الحلقة الذهبية في إبداعه

الحلقة الذهبية في إبداعه

برحيل نجيب محفوظ، تكتمل حلقات إبداعه، ومن بين هذه الحلقات تتألق حلقة ذهبية وسيطة، هي الحلقة التي يسمّيها البعض «مرحلة ما بعد الواقعية»، ويسمّيها البعض «المرحلة الرمزية»، وأوثر أن أسميها «مرحلة تيار الوعي».

تضم هذه المرحلة رواياته «اللص والكلاب» و«السمان والخريف»، و«الشحاذ»، و«الطريق»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«ميرامار».

وثمة فروق أساسية ينص عليها «روبرت همفري» صاحب كتاب «تيار الوعي في الرواية الحديثة»، وأحد المنظرين الأساسيين لهذا الأسلوب في الأدب الإنجليزي، وقد قمت بترجمة هذا الكتاب في مرحلة مبكرة تعود إلى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، بين الرواية «الواقعية»، ورواية «تيار الوعي»، وكذلك بين الرواية «النفسية»، ورواية «تيار الوعي»، وطبقًا لتلك الفروق، التي قررها، يُخرِج من كتاب هذا الاتجاه روائيين أمثال مارسيل بروست، وهنري جيمس، وفيرجينيا وولف، ووليم فوكلر، والمنطقة التي يركز كاتب «تيار الوعي» على إبرازها في دائرة الوعي البشري - طبقًا لهمفري - هي منطقة ما قبل الكلام، التي تبدأ من أقدم شيء تعيه الذاكرة، وتنتهي بالاتصال اللغوي بالآخرين، وهدف ذلك كله الكشف عن صورة الشخصية الروائية من الداخل. وهذه المنطقة من الوعي البشري حافلة بالذكريات، وألوان المشاعر والأفكار، وكذلك بالتخيلات والأوهام، التي يخرجها الروائي إلى حيز الوجود، معتمدًا على قانون التداعي، ومستخدمًا الرموز والانطباعات والصور، وموظفًا «حديث النفس»، و«المناجاة»، و«المونولوج»، بل و«الهواجس».

وليس معنى قولي إن روايات نجيب محفوظ الست، التي أشرت إليها من روايات «تيار الوعي» أن روايات أخرى له - من مراحل متعددة - خلت من هذا الأسلوب، فمن منا - مثلاً - لا يذكر «هواجس أمينة» في «الثلاثية» أو حديث النفس عند «حسنين» في «بداية ونهاية»؟ والواقع أن البعد الشعوري الصامت في أي شخصية - وإن عولجت بأسلوب واقعي - لا يمكن تجاهله، ولا يتصور أن تتحرك الشخصية الواقعية في المكان والزمان على نحو آلي، إنها تلوّن المكان إذ يلونها المكان، وتلوّن الزمان إذ يلونها الزمان، وهذا هو الذي يبقيها إنسانية، أي مادية روحية، وذلك أمر لا يتحقق إلا عن طريق التعويل على العالم الداخلي لها، فتتحقق لها الأبعاد الواقعية، كما تتحقق لها الأبعاد الرمزية الإشارية، وتؤدي وظيفتها الفاعلة بهذين البعدين. لكن هذه الاعتبارات البديهية شيء، وجعل ارتياد العالم الداخلي للشخصية هو الأسلوب الأساسي، والهدف الأكبر، شيء آخر، فمن شأن هذا الأسلوب أن يحقق فروقًا جوهرية بينه وبين غيره في نقاط البدء، ونقاط الختام، وفي اختيار عدد الشخصيات، وفي التكثيف اللغوي، والتصوير الإيحائي الشاعري الذي يجعل رواية «تيار الوعي» أقرب إلى العمل الشعري الرمزي منه إلى التصوير الأدبي الواقعي. ونظرة إلى عنصر واحد هو عنصر اللغة بين رواية واقعية محفوظية كرواية «بين القصرين» وأخرى كرواية «اللص والكلاب» تقنعنا بذلك. أين تلك العبارة اللغوية الواقعية التي تعادل الموضوع الموصوف - وهو تناول السيد أحمد عبدالجواد فطوره - في إيقاع ممتد تحشد فيه للجملة كل المكملات، مما يجعلها منبسطة متداخلة مضفورة بالتقديم والتأخير، والعطف، بشتى الحروف، والجمل الحالية والمعترضة والاستثنائية، وذلك حتى تصل إلى غايتها متكاملة، مستريحة، تجعل الواقع ينهض أمام القارئ في إيهام مريح - أين تلك العبارة من عبارة «اللص والكلاب» اللغوية، التي تقوم على وضع الصورة مكان الواقع، وذلك عن طريق الجملة المختزلة إلى أدنى أركانها، الجملة المكثفة المركزة، المجازية الشعرية، التي لا تصف بقدر ما توحي ولا تفصّل بقدر ما تجمل، ولا تفصح بقدر ما ترمز! لنقرأ من «بين القصرين» تلك الجملة الواحدة الفريدة:

