سينما محفوظ من جفاف الوقائع.. إلى نهر الواقعية

سينما محفوظ من جفاف الوقائع.. إلى نهر الواقعية

يحتل نجيب محفوظ مكانًا مرموقًا ومكانة رفيعة في السينما تكاد تعادل مكانه ومكانته في عالم الأدب، فقد استطاع من خلال كتابته المباشرة للسينما وعبر خمسة عشر عامًا تقريبًا، أن يغير وجه السينما المصرية وينحو بها نحو الرصانة والجدية. ويفتح الطريق أمام دروب جديدة في الكتابة السينمائية منذ أن كتب أول سيناريو «مغامرات عنتر وعبلة» عام 1945 وحتى توقف تقريبًا عام 1959 حين تولى مسئولية الرقابة على المصنفات الفنية وهو العام ذاته الذي فطن فيه صناع السينما إلى إبداعاته الأدبية وكانت البداية مع «بداية ونهاية» (1959) والتي استمرت حتى الآن.

كان الواقع ملهمه الأصيل ومنهله الأول يقرأه بوعي ويستلهمه بحصافة ويقدم من خلاله رؤيته - الصائبة دائمًا - لذلك الواقع راصدًا ومفسرًا ومحللاً للظروف التي ساهمت في تشكيل الواقع في صياغة فنية ودرامية محكمة. كانت صفحات الحوادث أحد المصادر الرئيسية لقصص وسيناريوهات نجيب محفوظ، فهي مؤشر صادق إلى حد كبير، للواقع الاجتماعي والاقتصادي، فالجريمة عادة لها دوافعها والمجرم لديه أسبابه ونوازعه، وربما كانت «اللص والكلاب» في أدب نجيب محفوظ هي الأشهر في هذا المجال التي انتقلت إلى السينما مرتين بعد ذلك، أولاهما بالاسم نفسه وأخرجها كمال الشيخ والمعالجة الثانية باسم «ليل وخونة»، إخراج أشرف فهمي - وقد جاءت شهرتها من كونها عن حادثة حقيقية نشرتها الصحف في الفترة من مارس إلى أبريل عام 1960 عن قصة محمود أمين سليمان الذي لقبته الصحافة بالسفاح لارتكابه عدة جرائم قتل انتقامًا من شركائه السابقين.

ربما كانت «اللص والكلاب» أولى تجاربه الأدبية المستمدة من صفحات الحوادث وإن سبقتها أعمال عدة في عالم السينما عن المصدر نفسه مثل «ريا وسكينة» و«الوحش» و«الفتوة» و«احنا التلامذة».. فكلها عن وقائع حقيقية اتخذ محفوظ من خطوطها العريضة والتي حدثت بالفعل، هيكلا خارجيا للعمل السينمائي، وأضاف إليه دلالاتها العامة التي تنبثق عن أرض الواقع الذي أنبتها. ثلاثة أفلام من بين الأفلام الأربعة المعدّة عن وقائع حقيقية من إخراج صلاح أبو سيف الذي علّم محفوظ - كما يروي نجيب محفوظ - علمه الكتابة للسينما وكونا معا ثنائيا مرموقا، أضاف للسينما المصرية الكثير ورسخا أهم تيار في تاريخها وهو تيار الواقعية، عبر العديد من تجاربهما معاً.. ولكل منهما فضل على الآخر فإذا كان صلاح أبو سيف قد علم نجيب محفوظ الصنعة، فإن نجيب كما يقول هاشم النحاس قد منح أبو سيف الشخصية، فقد كان نجيب محفوظ هو الجانب الأدبي من صلاح أبو سيف الذي ينقصه لتكتمل به شخصيته الفنية.

ريا وسكينة

كان فيلم «ريا وسكينة» أول تجربة من نوعها في تاريخ السينما المصرية كما يقول عنها سعد الدين توفيق في كتابه «صلاح أبو سيف فنان الشعب»، فقد عالج الفيلم وقائع قضية الأختين السفاحتين «ريا وسكينة» التي حدثت في الإسكندرية وتابعتها الصحف عام 1922، حيث كانتا تستدرجان السيدات الثريات إلى بيتهما، ويقتلاهن ويستوليان على حليهن ونقودهن.

