليه ويجيء ودمه يجري نحو الصناديقية..». وهكذا تمضي خيالاته في هذا التوجه.

إن التقاط هذه الشخصية ووضعها في هذا السياق يكشف ذلك العالم الآخر المناقض لحركة حياة النهار، حيث النور والضياء في هذا الزقاق في مقابل حياة الظلام. وفي هذا مؤشر من مؤشرات الكشف والإضاءة لعالم مجاور وقاتم يقدم التشويه الحادث في الحياة من حولنا، فالخروج عن النسق العام يكشف عن خلل في هذا النظام نفسه. يكشفه ذلك الحوار الذي دار بين زيطة وأحد الشخصيات المتعاملة معه، وهي شخصية سليمة جسما وعقلاً، ولكن الحياة ضاقت بها فاختارت الخروج من عالم الأسوياء، إلى دنيا المشوهين، فخروجها كان رسالة وخطابا يكشف الاختلال العام.

الانسحاب عجزًا

يمثل الانسحاب من الحياة ظاهرة اغترابية واضحة المعالم، التقطها نجيب محفوظ وسلط عليها مجهرا كاشفا لها، تضخمت في بعض رواياته التي خص فيها هذه النماذج بحيز مناسب واضح. كانت عنايته بها مبكرة، فقد لفتت نظره هذا النماذج البشرية، التي لم تخرج عن النسق ولكنها شخصيات انسحبت من دائرة الفعل، ومن المركز لتختفي وراء الظلال عجزا عن مواجهة الحياة.

من أميز شخصياته المبكرة: أحمد عاكف الشخصية الرئيسية في رواية «خان الخليلي»، الذي قدم لنا تكرارا متعمقا لتجربة والده، الذي أحيل إلى التقاعد مبكرا لإهماله وتطاوله على المحققين، «فانزوى بعيدا عن الناس والدنيا، واختار العبادة ملاذا وسكنا». وسيعالج نجيب محفوظ هذا الموقف مرة أخرى مع شخصية درويش في «زقاق المدق».

إن أحمد عاكف في رواية «خان الخليلي» نموذج للمنسحبين عجزا حينا وظرفا قاهرا في حين آخر، شخصية سقطت «تحت أنقاض المحاولات الفاشلة والآمال الخائبة والأوهام الضائعة.

واطرد مجرى الأيام وتقدم به العمر وشعوره بالظلم لا يسكن ولا يهدأ، بل جعل يجد لألمه لذة غامضة. لقـد جعل منه عجزه عن النجاح عدوا للدنيا، فجعل منه عجزه عن المرأة عدوا للمرأة. ولكن أعماقه اضطربت بالرغبة والعاطفة النهمة المحرومة».

يصور لنا محفوظ كيف رأى أحمد عاكف الدنيا، أو كيف دلت نظرته ثم موقفه الكاشف عن شخصية منسحبة منكفئة على نفسها : «الدنيا أكاذيب وأباطيل وما المجد إلا رأس الأكاذيب والأباطيل». وسلّم نفسه إلى عزلة عقلية وقلبية مريرة. يئس من الحياة فهرب منها، ولكنه ظن، وهو يدبر عنها يائسا عاجزا، أنه يزهد فيها متعاليا متكبرًا. اطمأن إلى أن الموت نهاية كل شيء، وأننا نموت كالسوائم وننتن فلماذا نفكر كالملائكة».

والانسحاب ضجرًا

وكما انتبه نجيب محفوظ إلى التحولات الكبرى في المجتمع، توجه إلى أزمات المراحل العمرية المختلفة، والتشكل النفسي لشخصيات ذات حساسية معينة ودور محسوب، فيتشكل الدافع إلى الإحساس بالاغتراب.

يشخص عمر الحمزاوي، شخصية رواية «الشحاذ» الرئيسية، حالته قائلا : «لقد قتل الضجر كل شيء. وانهارت قوائم الوجود بفعل بضعة أسئلة».