«ومع أن السيد كان يلتهم طعامه في وفرة وعجلة، وكأن فكّيه شطرا آلة قاطعة تعمل في سرعة وبلا توقف، ومع أنه كان يجمع في لقمة كبيرة واحدة من شتى الألوان المقدمة - الفول والبيض والجبن والفلفل والليمون المخللين - ثم يأخذ في طحنها بقوة وسرعة، وأصابعه تعد اللقمة التالية، إلا أنهم كانوا يأكلون متمهلين في أناة، بالرغم مما يحملهم تمهلهم من صبر لا يتفق وطبيعهم الحامية، فلم يكن ليغيب عن أحدهم ما قد يتعرض له من ملاحظة شديدة، أو نظرة قاسية، إذا تهاون وضعف فنسي نفسه، وغفل بالتالي عمّا يأخذها به من التأني والأدب».

ولنقرأ من «اللص والكلاب» تلك الجمل المقطرة المكثفة، التي تكاد الكلمات فيها تقف على رءوسها، وتكتسب من فرط تكثيفها إيقاعا يشبه الفواصل الشعرية: «ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر، وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر، وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر، ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها! لاشيء كالطريق والحارة والجو المنصهر».

ولنلاحظ أن هذا كله من حديث النفس الصامت الذي يتدفق في وعي سعيد مهران دون كلمة واحدة «صائنة»!

بطل وحيد في المركز

أدار نجيب محفوظ كل رواية من روايات تلك الحلقة الذهبية المشار إليها على بطل واحد، جاعلاً كل الشخصيات الأخرى تدور في فلكه: سعيد مهران في «اللص والكلاب»، وعيسى الدباغ في «السمان والخريف»، وعمر الحمزاوي في «الشحاذ»، وصابر الرحيمي في «الطريق»، وأنيس زكي في «ثرثرة فوق النيل»، وزهرة في «ميرامار»، وبذلك الاقتصار على بطل واحد فرد هيأ لنفسه الفرصة لكي يفحص ما بداخله على مهل، ويعيد تركيب عالمه على نحو يبقيه في ذهن القارئ، ويكسبه نوعًا من الهيمنة والاستقرار، فيحقق بذلك شهرة في حاضر الرواية المحفوظية تنافس شهرة شخصياته الواقعية لا يستثنى من ذلك سوى شخصية السيدأحمد عبدالجواد، بل إنها لتتطلع إلى مجاراة شخصيات عالمية عولجت في الأسلوب ذاته كشخصية ستيفن «ديوالوس» و«مستر بلوم» و«مولي بلوم» في رواية «جويس» الخالدة «يولييس».

في رواية «اللص والكلاب» يفيض وعي سعيد مهران، ضاربًا في أعماق الماضي، ومتلقيًا معطيات الحاضر، وناسجًا توقعات المستقبل وخيالاته، كل ذلك في رؤية واحدة تتزامن عناصرها، متجمعة في بؤرة واحدة تتساقط أشعتها على وعيه في «شريط» متصل. وهو يصل إلى قمة الفيض الشعوري، الذي تتداعى فيه على ذهنه المعاني، في المنظر الذي يمشي فيه وحيدًا خارجًا من فيللا رءوف علوان، لقد انهار في نفسه نموذج الأستاذ وتحطم المثال، فوضع ذلك وعيه في نقطة تحوّل لن تعود بعدها الأمور إلى الحال التي كانت عليه قبلها (والنص برمته من حديث النفس الصامت وعلامات الترقيم مهملة عمدًا ليفيض تيار الوعي بعضه في بعض دون حواجز):

«هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية: جثة عفنة لا يواريها تراب أما الآخر فقد مضى كأمس أو كأول أمس أو كأول يوم في التاريخ أو كحب نبوية أو كولاء عليش أنت لا تخدع بالمظاهر فالكلام الطيب مكر والابتسامة شفة تتقلص والجود حركة دفاع من أنامل اليد ولولا الحياء ما إذن لك بتجاوز العتبة. تخلقني ثم ترتد تغير بكل بساطة فكرك بعد أن تجسد في شخص.. خيانة لئيمة لو اندك عليها المقطم دكًا ما شُفيت نفسي، أود أن أنفذ إلى ذاتك ما نفذت إلى بيت التحف والمرايا بيتك ولكني لن أجد إلا الخيانة. سأجد نبوية في ثياب رءوف أو رءوف في ثياب نبوية أو عليش سدرة مكانهم وستعترف لي الخيانة بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض!».

وفي «ليلة التحول العظيم» كما يسميها نجيب محفوظ، وفي حد فاصل بين الضياء والظلمة، وفي بيئة صحراوية «رمادية» مجهولة الملامح، يفيض وعي عمر الحمزاوي في رواية «الشحاذ»، مسلطًا أضواءه الكاشفة على الصور المتراكبة المتزامنة للماضي والحاضر والمستقبل، حتى تتألق تلك الصور وتصهر في صورة واحدة فعالة تعبّر بوعيه إلى «الكشف الأكبر»، وتدفع به إلى ما وراء خط الرجعة. هنا تؤدي صفحة واحدة في دفعة واحدة على الورق، ما لا تؤديه الصفحات الطوال، مما يسمى بوصف الواقع، أو المعلومات، التي يمدنا بها «المؤلف العليم» في الرواية التقليدية: «ثم أوقف السيارة في جانب من الطريق المقفر وغادرها إلى ظلمة شاملة ظلمة غريبة كثيفة بلا ضوء إنساني واحد لا يذكر أنه رأى منظرًا مثل هذا من قبل فقد اختفت الأرض والفراغ ووقف هو مفقودًا تمامًا في السواد، وقال شيء إنه لا ألم بلا سبب وإن اللحظة الفاتنة الخاطفة يمكن أن تمتد في مكان ما إلى الأبد وأطال وأمعن النظر وثمة تغيّر جذب البصر رق الظلام وانبثت فيه شفافية وتكون خط في بطء شديد ومضى ينضح بلون وضيء عجيب كسر أو عبير ثم تأكّد فانبعث دفقات من البهجة والضياء والنعسان، وفجأة رقص القلب بفرحة ثملة واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه وشد البصر إلى أفراح الضياء يكاد ينتزع من محاجره وارتفع رأسه بقوة تبشر بأنه لن ينثني وشملته سعادة غامرة جنونية آسرة وطرب رقصت له الكائنات في أربعة أركان المعمورة وكل جارحة رَنّمت وكل حاسة سكرت واندفنت المخاوف والمتاعب وأظله يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة وملأته ثقة لا عهد له بها وعدته بتحقيق أي شيء يريد ولكن ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب لا شيء لا أسأل صحة ولا سلامًا، ولا أمانًا ولا عمرًا ولتأت النهاية في هذه اللحظة فهي أمنية الأماني».

حقًا إن هذه صفحة وصفية يقدم بها المؤلف للشخصية، لكنها هي «المعادل الموضوعي» لتيار الشعور المتدفق في وعي البطل، وهي تشبه البحث بالأشعة في دهاليز الكيان البشري، وتختصر الذاكرة ومعطيات الحواس في لحظة واحدة يحل فيها منطق النفس محل منطق الواقع، فيهيمن جو الكشف الصوفي مزيحًا حسابات المقدمات والنتائج، ولاغيًا فكرة الزمن والمكان التقليدية، وعابرًا بالبطل عن هذا الطريق، طريق الوعي الداخلي الصامت الساكن، لا طريق الواقع الناطق المتحرك، إلى مراتب معرفية، لم يكن له بها عهد من قبل.