تسلم محفوظ ملفًا كاملاً عن وقائع وملابسات القضية كما وردت في الصحف، كتبه الصحفي لطفي عثمان، ثم خلق منها عملا دراميًا متكاملاً.. فجعل من ضابط المباحث المكلف بالقضية، بطلاً رئيسيًا وجعله ينتحل شخصية رجل بائس استطاع من خلالها الانضمام إلى العصابة، لينجح بعد عديد من المغامرات في القبض على أفرادها ويريح المجتمع من شرورها. وإذ كان الفيلم يدور في عالم الجريمة، وهي ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى تفسير وتحليل، فإن محفوظ، وأبو سيف معًا لم يقدما بشكل كاف الأسباب والدوافع التي دفعت بالمجرمتين إلى سلوك هذا الطريق والقتل بأعصاب باردة.. واكتفيا بتقديمهما كأداتي قتل من دون توضيح الظروف والملابسات التي أدت بهما إلى ذلك، وإن برع أبو سيف ومحفوظ بالرغم من ذلك في تقديم البيئة التي دارت فيها الأحداث في الإسكندرية،، وحولا الوقائع الجافة الصماء.. إلى إيقاع حي متدفق مازال يحظى بتقدير الجماهير حتى الآن.

الوحش

بعد عام واحد (1954) في فيلم «الوحش» تعلم محفوظ الدرس، ومعه أبو سيف بعد أن عاتبهما النقاد على تجاهل الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي دفعت ريا وسكينة إلى عالم الجريمة، وعن قضية شهيرة أيضًا، استلهما أحداث فيلمهما «الوحش» الذي عرض عام (1954). تناول محفوظ كاتبًا للقصة السينمائية لأول مرة وكاتبًا للسيناريو مع أبو سيف، قضية المجرم الشهير «الخط» الذي روع الأهالي وأرهق الشرطة في منطقة الصعيد. كانت جرائم الخط قد اتخذت من منطقة أسيوط في الصعيد الأوسط بمصر مسرحًا لها وشغلت الرأي العام في أوائل الخمسينيات وخاصة متابعتهم للفشل المتكرر لرجال الشرطة ومحاولاتهم البائسة العقيمة للإيقاع به والقبض عليه. اعتمد السيناريو كالعادة اعتمادًا أساسيًا على الخطوط الرئيسية للوقائع الحقيقية، مع دراسة واقعية لعدد من النماذج الإجرامية التي كانت سائدة في تلك الفترة، واستطاع محفوظ وأبوسيف أن يستخلصا من بين عشرات الوثائق والوقائع بناء دراميًا قويًا ومتماسكًا يقوم على تحليل الواقع تحليلاً علميًا وموضوعيًا ودراسة الأسباب الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والظروف السياسية، وتداخل تلك العوامل وتشابكها وإفرازها لظاهرة «المجرم» الذي يحتمي بالسلطة ويحمي مصالحها، وعن تلك السلطة أو النظام الذي يحتاج إلى مثل هذا النوع من المجرمين ويلعب دور اليد الباطشة التي تروع الأهالي وتزرع في نفوسهم الخوف والرعب وتحيل حياتهم إلى جحيم يشغلهم ويؤجل تفكيرهم في رفض النظام الظالم.. المتوحش الذي يحكمهم ويتحكم فيهم.

يتناول الفيلم قصة إقطاعي ثري، يحكم قريته ويحكم قبضته عليها عن طريق حفنة من المجرمين يقطعون الطرق ويحرقون المحاصيل ويقتلون من يقف في طريق مصالحهم، وكان عبدالصبور - الملقب بالوحش أو كما أسمته الصحف، خط الصعيد هو أداة الباشا في قهر الفلاحين وإرهابهم إلى أن ينجح ضابط شاب في الإيقاع بالوحش الذي يتخلى عنه سيده الإقطاعي.

نجح نجيب محفوظ في صياغة المادة المتاحة وحلّق بموهبته ليجعل من دراما الفيلم وثيقة تكشف عن طبيعة العلاقات بين الطبقات في مجتمع ما قبل الثورة، أو أي مجتمع آخر يعاني التفاوت الطبقي الذي يحمل في داخله تناقضات وصراعات، برع محفوظ في تحويلها إلى شخصيات وأحداث يفسر ويحلل من خلالها ذلك الخلل الكامن في تلك العلاقات ويؤكد من خلال نهاية الباشا ومصرعه والقبض على الوحش أن ذلك لا يعني زوال النظام الذي أفرزهما وأن الأمن والاستقرار الحقيقي لن يتأتى إلا بعد تقويض ذلك النظام الفاسد.

الفتوة

في عام (1957) ينشغل محفوظ، وأبو سيف بحادثة أخرى شغلت أذهان الناس وقتًا طويلاً، فقد نشرت الصحف تفاصيل قضية مزرعة الجبل الأصفر وهي قضية زيدان الذي كان يلقب بملك سوق الخضار، كان زيدان يتحكم في السوق كيف يشاء ويتلاعب بأسعار الخضر والفواكه دون أن يجرؤ أحد على التصدي له، وتواترت أنباء تؤكد أن الملك السابق فاروق وحاشيته كانت وراء الرجل الذي يسيطر على غذاء الناس، كما تردد أيضًا أن الملك أمر بقتله في النهاية.