لقد نمت أزمته الداخلية منطلقة من السؤال عن معنى الحياة، هذا السؤال الذي سيزلزل كيانه ويجعله يهجر عالمه الهادئ المنعم المستقر للدخول في رحلة قلقة تجعله ينسحب من حياته الماضية، المحددة الواضحة، ليدخل عالما أشعث غير محدد، انسلخ من جلده «هاهو يركض لاهثًا وراء نداء غامض، مخلفا وراءه حفنة من تراب مسرات الأمس، وحتى المدينة الفاضلة حفنة من تراب». ويعلق بعد خروج صديقه المناضل عثمان خليل من السجن فيـقول : «رجل خارج من السجن إلى الدنيا ورجل يتحفز للخروج من الدنيا إلى عالم مجهول».

إن الحمزاوي استيقظ وهو في مرحلة الكهولة فوجد نفسه يحس أو يشم في الجو شيئًا خطيرا، ويرعبه إحساس حركي داخلي بأن بناءً قائمًا سيتهدم، فهو، على حد تعبيره، يعيش في مقام السؤال ولكن بلا جواب. كانت هذه الهواجس الأولى مقدمات لحركة فيها معنى مزدوج، في الظاهر عودة إلى الاتصال بالحياة من خلال الغوص في حسّياتها أو نشاطها من جنس وحب وفن، ولكن هذا المظهر كان مخادعًا، فهو إنسان يتجه نحو الهروب والتخلي عن الالتزامات، والترجل عن قطار الحياة، ومن ثم الانسحاب إلى زاويته، والتخلي عن كل القيم الإيجابية للفعل البشري، فتنعدم الرغبة في العمل : يضيق بالدنيا وبالناس، بالأسرة نفسها، لا يريد أن يفكر أو يشعر أو يتحرك، كل شيء يتمزق ويموت: «آن الأوان لأن أفعل ما لم أفعله في حياتي وهو ألا أفعل شيئًا..»، ومن ثم أصبح يثيره الكلام العاقل وينجذب إلى حديث مجنون.

لم يكن الحمزاوي صدى لمقولة القلق الوجودي، الذي كان مطروحا في عقد الستينيات والذي كان متصلا بالاختيار العقلي والحيرة الوجودية، ولكنه قلق يجسد حالة انسلاخ تتشكل في نفس صاحبها، ثمة إحساس باللاجدوى الذي شكل ضجرا من الحياة يفضي إلى حالة من التدمير ؛ تدمير النفس أو ما حولها.

يجسد الحمزاوي هذه المعاني العدمية قائلا: «ولم يبق لديه من تسليات إلا أن أرقص فوق قمة الهرم أو أقفز من فوق جسر إلى قاع النيل، أو أقتحم الهلتون عاريا، ويقينا أن روما لم يحرقها نيرون، ولكن أضرمتها الأشواق اليائسة، كذلك تزلزل الأرض وتتفجر البراكين..». «أفكر في تفجير الذرة فإن تعذر ذلك ففي القتل فإن تعذر ففي الانتحار».

وهذه التحولات نحو الانسحاب تقطع الطريق إلى نهاية تجسد حالة الانعزال الكبرى، المتمثلة في الوصول إلى حالة الذوبان الصوفي، فرحلة الحمزاوي مرت بنشوة الحب التي لا تدوم ونشوة الجنس فكانت أقصر من أن يدوم لها أثر، فكان لابد من أن تحل كتب التصوف مكان كتب الاشتراكية، وأخذ يتنقل بين ترانيم فارس والهند والعرب الحافلة بالأسرار. وجاء الانسلاخ الأخير، حين قال لصديقه المعاتب: «هاك عقلي تحت قدمي، ليغيب غيابه الأخير، حيث الانفصال التام باحثًا عن وجهه الذي هجر الدنيا لأجله».

والانسحاب غيبوبة

على طريقة أسئلة الحمزاوي ينطلق سؤال من أنيس زكي، في «ثرثرة فوق النيل»: لماذا أحيا؟ ولكنه ينسطل قبل أن يجد الجواب».

هذه الشخصية انسحبت من الحياة انسحاب غيبوبة وتخدير، تجمدت صلته بالحياة، فلم يعد فاعلا بعد أن قدم من الريف طالبا للعلم، طاف بكليات الطب والعلوم والحقوق فمضى بعلمها دون شهاداتها، والتحق بوسط أصبح هو واسطة العقد فيه، وسط يمثل مجموعة جسدت الانسحاب من منطقة الفعل والاتصال والتفاعل مع المجتمع، تشكل مجلس هذه المجموعة في عوامتهم المستوية فوق الماء، ينفصلون فيها عن صلابة الأرض الواقعية ليشكل مجلسا عدميًا. يقول أحدهم، مصطفى راشد المحامي: «.. فإن الدنيا لا تهمنا كما أننا لا نهم الدنيا في شيء». أما أنيس فيصف مجموعته في لحظة انفعاله الوحيدة «كلنا أوغاد لا أخلاق لنا، يطاردنا عفريت مخيف اسمه المسئولية». ومن ثم فالواحد منهم لم يعد يكوِّن شخصية، ولكنه يتكون من عناصر متحللة كبناء متهدم.