للسينما دورها أيضًا

من التقنيات التي استعارتها رواية «تيار الوعي» من فن السينما، واستخدمتها بنجاح منقطع النظير «الارتداد» و«القطع» و«المونتاج» و«التلاشي» وجوانب أخرى معروفة في الحيل السينمائية، وتمثل رواية «الطريق» لنجيب محفوظ نموذجًا لهذا الاستخدام الناجح، فنحن نلاحظ منذ البداية ميل بطلها - صابر الرحيمي - إلى الصمت أكثر من ميله إلى الكلام، وبذلك تصبح الحقيقة الداخلية لا مفردات الواقع هي المرجعية الفاعلة في تطور الحدث الروائي. ويبدأ تيار الوعي في «الفيضان» منذ بدء رحلة البطل في القطار من الإسكندرية إلى القاهرة، ويبلغ ذروة تدفقه حين نراه مستلقيًا على سريره في الفندق الذي سيشهد معظم الأحداث، ووعيه مستثار بما يحيط به من طبيعة المكان، وما يحتوي عليه من أشياء، وما يحركه من خواطر.

«ولما خلا له المكان شمله بنظرة سريعة فتركت في نفسه انطباعًا بالقدم (لاحظ أن كلمة القدم هي مفتاح الماضي، أي الذكريات، التي هي على وشك أن تتدفق طبقًا لقانون التداعي بين عمل الحواس وعمل الذاكرة) السقف العالي والسرير ذو الأعمدة والكونصول وقال إن أباه كان يعجب بهذا المنظر حين أحب أمه وراودته أخيلة جنسية تخللتها أحلام بالعثور على أبيه أما نداء العينين اللوزيتين فعجب كل العجب ولعلها الآن تفكر في أمره وتتساءل ولكن ليس ثمة ما يقطع بأنها هي في زحمة المولد نهرته قائلة لا تقترب مني هكذا فقال متظاهرًا بالكبرياء لم تقلها بنت قبلك فأجابت بكبرياء أشد ولكني أقولها وأعيدها وذهبت في صحبة امرأة شرسة والهواء يلعب بضفيرتيها فأين كان عم خليل أما يوم المطاردة الرائعة وصراع الركن المظلم وشذا القرنفل والهواء المشبع برائحة البحر فكانت نصرًا صريحًا من إدراك أن لهذا الفندق علاقة بعطفة القرشي، وأن هذه الفتاة المثيرة هي البنت القرنفلية».

إن رقعة الوعي الإنساني كما أشرت تمتد عريضة وعميقة، فهي تتغلغل إلى أقدم الذكريات، ولا يعوقها إلا الاصطدام بما هو مطمور في منطقة اللاوعي، وهي تطفو على سطح الذهن، ولا تتوقف إلا بمرحلة الكلام. وفي ناحية أخرى تعج بخليط متوازن من الذكريات، التي ترفدها على نحو دائم معطيات الحواس، التي تأتي إليها من الخارج دون توقف، من المرئيات والمسموعات والمشمومات والملموسات والمذوقات، ثم إن هذا الخليط يتفاعل فيصبح قادرًا على إضافة عنصر ثالث له هو التوقعات، التي هي من عمل الخيال. والمهم أن كل ذلك يحكمه قانون تداعي الحواس في زمن شعوري يمكن أن يقع الماضي فيه بعد الحاضر أو حتى بعد المستقبل، وذلك لأن منطق الشعور الذي حل محل منطق الواقع يسمح بذلك دون عوائق.

قدمت بذلك لأقول إنه في الحالات، التي يعمّق فيها «الوعي» فيصل إلى تخوم «اللاوعي» يكون التعبير عنه مختلطًا، وذلك على نحو ما حدث في رواية «ثرثرة فوق النيل» إذ يرى وعي أنيس زكي - بصفة خاصة - أشبه ما يكون بالهلوسة، لكنها ليست بالقطع هلوسة الكيف - كما قرأ بعض القراء - وإنما هي محاولة غامضة للإمساك بخيط بعيد تختلط فيه أطياف الذكريات بآلام الحاضر ملقية بظلها على لمحات تلوح وتختفي من المستقبل. ودليل ذلك أن أنيس زكي لم يفقد السيطرة على تلك العناصر لحظة واحدة، واستطاع أن ينسق خيوطها ويصنع منها ديباجة فعّالة جعلته شخصية ديناميكية من الناحية الفنية - وإن أمكن أن يقال ما يقال من نواح أخرى - وضمنت له أن يكون عصب الرواية الحساس.

