إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

إحياء الدولة الفاطمية!

كان ذلك قبل عشرين عامًا تقريبًا من اليوم، وعندما تلقّينا أنا والدكتور سهيل إدريس صاحب مجلة الآداب دعوة لزيارة الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى. قال لي سهيل إدريس إنه سيسبقني إلى طرابلس لإنجاز بعض الأعمال قبل الندوة الأدبية التي دعانا إليها شيخ الأدباء الليبيين الدكتور خليفة التليسي. كانت الساعة الثانية بعد الظهر عندما وصلت إلى مطار طرابلس، ومنها أخذت سيارة إلى «الفندق الكبير» وهو الفندق الذي سنقيم فيه. طيلة الوقت كنت ألاحظ وأنا في الطريق إلى الفندق، جماعات متفرقة من الناس وبيد البعض أعلام ولافتات مطوية كما لو أن هذه الجماعات عائدة من مظاهرات. وبعض هذه المظاهرات كانت لاتزال «شغّالة» ولو أن أكثر مَن كان يشارك فيها قد تفرّق. وعندما وصلت إلى الفندق وجدت الدكتور سهيل إدريس بانتظاري، فرويت له ما شاهدته على الطريق من المطار إلى الفندق وسألته عن معنى هذا الحراك الجماهيري الذي كان منفضًا للتوّ. قال لي إن المظاهرات عمّت ليبيا اليوم من أقصاها إلى أقصاها.. وعندما سألته عن السبب، قال لي ضاحكًا: كانوا يطالبون بعودة الأسرى الليبيين من السجون الإيطالية. فاستغربت السبب وبدأت أجري بيني وبين نفسي حسابًا لأعرف ما إذا كان لايزال هناك أسرى ليبيون إلى اليوم. الاستعمار الإيطالي لليبيا انتهى مع اندحار دول المحور في الشمال الإفريقي في بداية الأربعينيات من القرن الماضي. وهذا يعني أن نصف قرن على الأقل قد مضى على زوال الاستعمار الإيطالي لليبيا. كشفت لسهيل إدريس ماذا دار في ذهني فعاد إلى الضحك وقال: ولنفترض أنه مازال هناك أسرى ليبيون في السجون الإيطالية وخيّروا بين البقاء في السجن أو العودة إلى ليبيا - القذافي، فماذا يختارون؟

وفي زيارة سابقة لهذه الزيارة إلى «الجماهيرية» وكان معي أيضًا الدكتور سهيل إدريس، قلت له ذات صباح، وكنا «أسرى» الندوات والمحاضرات في الفندق: تعال نتسكع قليلاً في شوارع المدينة، كان الفندق يقع في وسطها، وعندما وصلنا إلى الشوارع الرئيسية، وجدنا الحوانيت كلها، وبلا استثناء مقفلة كما لو أن هناك إضرابًا شلّ المدينة بكاملها. استبعدنا فكرة الإضراب لأنه لا لعب مع نظام القذافي. كان هناك بعض الباعة يفترشون الأرصفة هنا وهناك وكل بضاعتهم شفرات حلاقة وعلكة وما إلى ذلك. قلت: لعل هناك قرارًا بالإقفال في الصباح وبالفتح بعد الظهر. فلنعد بعد الظهر. عدنا بعد الظهر. ثم عدنا في المساء، فتكرر المشهد ذاته، بعدها صادفنا في الندوة أديبًا ليبيًا صديقًا فسألناه عن ظاهرة إقفال الأسواق؟ فتلفت حوله قبل أن يجيبنا همسًا: هذا الإقفال متواصل منذ ستة أو سبعة أشهر. وعندما كنا نستفسر جاءنا الجواب: هم لا يريدون أن تغرق الأسواق الليبية بالبضائع الإمبريالية.

عندها قلت للدكتور سهيل: لقد تفوّق القذافي بهذا التدبير على الحاكم بأمر الله الفاطمي. فإذا كان هذا الأخير أمر مرة بأن يُقفل أصحاب الدكاكين دكاكينهم نهارًا. وبأن يفتحوها ليلا (وقد حصل هذا بالفعل ودام سنوات)، فإن القذافي أقفل الدكاكين ليلاً نهارًا، وهذا الإقفال المستمر منذ سبعة أشهر يمكن أن يستمر سنوات.

أما زيارتي الأخيرة إلى ليبيا، وقد تمت قبل ست سنوات من اليوم، فقد افتقدت فيها سهيل إدريس لأنه كان قد توفي إلى رحمته تعالى في صباح اليوم التالي لوصولي، وأثناء وجودي في صالة الفندق مع بعض الكتّاب الليبيين، لمحت على الطاولة أمامنا جريدة من هذه الجرائد الرثة التي كانت تصدر في ليبيا في ذلك، الزمن اللامعقول. كانت عناوين الصفحة الأولى من الجريدة تتعلق باقتراح العقيد إعادة إحياء الدولة الفاطمية في الشمال الإفريقي. وخلال أيامي الخمسة التي قضيتها في طرابلس كان موضوع إحياء الدولة الفاطمية هو شغل الإعلام الليبي الشاغل. كان موضوع الوحدة العربية قد تجاوزه الزمن، أو تجاوزه العقيد لصالح الوحدة الإفريقية بعد أن أصبح «ملك ملوك إفريقيا». ولعله أحب أن يدخل الوحدة الإفريقية على حصان فاطمي كملك لدولة فاطمية قاعدتها ليبيا، وتشمل أقطار الشمال الإفريقي بعد ذلك. ولعل إقفال أسواق طرابلس، ومعها أسواق بقية المدن الليبية، قد استقاه «العقيد» من خلال مطالعات قديمة له في سيرة الحاكم بأمر الله الفاطمي، فرغب بتجاوز قرار الإقفال نهارًا ليشمل الليل والنهار معًا. أليس في عجائب وغرائب «الحاكم» الأخير ما يشي باطلاعه الوثيق على سيرة «الحاكم» الأول؟

 

جهاد فاضل