أنيس الغائب تمامًا عن الحركة من حوله هجر الدنيا منذ عشرين عاما، لم يقرأ جريدة منذ دهر طويل، لا يعرف من الأحداث إلا ما تلوكه ألسنة المساطيل في هذيانها الأبدي. نموذج لانفصال كلي اختياري، اختيار للغياب بتخدير العقل وتغيبه.

ترتفع نسبة الانسحاب إلى درجة تحطيم الذات، وفي هذا إشارة إلى أن من يفقد صلته بدائرة الفعل، ومنطقة التفاعل مع الحياة، يعني أنه دخل حالة العدم حتى بالنسبة لذاته. تشير سمارة، في معرض وصفها لشخصيات العوامة، إلى أنيس بأنه نصف مجنون أو نصف ميت، نجح في أن ينسى تماما ما يهرب منه، نسي نفسه. وفي هذا التوصيف مفارقة للحياة بالدخول إلى منطقة الموت: «هل أخبرتها بأن الذي يجمعنا هو الموت». وفي هذا تشخيص بليغ لنماذج السلبية وموقفه منها، وإذا كان الإنسان السوي يحول غريزة الحياة إلى معنى، فإن أنيس تجمـدت الحياة أو تدنت عنده إلى مستوى الغريزة العمياء دون معنى محدد.

وفي هذا يصل محفوظ إلى درجة عالية في التعامل مع حالة الانسحاب في إطار فكري يتجلى في ذلك الحوار المحتشد بتساؤلات تنطلق من هذا الوسط المتهشم، تساؤلات ترتفع إلى مستويات فكرية عالية. وتطل تعليقات نافذة يطلقها أنيس وهو يغوص في أعماق التاريخ من خلال تهويماته، فيها رفع للستار وكشف عميق الدلالة على حالة من حالات المجتمع، وإدانة لمناطق الاختلال، فالشخصية السلبية في الرواية تقدم دلالة إيجابية تتجاوز الحالة الفردية التي تبدو فيها لتشخص الأدواء الاجتماعية، فكان في هذا الانسحاب إشارة إلى ما تم من تحطيم لقيم العقل وإيجابيته واستقامته.

لقد غدا تصوير السلبية والانسحاب كشفا للنقص المستشري في المجتمع، وتوغلا في مناقشته مناقشة تعتمد بعدًا فكريا ترتفع به إلى منطقة الجــدل الفكري والتساؤلات الكبرى. ويكون نجيب محفوظ بهذا التوجه قد طور الرؤية لهذه النماذج ونماها في دائرة إبداعه إلى حد مدهش مثير للعجب مؤثر وترتفع مقولة الرواية بوصف دال لمجلس هؤلاء في عوامتهم : « ووشى المجلس بعدم التهم التاريـخ والمستقبل، وقال لنفسه إنه الصفر، لا ناقص ولا زائد ولكنه الصفر معجزة المعجزات..».

التكية = تمام الانفصال

ركز نجيب محفوظ، مبكرا، على ثيمة الابتعاد والانفصال من خلال الجذب الديني، رأى في عالم الروحانيات عالما مجاورا يلجأ إليه من أدار للحياة ظهره ابتعادًا اضطراريًا أو اختيارًا نفسيًا أو تفلسفًا. قدم ابتداء شخصية درويش، في زقاق المدق، فبدأت معه ملامح الانسحاب بثيمة الدروشة أو حب آل البيت، فكان حاضرا غائبا في الوقت نفسه. كان الشيخ درويش مدرسا ناجحا للغة الإنجليزية، ولكن التنظيمات الإدارية تدخلت لتحيله كاتبا في الأوقاف، ونزلت مرتبته، وبعد أن ثار وشكا دون جدوى استسلم للقنوط وقطع صلته بالهيئة الاجتماعية التي كان واحدا منها. هجر أهله وإخوانه ومعارفه إلى دنيا الله، ولم يستبق من آثار الماضي جميعًا إلا نظارته الذهبية، «عاش ذاهلا إلا من التعليقات التي يعلق فيها على الأحداث مستخدما اللغة والمصطلحات الإنجليزية. قال عنه الناس: إنه ولي من أولياء الله الصالحين، يأتيه الوحي باللغتين العربية والإنجليزية».