«وأخرج من الدرج محبرة وراح يملأ القلم عليه أن يعد البيان من جديد وحركة الوارد لا حركة البتة في الحقيقة حركة دائرية حول محور جامد دائرية تتسلى بالعبث حركة دائرية ثمرتها الحتمية الدوار في غيبوبة الدوار تختفي جميع الأشياء الثمينة من بين هذه الأشياء الطب والعلم والقانون والأهل المنسيون في القرية الطيبة والزوجة والابنة الصغيرة تحت غشاء الأرض وكلمات مشتعلة بالحماس دفنت تحت ركام من الثلج ولم يبق في الطريق رجل وأغلقت الأبواب والنوافذ وثار الغبار لوقع سنابك الخيل وصاح المماليك صيحات الفرح في رحلة الرماية وكلما عثروا على آدمي في مرجوش أو في الجمالية أقاموا منه هدفًا لتدريبهم وتضيع الضحايا وسط هتاف الفرح المجنون وتصرخ الثكلى الرحمة يا مملوك فينقض عليها الصائد في يوم اللهو بردت القهوة وتغير مذاقها ومازال المملوك يضحك ملء شدقيه وحل الصداع مكان الخيال ومازال المملوك يضحك وهم يطلقون اللحى ويثيرون الغبار ويفرحون بالأبهة والتعذيب ودب نشاط مرح في الحجرة القاتمة مؤذنًا بوقت الانصراف». لم يبلغ نجيب محفوظ بأسلوب تيار الوعي ما بلغه به جيمس جويس من التشويه المتعمد للغة، ومن تهشيم العبارة على نحو مقصود برفع علامات الترقيم كلية، واستخدام المؤثرات الصوتية الخاصة، بغية الوصول بالأسلوب إلى رسم صورة موضوعية لتدفق الوعي من الذهن البشري، لقد حافظ محفوظ على اللغة المرعية، وإن تصرف فيها تصرفًا جعلها ملائمة لأهدافه، وجنح بها بعيدًا عن اللغة الواقعية، كما اتضح مما اقتبسته في صدر هذا الكلام من «بين القصرين» و«اللص والكلاب»، وقد وصل حرص نجيب محفوظ على عدم التشويه حدا جعله يفصل في «ميرامار» بين السرد والوصف من ناحية، وتيار الوعي من ناحية أخرى بعلامات تنبه القارئ إلى انتهاء أحدهما وبدء الآخر. في تلك الرواية «ميرامار» يستخدم نجيب محفوظ أسلوبًا أثيرًا لدى كتاب تيار الوعي، هو أسلوب القطع، وذلك لتقديم صورة الماضي من خلال قطع التسلسل الكائن في صورة الحاضر، وذلك بهدف المزج بينهما واستخدامهما في الكشف عن صورة الشخصية من شتى جوانبها. هكذا يعود عامر وجدي - مثلاً - عن طريق أسلوب «القطع» من حاضره الميت إلى ماضيه «الحي»:

«وقال مَنْ عيّنه الزمن الهازل رئيسًا للتحرير زمن البلاغة ولى هل عندك عبارة تصلح لراكب طيارة؟راكب طيارة؟ أيها القرة فوز المفعم شحمًا وغباء إنما خلق القلم لأصحاب العقول والأذواق لا للمجانين المعربدين من ضحايا الملاهي والحانات ولكن قضي علينا طوال العمر بالسير في ركاب زملاء جدد في المهنة لقّنوا عملهم في السيرك ثم اجتاحوا الصحافة ليلعبوا دور البهلوانات».

والملاحظ أن كل شخصية من شخصيات تلك الرواية لديها سر هو مفتاحها، وهو سر يكشف عنه في سياق رجع الذكريات الذي يقطع تسلسل الحاضر، ومعنى هذا أنه لولا أسلوب تيار الوعي لبقيت الشخصية هنا دائمًا شخصية ذات بعد واحد هو ذلك البعد الذي ينتمي إلى الحاضر، وهذا لا يمكن أن يجعل منها شخصية ثرية بحال من الأحوال. هكذا الحال مع حسني علام الذي تكمن عقدة حياته في ماض رفضته الفتاة «لأنه غير مثقف والمائة فدان على كف عفريت»، وهكذا الحال مع منصور باهي تلك الشخصية الانطوائية التي يكشف عن سر هذا الانطواء في مجرى الأحداث بالأسلوب ذاته، وهكذا حتى شخصية طلبة مرزوق مع أنه من الشخصيات الثانوية في الرواية بكل تأكيد.