يواصل محفوظ في «الفتوة» الذي شارك في صياغته دراميًا مع أبو سيف والسيد بدير عن قصة كتبها محمود صبحي - ما بدأه كامل التلمساني في «السوق السوداء» (1945) من مناقشة قوانين السوق ويحلل البناء الداخلي للمجتمع الرأسمالي ببساطة وعمق ويكشف - مرة أخرى - عن تواطؤ التجار المستغلين مع الطبقة الحاكمة لاستنزاف الجماهير والثراء غير المشروع من المتاجرة بأقوات الشعب، يؤكد مرة بعد مرة، وهذه هي لمسات نجيب محفوظ الواضحة في «الوحش» ثم في «الفتوة» أن النظام الفاسد السائد هو الذي يفرز هذه النماذج الشرهة وأنه من المستحيل تغييرها دون تغيير النظام نفسه، ونهاية الفيلم الدائرية التي تفتح القوس مرة أخرى للوافد الجديد إلى السوق هذه النهاية تعني استمرار ذات العلاقات. وهي النهاية الدائرية نفسها في «الوحش» التي تعني أنه لا أمان ولا استقرار إلا بتغيير النظام. «الفتوة» بقوة شخصياته وبنائه المحكم وتفاصيله الصغيرة، وقوة ونفاذ بصيرته، ومنهجه العلمي في تحليل الواقع، ويؤكد أن محفوظ كان يتابع مع أبو سيف رحلته في تعرية نظام ما قبل الثورة ونقده، لذلك النظام الذي لا تتحقق فيه العدالة الاجتماعية وينعدم فيه تكافؤ الفرص وتهدد داخله آدمية الإنسان مرتكزاً على وقائع حقيقية وحوادث فعلية. لم تكن «ريا وسكينة» وعبدالصبور «الوحش» وأبو زيد وهريدي «الفتوة» سوى حلقات متتابعة في مسلسل الفساد تفضح النظام وتؤكد سقوطه وإن جاء الفيلم الرابع «احنا التلامذة» مختلفًا في القضية والتناول.

احنا التلامذة

عامان يفصلان بين «الفتوة» و«احنا التلامذة» كما أن الأخير كان العمل الثالث لمحفوظ مع المخرج عاطف سالم بعد فيلمي «جعلوني مجرمًا» (1954).. «النمرود» (1956).. وخلافًا لفيلمي عاطف سالم واتفاقًا مع أفلام أبوسيف الثلاثة فإن قصة فيلم «احنا التلامذة» مستوحاة من حادثة حقيقية أثارت أيضًا انتباه الرأي العام في نهاية الخمسينيات واتهم فيها الممثل سامي سرحان - حين كان شابًا - وهو شقيق الفنانين شكري سرحان وصلاح سرحان. يأتي «احنا التلامذة» حاملاً رؤية ناضجة للواقع، فجريمة القتل التي ارتكبها الشبان الثلاثة لم تأت من فراغ وإنما دفعتهم ظروفهم إلى الانحراف، فقد تورطوا في عملية إجهاض لخادمة اعتدى أحدهم عليها، وكان لزامًا عليهم توفير المال اللازم لإجراء العملية فيقومون بالسطو على أحد البارات ويضطرون إلى ارتكاب جريمة القتل في الوقت الذي تموت فيه الفتاة بسبب العملية وتتم محاكمتهم وإلقاؤهم في السجن.قصة معتادة في صفحات الحوادث لكن محفوظ قام - كعادته - بتحليل الواقع الذي أفرز هذه النماذج المشوهة ورد مشكلات الشبان الثلاثة إلى ظروفهم الاجتماعية السيئة، ورسم شخصياتهم بحيث جاءت تعبيرًا صادقًا عن دواخلهم وتجسيدًا للواقع الخارجي الذي دفع بهم إلى هذه الهوة السحيقة. التقط محفوظ - بحسه الفريد المرهف - المألوف والسائد من صفحات الحوادث بالجرائد ليعبر من خلالها عن رأيه، ورؤيته وموقفه من الواقع.. ويثري بها - الاتجاه الوليد (الواقعية) في السينما، الذي أسس له ودشنه وكرسه كاتجاه أصيل للسينما المصرية منذ أن بدأت علاقته بها عام 1945.

علي أبو شادي 





 





نور الشريف وماجدة في فيلم «السراب» المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