وتتطور هذه الثيمة لتلامس البعد الصوفي، فهذا زميل عيسى الدباغ - في «السمان والخريف» - يستبدل بالنضال كتب التصوف، أما الجنيدي، في رواية «اللص والكلاب» فبابه مفتوح وشخصيته تجيب عن الأسئلة الساخنة التي يطلقها سعيد مهران بأسئلة أخرى أو أجوبة غامضة، وشاهدنا غياب الحمزاوي الأخير مع أناشيد الغياب الصوفي.

هذا التوجه يشير إلى أن ثمة عالما آخر ينفصل ويغادر حركة الحياة، غير مكترث بها. وهذا ما استخدمه نجيب محفوظ في رواية «ملحمة الحرافيش»، حين قدم التكية بعالمها المنفصل الذي انفكت علاقته بما حوله، مشكلا معادلة بين الحارة والتكية، الحارة بكل آلامها ومعاناتها وأحداثها، تقف وحيدة بينما التكية منفصلة انفصالا كليًا تطلق أناشيدها الغامضة التي تأتي بلغة أخرى، الفارسية، للدلالة التامة على أنها انسحبت حتى من منطقة الفهم المباشر أو التواصل اللغوي الأولِي، ففي عز انتشار الوباء، والناس يذهبون ويجيئون وليس هناك إلا الحناجر التي تشدو بالأناشيد الغامضة. ولم تكن ثمة صلة مباشرة بين هذين العالمين إلا أن شخصيات الحارة الرئيسية تأتي ساحة التكية لتسمع الأناشيد فقط، وقد تدنى وانحسر فعل الذين كانوا في التكية إلى حد غيابهم التام فلم يرد ذكرهم في الرواية إلا لمحات وإشارات تَرِد في ثنايا أو ختام الحكايات العشر. ولعل أبرز المواقف منها تلك التي تشير إلى ابتعادها عن الحارة، فهذا فتح الباب، بطل الحكاية التاسعة، يتساءل، حين يحيط العذاب بالحياة، وانتشرت المجاعة، يعلق بأنهم في التكية ما زالوا ينشدون: « ألا يجدر بهم أن يجودوا على الناس ببعض ما عندهم ؟ وعندهم التوت والأرض المزروعة بالخضر. وينطق عاشور الثاني بأصرح العبارات في الرواية كلها حول دور وواجب أهل التكية حين يصغي إلى رقصات الأناشيد: ألا يبالي رجال الله بما يقع لخلق الله؟ متى إذن يفتحون الباب أو يهدمون الأسوار؟ يريد أن يسألهم لماذا ارتكب فائز جرائمه. حتى متى تشقى حارتنا وتمتهن؟ لِمَ ينعم الأنانيون والمجرمون؟ لِمَ يجهض الطيبون والمحبون؟ لِمَ يغط في النوم الحرافيش؟..».

لا إجابة إلا بالأناشيد !!

لا شك أن وجود التكية في الحارة وطبيعتها، يدلان على أن ثمة عالمين متجاورين ولكن لا رابط بينهما، انقطعت سلسلة الاتصال بين عالم محلق سماوي المنزع وآخر أرضي التوجه يعاني شظف العيش وقسوة الحياة وتقلبات البشر ارتفاعًا وسقوطًا، خيرًا وشرًا. لم يعد للتكية بدلالتها الرمزية أي فعل مؤثر أو مباشر. لم ينفتح الباب لأحد، وإن كان هناك من أمل فهو مرهون بحلم مستقبلي بأن تنفتح التكية على الحارة، كما تجلى في رؤية بطل الحكاية الأخيرة الذي انتفض ناهضا ثملا بالإلهام والقدرة، فقال له قلبه: «لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة».

إن العبارة معلقة بـ «قد ينفتح»، ولكن متى؟


سليمان الشطي