في تلك الحلقة الذهبية ذات الروايات الست من إبداع نجيب محفوظ نطالع إنجاز مرحلة كاملة من مراحل حياته الروائية، فبعد بقائه فترة قصيرة في حمى التاريخ، مما هو معروف، خرج إلى الحاضر فكانت رواياته الواقعية التي رسّخت مكانته الأدبية - مما هو معروف أيضًا - ثم كانت الحلقة الثالثة هي تلك المرحلة التي تجاوز فيها الواقع وأمعن في بناء عالم روائي قائم على المضي بعيدًا في استكناه مكنونات النفس البشرية وإبداع معادل محسوس هو تلك الأعمال الأدبية لعالم يقع خارج نطاق الحواس. هنا تتخلق الرموز الأدبية لتحل محل الوقائع المادية، وإنها لتكون أقوى في التعبير عن الحقيقة بأبعادها المتكاملة التي لا يمثل فيها واقع الأشياء الملموسة - عند التحقيق - سوى ما تمثله «قمة جبل الثلج» بالقياس إلى الكتلة الحقيقية لهذا الجبل، وهي كتلة راقدة بحجمها الهائل تحت الأعماق. لكأن هذه المرحلة تعيد طرح السؤال في طريق الباحث عن الحقيقة فأين تكمن الحقيقة؟ هل تكمن في عالم الأشياء - الخان والزقاق والمقهى والمشربية وما أشبه - وما يخلعه المكان بكل مفرداته على سلوك الناس؟ أو تكمن في دورة الزمن وحتمية الحياة والموت مما بدا جليًا في رواية الأجيال (الثلاثية)؟ أو تراها تكمن في شيء خفي سحري يقبع دخل الوعي البشري الذي يستوعب ما كان وما هو كائن وما يمكن أن يكون كما بدا في روايات تلك الحلقة الذهبية؟ أيًا ما كان الأمر فقد دل تحرك محفوظ من الواقعية إلى الرمزية على أن الثانية مرحلة تالية للأولى في الدلالة على حكمة الروائي ونضج أدواته، وليست نكوصًا إلى حالة أقل نضجًا بحال من الأحوال. وقد فتح الرمز في تلك الروايات الباب واسعًا في تفسيرها فأتحفنا النقاد بأوجه من التفسير لا نهاية لها، وهذا كله حسن، لكن الشطط في التفسير لا يوازيه في إضراره بمعنى الفن سوى «أحادية» هذا التفسير، والذين اختاروا الوجه السياسي أو العقائدي فحسب، واعتمدوه تفسيرًا لبعض تلك الروايات أوجميعها أضروا بها من حيث إنهم حولوها من «نص مفتوح» إلى نص «مغلق».

وإذا كان النص الرمزي حمّال أوجه، فلا أقل من أن نبقي تلك الأوجه في منطقة الاحتمال لا منطقة القطع، وأعترف بأنه لم يقنعني أحد بعد على كثرة ما قيل بأن زهرة مثلاً في «ميرامار» هي رمز مصر لا محالة، أو أن السمان والخريف هي شهادة نجيب محفوظ على ثورة يوليو لا محالة، أو أن صابر سيد سيد الرحيمي يبحث عن الله لا محالة. لكنني أقول - والحسرة تملأ قلبي - إنه مهما كان من ضرر تلك التفاسير الأحادية فإنها هيّنة بالقياس إلى ضرر فظيع لحق محفوظ بسبب رواية أخرى ليست من روايات تلك الحلقة، هي «أولاد حارتنا». لقد دفع التفسير الأحادي لتلك الرواية شابًا اعترف بأنه لم يقرأها إلى استخدام السكين متوهمًا أنه يدافع بذلك عن الدين!


محمود الربيعي 




تطور ابداع نجيب محفوظ ليكون حلقة ذهبية متصلة